ماهو الشرك الاصغر؟ الرياء وحقيقته وأقسامه وذمه
ورد ذم الرياء في الكتاب والسنة، من ذلك قوله تعالى:
{ فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون} [الماعون: 4-6] وقوله:
{فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً. [الكهف: 110]
وأما الأحاديث، فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال:
" من عمل عملاً أشرك فيه غيرى، فهو للذي أشرك، وأنا منه بريء".
وفى حديث آخر:
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر.
قالوا: يا رسول الله: وما الشرك الأصغر؟
قال: الرياء، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة
إذ جزى الناس بأعمالهم:
اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، هل تجدون عندهم خيراً"وقال بشر الحافي: لأن أطلب الدنيا بمزمار أحب إلى من أن أطلبها بالدين.
واعلم: أن الرياء مشتق من الرؤية، والسمعة مشتقة من السماع، فالمرائي يرى الناس ما يطلب به الحظوة عندهم وذلك أقسام:
الأول: الرياء في الدين، وهو أنواع:
أحدهما: أن يكون من جهة البدن، بإظهار النحول والصفار، ليريهم بذلك شدة الاجتهاد، وغلبة خوف الآخرة، وكذلك يرائي بتشعث الشعر، ليظهر أنه مستغرق في هم الدين، لا يتفرغ لتسريح شعره.ويقرب من هذا خفض الصوت، وإغارة العينين، وذبول الشفتين، ليدل بذلك على أنه مواظب على الصوم، ولهذا قال عيسى بن مريم عليه السلام: إذا صام أحدكم فليدهن رأسه، ويرجل شعره. وذلك لما يخاف على الصائم من آفات الرياء، فهذا الرياء من جهة البدن لأهل الدين.وأما أهل الدنيا، فيراؤون بإظهار السمن، وصفاء اللون، واعتدال القامة، وحسن الوجه، ونظافة البدن.
النوع الثاني:
الرياء من جهة الزي، كالإطراق حالة المشي، وإبقاء أثر السجود على الوجه، وغلظ الثياب، ولبس الصوف، وتشمير الثياب كثيراً، وتقصير الأكمام، وترك الثوب مخرقاُ غير نظيف.
ومن ذلك لبس المرقعة، والثياب الزرق، تشبهاً بالصوفية مع الإفلاس من صفاتهم في الباطن.
ومنه التقنع فوق العمامة، لتنصرف إليه الأعين بالتمييز بتلك العادة.وهؤلاء طبقات، منهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلاح، بإظهار التزهد بلبس الثياب المخرقة الوسخة الغليظة، ليرائي بذلك، ولو كلف هذا أن يلبس ثوباً وسطاً نظيفاً مما كان السلف يلبسونه، لكان عنده بمنزلة الذبح، لخوفه أن يقول الناس: قد بدا له من الزهد، وقد رجع عن تلك الطريقة.
وطبقة أخرى: يطلبون القبول عند أهل الصلاح، وعند أهل الدنيا من الملوك والأمراء والتجار، فلو لبسوا الثياب الفاخرة لم تقبلهم القراء أهل الصلاح، ولو لبسوا المخرقة الدنية لازدرتهم الملوك والأغنياء، فهم يريدون الجمع بين قبول أهل الدين والدنيا، فيطلبون الأثواب الرقيقة، والأكسية الرفيعة والفوط الرفيعة فيلبسونها، وأقل قيمة ثوب أحدهم قيمة ثوب الغنى، ولونه وهيئته لون ثياب الصلحاء، فيلتمسون القبول عند الفريقين.وهؤلاء لو كلفوا لبس خشن
أو وسخ، لكان عندهم كالذبح، خوفاً من السقوط في أعين الملوك والأغنياء، ولو كلفوا لبس الرقيق ورفيع الكتان الأبيض ونحو ذلك، لعظم ذلك عليهم، خوفاً من أن تنحط منزلتهم عند أهل الصلاح، وكل مراء بزي مخصوص ثقل عليه الانتقال إلى ما دونه أو فوقه خوفاً من المذمة.
وأما أهل الدنيا، فمراءاتهم بالثياب النفيسة، والمراكب الحسنة، وأنواع التجميل في الملبس والمسكن وأثاث البيت، وهم في بيوتهم يلبسون الثياب الخشنة، ويشتد عليهم أن يروا بتلك المنزلة.
النوع الثالث:
الرياء بالقول، ورياء أهل الدين بالوعظ والتذكير وحفظ الأخبار والآثار، لأجل المحاورة، وإظهار غزارة العلم والدلالة على شدة العناية بأحوال السلف، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، وإظهار الغضب للمنكرات بين الناس، وخفض الصوت وترقيقه بقراءة القرآن، ليدل بذلك على الخوف والحزن ونحو ذلك.
النوع الرابع:
الرياء بالعمل، كمرآة المصلى بطول القيام، وتطويل الركوع والسجود، وإظهار الخشوع، ونحو ذلك.وكذلك بالصوم والغزو والحج والصدقة ونحو ذلك.وأما أهل الدنيا فمراءاتهم، بالتبختر، والاختيال، وتحريك اليدين، وتقريب الخطى، والأخذ بأطراف الذيل، وإمالة العطفين، ليدلوا بذلك على الحشمة.
النوع الخامس:
المراءاة بالأصحاب والزائرين، كالذي يتكلف أن يستزير عالماً أو عابداً، ليقال: إن فلاناً قد زار فلاناً، وإن أهل الدين يترددون إليه، ويتبركون به، وكذلك من يرائي بكثرة الشيوخ، ليقال:
لقي شيوخاً كثيرة، واستفاد منهم، فيباهى بذلك، فهذه مجامع ما يرائي به المراؤون، يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد.ومنهم من يطلب مجرد الجاه، وكم من عابد اعتزل في جبل، وراهب انزوى إلى دير، مع قطع طمعهم من مال الناس، لكنه يحب مجرد الجاه.ومنهم من يكون قصده المال، ومنهم من قصده الثناء وانتشار الصيت. فإن قيل:
هل الرياء حرام، أم مكروه، أو مباح؟
فالجواب:
أن فيه تفصيلاً، وهو إما أن يكون بالعبادات، أو بغيرها، فان كان الرياء بالعبادات ،فهو حرام، فإن المرائي بصلاته وصدقته وحجته، ونحو ذلك، عاص آثم، لأنه يقصد بذلك غير الله تعالى المستحق للعبادة وحده، فالمرائي بذلك في سخط الله. وأما إن كان بغير العبادات، فهو كطلب المال على ما تقدم، لا يحرم من حيث إنه طلب منزلة في قلوب العباد، ولكن كما يمكن كسب المال بتلبيسات وأسباب محظورة، فكذلك الجاه، وكما أن كسب قليل من المال وهو الذي طلبه يوسف عليه السلام في قوله:
{إنى حفيظ عليهم} [يوسف: 55]
ولا نقول بتحريم الجاه وإن كثر، إلا إذا حمل صاحبه على ما لا يجوز على نحو ما ذكرنا في المال.
وأما سعة الجاه من غير حرص على طلبه، ومن غير اغتمام بزواله وإن زال، فلا ضرر فيه، إذ لا جاه أوسع من جاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلماء الدين بعده، ولكن انصراف الهمم إلى طلب الجاه نقصان في الدين، ولا يوصف بالتحريم. وتحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس، إنما هو ليراه الناس، وكذلك كل تجمل لأجلهم لا يقال: إنه منهي عنه.وقد تختلف المقاصد بذلك، فإن أكثر الناس يحبون أن لا يروا بعين نقص في حال.وفى أفراد مسلم، من حديث ابن مسعود رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
"لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقال رجل:
إن الرجل يجب أن يكون ثوبه حسنة، ونعله حسنة، فقال:
"إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس".
ومن الناس من يؤثر إظهار نعمة الله عليه، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك.
1ـ فصل في أبواب الرياء بعضها أشد من بعض
واعلم: أن بعض أبواب الرياء أشد من بعض، لأنه درجات.أشدها وأغلظها أن لا يكون مراده بالعبادة الثواب أصلاً، كالذي يصلى بين الناس، ولو انفرد لم يصل.
الدرجة الثانية:
أن يقصد الثواب مع الرياء قصداً ضعيفاً بحيث لو كان خالياً لم يفعله، فهو قريب من القسم الأول في كونهما ممقوتين عند الله تعالى.
الدرجة الثالثة:
أن يكون قصد الرياء، وقصد الثواب متساويين، بحيث لو انفرد كل واحد منهما عن الآخر لم يبعثه على العمل، فهذا قد أفسد مثل ما اصلح، ولا يسلم من الإثم
الرابعة:
أن يكون إطلاع الناس عليه مقوياً لنشاطه، ولو لم يطلع عليه أحد لم يترك العبادة، فهذا يثاب على قصده الصحيح ، ويعاقب على قصده الفاسد، وقريب من ذلك الرياء بأوصاف العبادة لا بأصلها، كالذي يصلى وغرضه تخفيف الركوع والسجود ولا يطيل القراءة، فإذا رآه الناس أحسن ذلك فهذا أيضاً من الرياء المحظور، لأنه يتضمن تعظيم الخلق، ولكنه دون الرياء بأصول العبادات.
2ـ بيان الرياء الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل
اعلم أن الرياء جلى وخفى.
فالجلى:
هو الذي يبعث على العمل ويحمل عليه.وأخفى منه قليلاً رياء لا يبعث على العمل بمجرده، لكن يخفف العمل الذي أريد به وجه الله تعالى، كالذي يعتاد التهجد كل ليلة ويثقل عليه فإذا نزل عنده ضيف نشط له وسهل عليه. وأخفى من ذلك ما لا يؤثر في العمل ولا في التسهيل، لكنه مع ذلك مستبطن في القلب، ومتى لم يؤثر الدعاء في العمل لم يكن أن يعرف إلا بالعلامات، وأجلى علاماته أنه يسر باطلاع الناس على طاعته، فرب عبد مخلص يخلص العمل، ولا يقصد الرياء بل يكرهه، ويتم العمل على ذلك، لكن إذا اطلع الناس عليه سره ذلك وارتاح له، وروح ذلك عن قلبه شدة العبادة، فهذا السرور يدل على رياء خفي منه يرشح السرور، ثم إذا استشعر تلك اللذة بالاطلاع لم يقابل ذلك بكراهة، بل قد يتحرك حركة خفيفة، ويتكلف أن يطلع عليه بالتعريض لا بالتصريح.وقد يخفى، فلا يدعو إلى الإظهار بالنطق تعريضاً ولا تصريحاً، ولكن بالشمائل كإظهار النحول، والصفار، وخفض الصوت، ويبس الشفتين وآثار الدموع وغلبة النعاس الدالة على طول التهجد.
وأخفى من ذلك أن يختفي بحيث لا يريد الاطلاع عليه، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدؤوه بالسلام، وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وينشطوا في قضاء حوائجه، ويسامحوه في المعاملة، ويوسعوا له المكان، فان قصر في ذلك مقصر، ثقل ذلك على قلبه، كأن نفسه تتقاضى الاحترام على الطاعة التي أخفاها.
ومتى لم يكون وجود العبادة كعدمها في كل ما يتعلق بالخلق، لم يكن خالياً عن شوب خفي من الرياء، وكل ذلك يوشك أن يقص الأجر، ولا يسلم منه إلا الصديقون.وقد روينا عن وهب بن منبه، أن رجلاً من العباد قال لأصحابه: إنا قد فارقنا الأموال والأولاد مخافة الطغيان ، وأنا نخاف أن يكون قد دخل علينا في أمرنا من هذا الطغيان أكثر مما دخل على الأهل الأموال في أموالهم، إن أحدنا إذا لقي أحب أن يعظم لمكان دينه، وإن كان له حاجة أحب أن تقضى لمكان دينه:
وإن اشترى شئياً أحب أن يرخص له لمكان دينه، فبلغ ذلك ملكهم، فركب في موكبه، فإذا السهل والجبل قد امتلأ من الناس، فقال العابد:
ما هذا؟ قيل: هذا الملك، فقال لصاحبه :
ائتني بطعام، فأتاه ببقل وزبيب وقلوب الشجر، فجعل يحشو شدقيه ويأكل أكلاً عنيفاً، فقال الملك:
أين صاحبكم؟
فقالوا : هذا ، كيف أنت؟
قال : كالناس، فقال الملك ما عند هذا خير، وانصرف عنه، فقال:
الحمد لله الذي صرفه عنى وهو لى لائم.
ورد ذم الرياء في الكتاب والسنة، من ذلك قوله تعالى:
{ فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون} [الماعون: 4-6] وقوله:
{فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً. [الكهف: 110]
وأما الأحاديث، فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال:
" من عمل عملاً أشرك فيه غيرى، فهو للذي أشرك، وأنا منه بريء".
وفى حديث آخر:
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر.
قالوا: يا رسول الله: وما الشرك الأصغر؟
قال: الرياء، يقول الله عز وجل لهم يوم القيامة
إذ جزى الناس بأعمالهم:
اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، هل تجدون عندهم خيراً"وقال بشر الحافي: لأن أطلب الدنيا بمزمار أحب إلى من أن أطلبها بالدين.
واعلم: أن الرياء مشتق من الرؤية، والسمعة مشتقة من السماع، فالمرائي يرى الناس ما يطلب به الحظوة عندهم وذلك أقسام:
الأول: الرياء في الدين، وهو أنواع:
أحدهما: أن يكون من جهة البدن، بإظهار النحول والصفار، ليريهم بذلك شدة الاجتهاد، وغلبة خوف الآخرة، وكذلك يرائي بتشعث الشعر، ليظهر أنه مستغرق في هم الدين، لا يتفرغ لتسريح شعره.ويقرب من هذا خفض الصوت، وإغارة العينين، وذبول الشفتين، ليدل بذلك على أنه مواظب على الصوم، ولهذا قال عيسى بن مريم عليه السلام: إذا صام أحدكم فليدهن رأسه، ويرجل شعره. وذلك لما يخاف على الصائم من آفات الرياء، فهذا الرياء من جهة البدن لأهل الدين.وأما أهل الدنيا، فيراؤون بإظهار السمن، وصفاء اللون، واعتدال القامة، وحسن الوجه، ونظافة البدن.
النوع الثاني:
الرياء من جهة الزي، كالإطراق حالة المشي، وإبقاء أثر السجود على الوجه، وغلظ الثياب، ولبس الصوف، وتشمير الثياب كثيراً، وتقصير الأكمام، وترك الثوب مخرقاُ غير نظيف.
ومن ذلك لبس المرقعة، والثياب الزرق، تشبهاً بالصوفية مع الإفلاس من صفاتهم في الباطن.
ومنه التقنع فوق العمامة، لتنصرف إليه الأعين بالتمييز بتلك العادة.وهؤلاء طبقات، منهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلاح، بإظهار التزهد بلبس الثياب المخرقة الوسخة الغليظة، ليرائي بذلك، ولو كلف هذا أن يلبس ثوباً وسطاً نظيفاً مما كان السلف يلبسونه، لكان عنده بمنزلة الذبح، لخوفه أن يقول الناس: قد بدا له من الزهد، وقد رجع عن تلك الطريقة.
وطبقة أخرى: يطلبون القبول عند أهل الصلاح، وعند أهل الدنيا من الملوك والأمراء والتجار، فلو لبسوا الثياب الفاخرة لم تقبلهم القراء أهل الصلاح، ولو لبسوا المخرقة الدنية لازدرتهم الملوك والأغنياء، فهم يريدون الجمع بين قبول أهل الدين والدنيا، فيطلبون الأثواب الرقيقة، والأكسية الرفيعة والفوط الرفيعة فيلبسونها، وأقل قيمة ثوب أحدهم قيمة ثوب الغنى، ولونه وهيئته لون ثياب الصلحاء، فيلتمسون القبول عند الفريقين.وهؤلاء لو كلفوا لبس خشن
أو وسخ، لكان عندهم كالذبح، خوفاً من السقوط في أعين الملوك والأغنياء، ولو كلفوا لبس الرقيق ورفيع الكتان الأبيض ونحو ذلك، لعظم ذلك عليهم، خوفاً من أن تنحط منزلتهم عند أهل الصلاح، وكل مراء بزي مخصوص ثقل عليه الانتقال إلى ما دونه أو فوقه خوفاً من المذمة.
وأما أهل الدنيا، فمراءاتهم بالثياب النفيسة، والمراكب الحسنة، وأنواع التجميل في الملبس والمسكن وأثاث البيت، وهم في بيوتهم يلبسون الثياب الخشنة، ويشتد عليهم أن يروا بتلك المنزلة.
النوع الثالث:
الرياء بالقول، ورياء أهل الدين بالوعظ والتذكير وحفظ الأخبار والآثار، لأجل المحاورة، وإظهار غزارة العلم والدلالة على شدة العناية بأحوال السلف، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، وإظهار الغضب للمنكرات بين الناس، وخفض الصوت وترقيقه بقراءة القرآن، ليدل بذلك على الخوف والحزن ونحو ذلك.
النوع الرابع:
الرياء بالعمل، كمرآة المصلى بطول القيام، وتطويل الركوع والسجود، وإظهار الخشوع، ونحو ذلك.وكذلك بالصوم والغزو والحج والصدقة ونحو ذلك.وأما أهل الدنيا فمراءاتهم، بالتبختر، والاختيال، وتحريك اليدين، وتقريب الخطى، والأخذ بأطراف الذيل، وإمالة العطفين، ليدلوا بذلك على الحشمة.
النوع الخامس:
المراءاة بالأصحاب والزائرين، كالذي يتكلف أن يستزير عالماً أو عابداً، ليقال: إن فلاناً قد زار فلاناً، وإن أهل الدين يترددون إليه، ويتبركون به، وكذلك من يرائي بكثرة الشيوخ، ليقال:
لقي شيوخاً كثيرة، واستفاد منهم، فيباهى بذلك، فهذه مجامع ما يرائي به المراؤون، يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد.ومنهم من يطلب مجرد الجاه، وكم من عابد اعتزل في جبل، وراهب انزوى إلى دير، مع قطع طمعهم من مال الناس، لكنه يحب مجرد الجاه.ومنهم من يكون قصده المال، ومنهم من قصده الثناء وانتشار الصيت. فإن قيل:
هل الرياء حرام، أم مكروه، أو مباح؟
فالجواب:
أن فيه تفصيلاً، وهو إما أن يكون بالعبادات، أو بغيرها، فان كان الرياء بالعبادات ،فهو حرام، فإن المرائي بصلاته وصدقته وحجته، ونحو ذلك، عاص آثم، لأنه يقصد بذلك غير الله تعالى المستحق للعبادة وحده، فالمرائي بذلك في سخط الله. وأما إن كان بغير العبادات، فهو كطلب المال على ما تقدم، لا يحرم من حيث إنه طلب منزلة في قلوب العباد، ولكن كما يمكن كسب المال بتلبيسات وأسباب محظورة، فكذلك الجاه، وكما أن كسب قليل من المال وهو الذي طلبه يوسف عليه السلام في قوله:
{إنى حفيظ عليهم} [يوسف: 55]
ولا نقول بتحريم الجاه وإن كثر، إلا إذا حمل صاحبه على ما لا يجوز على نحو ما ذكرنا في المال.
وأما سعة الجاه من غير حرص على طلبه، ومن غير اغتمام بزواله وإن زال، فلا ضرر فيه، إذ لا جاه أوسع من جاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلماء الدين بعده، ولكن انصراف الهمم إلى طلب الجاه نقصان في الدين، ولا يوصف بالتحريم. وتحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس، إنما هو ليراه الناس، وكذلك كل تجمل لأجلهم لا يقال: إنه منهي عنه.وقد تختلف المقاصد بذلك، فإن أكثر الناس يحبون أن لا يروا بعين نقص في حال.وفى أفراد مسلم، من حديث ابن مسعود رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
"لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقال رجل:
إن الرجل يجب أن يكون ثوبه حسنة، ونعله حسنة، فقال:
"إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس".
ومن الناس من يؤثر إظهار نعمة الله عليه، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك.
1ـ فصل في أبواب الرياء بعضها أشد من بعض
واعلم: أن بعض أبواب الرياء أشد من بعض، لأنه درجات.أشدها وأغلظها أن لا يكون مراده بالعبادة الثواب أصلاً، كالذي يصلى بين الناس، ولو انفرد لم يصل.
الدرجة الثانية:
أن يقصد الثواب مع الرياء قصداً ضعيفاً بحيث لو كان خالياً لم يفعله، فهو قريب من القسم الأول في كونهما ممقوتين عند الله تعالى.
الدرجة الثالثة:
أن يكون قصد الرياء، وقصد الثواب متساويين، بحيث لو انفرد كل واحد منهما عن الآخر لم يبعثه على العمل، فهذا قد أفسد مثل ما اصلح، ولا يسلم من الإثم
الرابعة:
أن يكون إطلاع الناس عليه مقوياً لنشاطه، ولو لم يطلع عليه أحد لم يترك العبادة، فهذا يثاب على قصده الصحيح ، ويعاقب على قصده الفاسد، وقريب من ذلك الرياء بأوصاف العبادة لا بأصلها، كالذي يصلى وغرضه تخفيف الركوع والسجود ولا يطيل القراءة، فإذا رآه الناس أحسن ذلك فهذا أيضاً من الرياء المحظور، لأنه يتضمن تعظيم الخلق، ولكنه دون الرياء بأصول العبادات.
2ـ بيان الرياء الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل
اعلم أن الرياء جلى وخفى.
فالجلى:
هو الذي يبعث على العمل ويحمل عليه.وأخفى منه قليلاً رياء لا يبعث على العمل بمجرده، لكن يخفف العمل الذي أريد به وجه الله تعالى، كالذي يعتاد التهجد كل ليلة ويثقل عليه فإذا نزل عنده ضيف نشط له وسهل عليه. وأخفى من ذلك ما لا يؤثر في العمل ولا في التسهيل، لكنه مع ذلك مستبطن في القلب، ومتى لم يؤثر الدعاء في العمل لم يكن أن يعرف إلا بالعلامات، وأجلى علاماته أنه يسر باطلاع الناس على طاعته، فرب عبد مخلص يخلص العمل، ولا يقصد الرياء بل يكرهه، ويتم العمل على ذلك، لكن إذا اطلع الناس عليه سره ذلك وارتاح له، وروح ذلك عن قلبه شدة العبادة، فهذا السرور يدل على رياء خفي منه يرشح السرور، ثم إذا استشعر تلك اللذة بالاطلاع لم يقابل ذلك بكراهة، بل قد يتحرك حركة خفيفة، ويتكلف أن يطلع عليه بالتعريض لا بالتصريح.وقد يخفى، فلا يدعو إلى الإظهار بالنطق تعريضاً ولا تصريحاً، ولكن بالشمائل كإظهار النحول، والصفار، وخفض الصوت، ويبس الشفتين وآثار الدموع وغلبة النعاس الدالة على طول التهجد.
وأخفى من ذلك أن يختفي بحيث لا يريد الاطلاع عليه، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدؤوه بالسلام، وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وينشطوا في قضاء حوائجه، ويسامحوه في المعاملة، ويوسعوا له المكان، فان قصر في ذلك مقصر، ثقل ذلك على قلبه، كأن نفسه تتقاضى الاحترام على الطاعة التي أخفاها.
ومتى لم يكون وجود العبادة كعدمها في كل ما يتعلق بالخلق، لم يكن خالياً عن شوب خفي من الرياء، وكل ذلك يوشك أن يقص الأجر، ولا يسلم منه إلا الصديقون.وقد روينا عن وهب بن منبه، أن رجلاً من العباد قال لأصحابه: إنا قد فارقنا الأموال والأولاد مخافة الطغيان ، وأنا نخاف أن يكون قد دخل علينا في أمرنا من هذا الطغيان أكثر مما دخل على الأهل الأموال في أموالهم، إن أحدنا إذا لقي أحب أن يعظم لمكان دينه، وإن كان له حاجة أحب أن تقضى لمكان دينه:
وإن اشترى شئياً أحب أن يرخص له لمكان دينه، فبلغ ذلك ملكهم، فركب في موكبه، فإذا السهل والجبل قد امتلأ من الناس، فقال العابد:
ما هذا؟ قيل: هذا الملك، فقال لصاحبه :
ائتني بطعام، فأتاه ببقل وزبيب وقلوب الشجر، فجعل يحشو شدقيه ويأكل أكلاً عنيفاً، فقال الملك:
أين صاحبكم؟
فقالوا : هذا ، كيف أنت؟
قال : كالناس، فقال الملك ما عند هذا خير، وانصرف عنه، فقال:
الحمد لله الذي صرفه عنى وهو لى لائم.