الفرمونات (لغة الحوار بين الحشرات)
النمل يتحادث فيما بينه، ليس باستخدام الروائح فقط كما كان يعتقد، بل باصدار الاصوات ايضا
كنَّا نجلس نحتسي الشاي في حديقة خارج القاعة التي تشهد فعاليات المؤتمر العلمي الذي نشارك به؛ والتفتنا – معاً – إلى صف من النمل يسعى حثيثاً تحت أرجلنا
أخذنا العجب، لا من وجود النمل، فهو حشرة واسعة الانتشار، يمكنك أن تلتقي بأي من أنواعه العديدة في أي مكان، وفي أي وقت غير أوقات سكونها وبياتها. ولكن عجبنا جاء من أننا كنا قد سمعنا – منذ ساعات قليلة – بحثاً عن المردود البيئي لأنشطة بعض أنواع النمل؛ إذ كان مؤتمرنا حول البيئة والتنوٌّع الحيوي… وهاهو صف من النمل يمرٌّ تحت مائدتنا، في هذا المكان النظيف الأنيق بأحد الفنادق (عديدة النجوم)، كأنما ليثبت حضوره في المؤتمر
وفي حركة عصبية، مدَّ رفيق الشاي ساقه، وداهم طابور النمل فسحقه تحت قدمه. أصابني الضيق من هذا السلوك لزميل المؤتمر – وهو أعجمي – وحاولت أن ألفت نظره، في غير غلظة، إلي تأثري بما فعل؛ فضحك بدوره، متسائلاً: عجباً.. هل لا زلت تحب النمل بعد كل ما سمعناه عن نشاطه المدمِّر؟
قلت: ليست المسألة حباً أو كرها؛ ولكن هذه الحشرة لا تؤذينا في بلادنا؛ وعلى أي حال، وبصفتك من علماء البيئة، فإن وجودها ضروري لتحقيق التوازن البيئي الذي خلق الله عليه الكون؛ ثم إن لهذه الحشرة صلة عاطفية طيبة بنا نحن المسلمين، فقد ذٌكرت في بعض الآيات في القرآن؛ وثمة سورة كاملة تحمل اسمها
وحاولت أن أترجم له – في لغته – معاني بعض الآيات من سورة النمل
قال: أنا أعرف النبي سليمان، وهذه قصة طريفة حقاً
قلت: هذه ليست مجرد قصة، فهي حقيقة إيمانية، وتاريخية؛ أم تراك لا تؤمن بمعجزات الرسل والأنبياء؟
قال: دعنا لا نختلف حول هذا، ولنكتفي بالتوقف أمام حديث النمل.. أنا لا أحاول أن أشكك، ولكني – فقط – أتسأل: كيف سمع سليمان حديث النملة.. هل سمعها بأذنه؟
ابتسمت، وقد أدركت أنه يحاول أن يجرني إلى فخ؛ ورحت أوضح له أنني أعرف أن المستقر لدينا، منذ زمن طويل، أن النمل يتناقل المعلومات ويحقق الاتصال، عبر وسيلة كيماوية؛ فهو يتبادل إفراز مواد كيماوية هي "الفيرمونات"، ويترجم إحساسه بها – شمَّاً – إلى معلومات. وأظنك تريد، الآن، أن تسألني: كيف تيسر لسليمان أن يستمع إلي حديث بهذه اللغة غير المنطوقة؟!. وأنا أصدقك القول: لقد سألت نفسي ذات السؤال حين قرأت هذه الآيات بعد أن علمت بالحقائق عن حياة وسلوك النمل؛ ولكن ذلك لم ينل من صدق إيماني بالقصة؛ فهي – أولاً – وردت في القرآن؛ ثم إننا نتحدث عن معجزات و خوارق؛ وهذه لها قوانينها الخاصة التي لا تصلح لمواصفاتنا ومقاييسنا البشرية العادية والمحدودة. كانت تلك قناعتي الحقيقية: أن ذلك النبي الكريم – سيدنا سليمان – هيأ الله له قدرات خاصة تمكنه من الإنصات لحديث النمل، ولن يقلل من شأن هذه القدرات، أو يزيدها، إن كانت أصوات النمل ترددات مسموعة، أو كيماويات لها رائحة متميزة متغيرة الدلالات… فنحن لا نعرف كنه هذه القدرات، المتعددة، التي كانت تجعله يفهم حديث الطير، ويبادله الكلام، ويتعامل مع الجان. والقاعدة، أن لا تجزئة للمعجزة، إما أن تقبلها كلها أو ترفضها كلها. وعلي أي حال، فإن الإيمان بالمعجزات التي تحققت بين الرسل والأنبياء ملمح مشترك بين كل الأديان
وانتهى المؤتمر، ونسيت ذلك الحوار؛ حتى وقع في يدي عدد من مجلة "ديسكفر" الأمريكية، صادر في أغسطس/اب من عام 1999، وبه مختصر لحدث علمي هام متصل بالنمل؛ فقد أعلن أحد الباحثين بجامعة الميسيسيبي ممن يعملون في غابات البرازيل أن للنمل وسيلة اتصال أخرى عاجلة، يلجأ إليها في الملمات، ويمكن تشبيهها بالخط الساخن أو صفارة الإنذار… ففي حالات الحرج، وعند الضرورة القصوى، تصدر النملة ترددات صوتية واهنة، ناتجة عن احتكاك أحد أرجلها البطنية بخطوط بارزة علي ظهر النملة، فكأنها تضرب على أوتار
وقد استطاع ذلك الباحث أن يسجل تلك الأصوات الضعيفة أكثر من مرة، خلال تعامله مع النوع المعروف باسم "نملة النار"؛ في برنامج بحثي يهدف إلى إيجاد وسائل للسيطرة علي هذه الحشرة التي تتسم بالشراسة، ومقاومتها، بعد أن تزايدت حشودها بشكل لافت للنظر في دول أمريكا الجنوبية. وكانت المرة الأولى عندما حاول الباحث، خارج نطاق البرنامج البحثي، وبدافع من حب الاستطلاع، أن يستمع إلى ما تقوله هذه الحشرة المزعجة، فدسَّ لاقط صوت حساساً داخل أحد الاستحكامات الترابية التي تبنيها جيوش نمل النار؛ وراح ينصت، فجاءته أصوات يصفها بأنها لا يمكن أن تكون صادرة عن الهرولة الدائمة للنمل، وإنما أصوات ندت عنها نتيجة الاضطراب الذي أوقعه بمساكنها إقحام لاقط الصوت؛ وهي تشبه الصرير، كأنها – في تلاحقها ولهفتها – أجراس إنذار؛ أعقبها هجوم ضار على لاقط الصوت
واستهوى الأمر الباحث، فرتَّب لتجربة وضع فيها بعضاً من نمل النار في صندوق من البلاستيك مزوَّد بلواقط صوت في قاعه، وموصَّل بأجهزة قياس حساسة؛ مع تصوير سلوكيات النمل من أعلى الصندوق بآلة تصوير (فيديو). وبقيت النملات تروح وتجيئ في (صمت) تام؛ حتى ألقى إليها، في محبسها، دودة، فأخذت تحك ظهورها بحماس شديد، لتسجل الأجهزة موجات صوتية ذات تردد منخفض، شبيهة بتلك التي صاحبت الهجوم على لاقط الصوت، وانتهت بهجوم منظم على الدودة
فكرت، للحظات، أن أنقل ما قرأت – عبر البريد – إلى ذلك المتشكك؛ فهاهو دليل من النوع "المادي" الذي لا يصدِّق إلاَّ به، يؤكد أن ثمة موجات صوتية تصدر عن النمل، ويمكن سماعها بالأذن، بعيداً عن "الفيرمونات" التي لا "تٌسمع" بغير الشم
ولكن – عدت أسأل نفسي – هلي تراه يقتنع؟
وتخيلته يبتسم، يحاول أن يجرني إلى فخ جديد، ويتساءل: وكيف يستجيب النمل لهذه الترددات الصوتية التي يصنعها عند الخطر المداهم، كما تقول ويقول ذلك البحث، مع أن النملة ليس لها أذن؟… مع أن ذلك السؤال ليس له صلة بقضيتنا الأساسية التي أثبتها البحث، وهي أن للنملة أصواتاً مادية يمكن أن تسمعها آذان البشر، عن طريق أجهزة تكبير الصوت وتنقيته – كما حدث مع ذلك الباحث قوي الملاحظة – أو بقدرات تفوق قدرات البشر العاديين، ولا تتوفر إلا لأصحاب المعجزات والخوارق من الرسل والأنبياء، عليهم جميعاً صلوات الله وتسليماته… وعلى أي حال، لقد توقف الباحث أمام نفس السؤال، ومعه سؤال آخر هو: وهل يفرز النمل، مع صيحات الإنذار المسموعة، فيرمونات الاتصالات التقليدية؟
لقد استدعت الإجابة على هذين السؤالين أن ينشأ برنامج بحثي آخر، مواز لبرنامج الأبحاث الخاص بمقاومة نمل النار المزعج؛ فقد تفيد نتائج البرنامج المستجد في تعميق مسار أبحاث البرنامج الأصلي، بالإضافة إلى احتمالات للكشف عن جوانب لا تزال مبهمة في أسلوب حياة وقدرات هذه الحشرة العجيبة
النمل يتحادث فيما بينه، ليس باستخدام الروائح فقط كما كان يعتقد، بل باصدار الاصوات ايضا
كنَّا نجلس نحتسي الشاي في حديقة خارج القاعة التي تشهد فعاليات المؤتمر العلمي الذي نشارك به؛ والتفتنا – معاً – إلى صف من النمل يسعى حثيثاً تحت أرجلنا
أخذنا العجب، لا من وجود النمل، فهو حشرة واسعة الانتشار، يمكنك أن تلتقي بأي من أنواعه العديدة في أي مكان، وفي أي وقت غير أوقات سكونها وبياتها. ولكن عجبنا جاء من أننا كنا قد سمعنا – منذ ساعات قليلة – بحثاً عن المردود البيئي لأنشطة بعض أنواع النمل؛ إذ كان مؤتمرنا حول البيئة والتنوٌّع الحيوي… وهاهو صف من النمل يمرٌّ تحت مائدتنا، في هذا المكان النظيف الأنيق بأحد الفنادق (عديدة النجوم)، كأنما ليثبت حضوره في المؤتمر
وفي حركة عصبية، مدَّ رفيق الشاي ساقه، وداهم طابور النمل فسحقه تحت قدمه. أصابني الضيق من هذا السلوك لزميل المؤتمر – وهو أعجمي – وحاولت أن ألفت نظره، في غير غلظة، إلي تأثري بما فعل؛ فضحك بدوره، متسائلاً: عجباً.. هل لا زلت تحب النمل بعد كل ما سمعناه عن نشاطه المدمِّر؟
قلت: ليست المسألة حباً أو كرها؛ ولكن هذه الحشرة لا تؤذينا في بلادنا؛ وعلى أي حال، وبصفتك من علماء البيئة، فإن وجودها ضروري لتحقيق التوازن البيئي الذي خلق الله عليه الكون؛ ثم إن لهذه الحشرة صلة عاطفية طيبة بنا نحن المسلمين، فقد ذٌكرت في بعض الآيات في القرآن؛ وثمة سورة كاملة تحمل اسمها
وحاولت أن أترجم له – في لغته – معاني بعض الآيات من سورة النمل
قال: أنا أعرف النبي سليمان، وهذه قصة طريفة حقاً
قلت: هذه ليست مجرد قصة، فهي حقيقة إيمانية، وتاريخية؛ أم تراك لا تؤمن بمعجزات الرسل والأنبياء؟
قال: دعنا لا نختلف حول هذا، ولنكتفي بالتوقف أمام حديث النمل.. أنا لا أحاول أن أشكك، ولكني – فقط – أتسأل: كيف سمع سليمان حديث النملة.. هل سمعها بأذنه؟
ابتسمت، وقد أدركت أنه يحاول أن يجرني إلى فخ؛ ورحت أوضح له أنني أعرف أن المستقر لدينا، منذ زمن طويل، أن النمل يتناقل المعلومات ويحقق الاتصال، عبر وسيلة كيماوية؛ فهو يتبادل إفراز مواد كيماوية هي "الفيرمونات"، ويترجم إحساسه بها – شمَّاً – إلى معلومات. وأظنك تريد، الآن، أن تسألني: كيف تيسر لسليمان أن يستمع إلي حديث بهذه اللغة غير المنطوقة؟!. وأنا أصدقك القول: لقد سألت نفسي ذات السؤال حين قرأت هذه الآيات بعد أن علمت بالحقائق عن حياة وسلوك النمل؛ ولكن ذلك لم ينل من صدق إيماني بالقصة؛ فهي – أولاً – وردت في القرآن؛ ثم إننا نتحدث عن معجزات و خوارق؛ وهذه لها قوانينها الخاصة التي لا تصلح لمواصفاتنا ومقاييسنا البشرية العادية والمحدودة. كانت تلك قناعتي الحقيقية: أن ذلك النبي الكريم – سيدنا سليمان – هيأ الله له قدرات خاصة تمكنه من الإنصات لحديث النمل، ولن يقلل من شأن هذه القدرات، أو يزيدها، إن كانت أصوات النمل ترددات مسموعة، أو كيماويات لها رائحة متميزة متغيرة الدلالات… فنحن لا نعرف كنه هذه القدرات، المتعددة، التي كانت تجعله يفهم حديث الطير، ويبادله الكلام، ويتعامل مع الجان. والقاعدة، أن لا تجزئة للمعجزة، إما أن تقبلها كلها أو ترفضها كلها. وعلي أي حال، فإن الإيمان بالمعجزات التي تحققت بين الرسل والأنبياء ملمح مشترك بين كل الأديان
وانتهى المؤتمر، ونسيت ذلك الحوار؛ حتى وقع في يدي عدد من مجلة "ديسكفر" الأمريكية، صادر في أغسطس/اب من عام 1999، وبه مختصر لحدث علمي هام متصل بالنمل؛ فقد أعلن أحد الباحثين بجامعة الميسيسيبي ممن يعملون في غابات البرازيل أن للنمل وسيلة اتصال أخرى عاجلة، يلجأ إليها في الملمات، ويمكن تشبيهها بالخط الساخن أو صفارة الإنذار… ففي حالات الحرج، وعند الضرورة القصوى، تصدر النملة ترددات صوتية واهنة، ناتجة عن احتكاك أحد أرجلها البطنية بخطوط بارزة علي ظهر النملة، فكأنها تضرب على أوتار
وقد استطاع ذلك الباحث أن يسجل تلك الأصوات الضعيفة أكثر من مرة، خلال تعامله مع النوع المعروف باسم "نملة النار"؛ في برنامج بحثي يهدف إلى إيجاد وسائل للسيطرة علي هذه الحشرة التي تتسم بالشراسة، ومقاومتها، بعد أن تزايدت حشودها بشكل لافت للنظر في دول أمريكا الجنوبية. وكانت المرة الأولى عندما حاول الباحث، خارج نطاق البرنامج البحثي، وبدافع من حب الاستطلاع، أن يستمع إلى ما تقوله هذه الحشرة المزعجة، فدسَّ لاقط صوت حساساً داخل أحد الاستحكامات الترابية التي تبنيها جيوش نمل النار؛ وراح ينصت، فجاءته أصوات يصفها بأنها لا يمكن أن تكون صادرة عن الهرولة الدائمة للنمل، وإنما أصوات ندت عنها نتيجة الاضطراب الذي أوقعه بمساكنها إقحام لاقط الصوت؛ وهي تشبه الصرير، كأنها – في تلاحقها ولهفتها – أجراس إنذار؛ أعقبها هجوم ضار على لاقط الصوت
واستهوى الأمر الباحث، فرتَّب لتجربة وضع فيها بعضاً من نمل النار في صندوق من البلاستيك مزوَّد بلواقط صوت في قاعه، وموصَّل بأجهزة قياس حساسة؛ مع تصوير سلوكيات النمل من أعلى الصندوق بآلة تصوير (فيديو). وبقيت النملات تروح وتجيئ في (صمت) تام؛ حتى ألقى إليها، في محبسها، دودة، فأخذت تحك ظهورها بحماس شديد، لتسجل الأجهزة موجات صوتية ذات تردد منخفض، شبيهة بتلك التي صاحبت الهجوم على لاقط الصوت، وانتهت بهجوم منظم على الدودة
فكرت، للحظات، أن أنقل ما قرأت – عبر البريد – إلى ذلك المتشكك؛ فهاهو دليل من النوع "المادي" الذي لا يصدِّق إلاَّ به، يؤكد أن ثمة موجات صوتية تصدر عن النمل، ويمكن سماعها بالأذن، بعيداً عن "الفيرمونات" التي لا "تٌسمع" بغير الشم
ولكن – عدت أسأل نفسي – هلي تراه يقتنع؟
وتخيلته يبتسم، يحاول أن يجرني إلى فخ جديد، ويتساءل: وكيف يستجيب النمل لهذه الترددات الصوتية التي يصنعها عند الخطر المداهم، كما تقول ويقول ذلك البحث، مع أن النملة ليس لها أذن؟… مع أن ذلك السؤال ليس له صلة بقضيتنا الأساسية التي أثبتها البحث، وهي أن للنملة أصواتاً مادية يمكن أن تسمعها آذان البشر، عن طريق أجهزة تكبير الصوت وتنقيته – كما حدث مع ذلك الباحث قوي الملاحظة – أو بقدرات تفوق قدرات البشر العاديين، ولا تتوفر إلا لأصحاب المعجزات والخوارق من الرسل والأنبياء، عليهم جميعاً صلوات الله وتسليماته… وعلى أي حال، لقد توقف الباحث أمام نفس السؤال، ومعه سؤال آخر هو: وهل يفرز النمل، مع صيحات الإنذار المسموعة، فيرمونات الاتصالات التقليدية؟
لقد استدعت الإجابة على هذين السؤالين أن ينشأ برنامج بحثي آخر، مواز لبرنامج الأبحاث الخاص بمقاومة نمل النار المزعج؛ فقد تفيد نتائج البرنامج المستجد في تعميق مسار أبحاث البرنامج الأصلي، بالإضافة إلى احتمالات للكشف عن جوانب لا تزال مبهمة في أسلوب حياة وقدرات هذه الحشرة العجيبة