معهد ون ويب لتطوير المواقع | 1weeb.com

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

ستايلات مجانية FREE STYLES


5 مشترك

    البيان بالسكوت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم

    الجزائري عبد المعز
    الجزائري عبد المعز
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    تاريخ الإنضمام : 05/10/2011

    الجنسية : جزائر

    عدد المشاركات : 3288

    مكسب العضو : 40583

    نقاط تقييم مواضيع العضو : 21

    المزاج : منتديات طموح الجزائر

     البيان بالسكوت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم Empty البيان بالسكوت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم

    مُساهمة من طرف الجزائري عبد المعز 3/12/2011, 02:38




    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك
    نستعين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل
    إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على
    إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

    أما بعد:

    فلا توجد أمة في حاجة إلى السكوت الآن مثل أمتنا العربية، بعد أن أمسى
    الكلام حرفة من لا حرفة له، والخوض في كل شيء صنعة من لا صنعة له، وصار
    أغلب الناس يجيد الكلام، ولا يجيد العمل، ويبرع في الجدال ولا يبرع فيما
    سواه، وبخاصة بعد أن فتحت أبواب السماء بالقنوات الفضائية، وأوغل العرب
    فيها بغير رفق، في الوقت الذي يرى أعداؤنا هذا التهارش بالألفاظ ويهزون
    أكتافهم عجباً لهذه الأمة التي لا تجيد إلا الكلام.

    وكنت أنظر إلى بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرى سكوته أكثر من
    كلامه، وصمته أطول من نطقه، مع أن مهمته في الدنيا هي البيان للناس، كما
    جاء في قوله - تعالى -: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)
    [النحل 44]، مما يعني أن السكوت في بعض الأوقات وبعض السياقات بيان؛ لأنه
    يحمل من الدلالات - في بعض الأحيان - ما لا يحمله اللفظ، وقد لا يعبر اللفظ
    عن مكنونات القلب وقد تغلق الآذان أمام الكلمات، أو يحاط البليغ بأناس:
    (جعلوا أصابعهم في آذانهم)، وتواصوا بأن لا يسمعوا، وتعاهدوا على اللغو
    والتشويش، في هذا الوقت تصير الكلمات عديمة القيمة، ويبرز السكوت ليحمل من
    الدلالات، ما لا تحمله الكلمات.

    وهذا البحث البلاغي يحاول أن يقف على هذه الدلالات ويبين نسبها من
    البلاغة العربية، ويفتح الباب لبلاغة أخرى غير بلاغة اللفظ، ودلالات أخرى
    غير دلالات الكلام، وعالم البيان لا يمكن أن يقتصر على اللفظ، ويترك عوالم
    أخرى تحمل من الدلالات والمعاني الكثير وقد امتلأ بها القرآن الكريم والسنة
    المشرفة والتراث الإنساني عامة، وسوف أتبع في هذا البحث المنهج التحليلي
    لكلام المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، وهو منهج يقف أمام السياق والمقام
    ثم ينفذ من خلالهما إلى أقرب المقاصد الدلالية خلف هذا السكوت.

    أما خطة هذا البحث:

    فتشمل مقدمة، وثلاثة مباحث وخاتمة ثم الفهارس.

    في المقدمة: أوضح موضوع البحث والداعي إلية ومنهجه وخطته.

    وفي المبحث الأول:

    أتناول الفروق اللطيفة بين السكوت وما في معناه، مثل (الصمت الإمساك الإعراض الإنصات....إلخ).

    وفي المبحث الثاني:

    أتناول السكوت ومنزلته في عالم البيان.

    وفي المبحث الثالث:

    أحلل مواضع السكوت في بيان المعصوم كاشفاً ما أراه من دلالات، ووجه البلاغة في إيثار السكوت فيها على الكلام.

    ثم تكون الخاتمة تلخيصاً لما
    يتبين من خلال التحليل، وبياناً لبعض التوصيات للسائرين على الدرب للكشف عن
    وجوه البلاغة في البيان النبوي.


    المبحث الأول فروق في الدلالات مدخل:

    لكل كلمة في لغة العرب أسرة دلالية تتصل بها من قريب أو من بعيد، وتكوّن
    معها معجماً خاصاً، بحيث إذا ذكرت استدعى الذهن هذه العائلة التي تنتمي
    إلى خيط واحد، ونسب واحد،، وشجرة واحدة، وهذا الخيط قد يظهر جلياً حيناً،
    وقد يخفي أحياناً أخرى، وكل ما يدور حول جذر لغوي واحد ينتمي - غالباً -
    إلى عائلة واحدة، وهذا ما فطن إليه العلامة ابن فارس في معجمه النفيس "
    مقاييس اللغة "حيث أداره على مفهوم أن الجذر الواحد يدور حول معنى واحد أو
    أصل واحد، وقليل من الكلمات ما يدور حول أكثر من معنى، وهذا المعنى الأصلي
    هو ما تعارفت عليه العرب، واستحضرته في كل مناسبة ذكر فيها اللفظ، أو إحدى
    مشتقاته، ومهما بالغ السياق في البعد عن هذا المعنى الأصلي إلا أنه حاضر في
    الذهن، قائم في الكلام.

    وهناك قرابة أخرى ورحم آخر لا يقل في الاعتلاق عن رحم الأصل الواحد وهو
    رحم المترادفات أو الكلمات التي تتلاحظ معانيها، وتتجاوب دلالاتها، وإن لم
    يكن بينها اشتقاق لغوى، كأن (يقال برأ الله الخلق، وفطرهم، وجبلهم، وخلقهم،
    وأسرهم وذرأهم، وأنشأهم، وكونهم، وصورهم، وسواهم، وأوجدهم، وأحدثهم،
    وأبدعهم، وأبدأهم)، فترى المعنى الأصلي ممدوداً بكثير من الكلمات، وكل منها
    تحمل خصوصية تناسب سياقاً ومقاماً خاصاً، وهذا يستدعي أن أقول: إن للسكوت
    أسرة دلالية يدور في فلكها، أو تدور في فلكه، وهي أسرة معنية بترك الكلام،
    وعدم النطق، والإعراض عن اللفظ، ومن هذه العائلة: (الصمت، والإمساك،
    والإنصات، والإطراق، والوجوم، والإعراض.. إلخ)، فكل ذلك متصل بالسكوت من
    قريب أو من بعيد، وسوف يتعرض البحث له، لكن الذي يستوجب الآن أن أبينه، بعض
    الخصوصيات لهذه المصطلحات ولتكن البداية مع السكوت.

    السكوت: يقول ابن فارس: (السين والكاف والتاء يدلُّ على خِلاف الكلام)،
    (فالسكوت مختص بترك الكلام، والسُّكُوتُ خلافُ النُّطْقِ، والسكت: يختص
    بسكون النفس، ولما كان السكوت ضربا و(أصل السكوت: السكون: (ولما سكت عن
    موسى الغضب)، من السكون استعير له في قوله: والإمساك)، وهذا يعني أن المقام
    يحتاج إلى كلام لكن أوثر عليه عدم الكلام، وعليه فلا يقال " سكوت " إلا
    إذا صح في المقام كلام، وقد يكون السكوت ترك الحركة، كما في حديث ماعِزٍ
    فرَميناَه بَجَلاَمِيد الحَرَّة حتى سكَت، أي: سكَن، ومات، وكأن حركته
    واضطرابه من الحجارة صوت، ولكنه صوت يرى بالعين، فلما زالت هذه الحركة قيل
    على سبيل المجاز سكت، وقد يكون السكوت تَرْك رفْعِ الصوت بالكلام، يقول ابن
    حجر في حديث: كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد: (لا يلزم من قوله: كانوا
    يفتتحون بالحمد أنهم لم يقرءوا: بسم الله الرحمن الرحيم، وقد أطلق أبو
    هريرة السكوت على القراءة سراً)، وفي حديث زيد بن أرقم: (كنا نَتَكلَّم في
    الصلاة حتى نَزَلَت: (وقُومُوا للهِ قَانِتِينَ)، فأمْسَكْنا عن الكلام
    أراد به السُّكوت) فملامح هذه الكلمة " السكوت " تنحصر في ترك الكلام على
    الكلية، أو ترك الجهر به، فالأصل في دلالة السكوت هو ترك الكلام.

    الصمت: (الصاد والميم والتاء أصلٌ واحدٌ يدلُّ على إبهام وإغلاق، من ذلك
    صَمَتَ الرّجُل، إذا سَكَتَ ومنه قولهم: لقيتُ فلاناً ببلدة إِصْمِتَ، وهي
    القَفر التي لا أحد بها، كأنها صامتةٌ ليس بها ناطق)، وفي القرآن الكريم:
    (سَوَاءٌ عَلَيْـكُمْ أَدَعَوْتُـمُوهـُمْ أَمْ أَنْتُـمْ صَامِتونَ)
    [الأعراف 193]، أي سكتم سكوتاً طويلاً، (فصمت و أَصْمَتَ: أَطالَ السكوت..
    ويقال للرجل إِذا اعْتَقَل لسانُه فلـم يتكلـم: أَصْمَتَ، وفـي الـحديث:
    أَصْمَتَتْ أُمامة بنتُ العاص أَي اعْتَقَل لسانُها يقال: الصَّمْتُ
    حُبْسَة،.... ويقال فـي مَثَلٍ: سَكَتَ أَلفاً ونَطَقَ خَـلْفاً، للرجل
    يُطيل الصَّمْتَ، فإِذا تكلـم تكلّـم بالـخطأ، أَي سكت عن أَلف كلـمة ثم
    تكلـم بخطأ)، وفي الحديث: (والبكر رضاها صمتها)، أي: تبين بطول صمتها)،
    فملامح الصمت تظهر في إطالة السكوت، وحبسة اللسان، وكأن في الصمت قوة خارجة
    ترغم المتكلم على السكوت وإطالة هذا السكوت، أو حبس النفس عن الكلام، وفي
    حديث: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت))، جاء في
    رواية البخاري: ((أو ليصمت))، ويعلق المناوي على الفرق بين السكوت والصمت
    فيقول: "إن الصمت أخص، لأنه يعني: السكوت مع القدرة وهذا هو المأمور به".

    الإِطْراقُ: هو السكوت عامة، وقـيل: السكوت من فَرَقٍ ورجل مُطْرِقٌ
    ومِطْراقٌ، وطِرِّيق: كثـير السكوت، وأَطْرَقَ الرجل إِذا سكت فلـم يتكلـم،
    وأَطْرَقَ أَيضاً أَي أَرخى عينـيه ينظر إِلـى الأَرض، وفـي حديث نظر
    الفجأة، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أَطْرِق بصَرك))، والإطْراقُ: أن
    يُقْبل ببَصره إلى صَدْرِه ويَسْكُت، وفي الحديث: "فأطْرق ساعَة"، أي سَكت
    وفي حديث آخر: " فأطْرَق رأسَه " أي أمالَه وأسْكَنه، وهذا يعني أن في
    الإطراق بعض الخصوصية فمنها: أنه ناشئ من حركة القلب بالخوف، ومنها: أن فيه
    حركة من العين إلى أسفل جهة الصدر، ومنها: أن فيه مدة طويلة، أو تكرار
    السكوت حتى يعرف به صاحبه.

    الإنصات: (الإنصات: هو السكوت للاستماع أو السكوت والاستماع)، وقال ابن
    حجر: (وقع التفريق بين الإنصات والاستماع في قوله تعالى: (وإذا قرئ القرآن
    فاستمعوا له وأنصتوا)، فالإنصات هو السكوت، وهو يحصل ممن يستمع وممن لا
    يستمع، كأن يكون مفكراً في أمر آخر، وكذلك الاستماع قد يكون مع السكوت، وقد
    يكون مع النطق بكلام آخر لا يشتغل الناطق به عن فهم ما يقول الذي يستمع
    منه، وقد قال سفيان الثوري وغيره: أول العلم الاستماع، ثم الإنصات، ثم
    الحفظ، ثم العمل، ثم النشر، وعن الأصمعي: " تقديم الإنصات على الاستماع،
    وقد ذكر على بن المديني أن الإنصات من العينين، فقال بن عيينة: وما ندري
    كيف ذلك؟ قال: إذا حدثت رجلاً فلم ينظر إليك لم يكن منصتاً).

    الوجوم: (الوُجومُ: السكوتُ علـى غَيْظٍ، وقال أَبو عبـيد: إِذا اشتدَّ
    حُزْنُه حتـى يُمْسِك عن الطعامِ فهو الواجِمُ، و الواجِمُ: الذي اشتدَّ
    حُزْنُه حتـى أَمْسَكَ عن الكلام ويقال: ما لـي أَرَاكَ واجِماً؟ وفـي حديث
    أَبـي بكر - رضي الله عنه -: أَنه لَقِـيَ طَلْـحَة فقال: ما لـي أَراك
    واجِماً؟ أَي مُهْتَمَّاً، والواجِمُ: الذي أَسْكَتَه الهمُّ وعَلَتْه
    الكآبةُ، وقـيل: الوُجُومُ الـحُزْنُ)، فالوجوم: سكوت ناشئ من الهم والحزن،
    ويصاحبه هيئة خاصة تبدو للناظر، تحمل دلالات الكتمان على شاغل تحتار فيه
    النفوس.

    الإمساك: (الميم والسين والكاف أصلٌ واحد صحيح يدلُّ على حَبْس الشيء،
    والإمساك: البُخْل، وأَمْسَكَ عن الكلام سكت، وما تَمَاسَكَ أن قال ذلك،
    أي: ما تمالك، وأصل الإمساك: حبس النفس عن الفعل..... والإمساك والكف
    يستعمل في الامتناع عما تدعو إليه الشهوة)، ولعلك تلحظ في الإمساك معنى
    الاعتلاق، والاعتصام بشيء حتى لا يقع في محذور، كما تلحظ فيه أن السياق
    يستدعي الكلام لكن السكوت فُضل عليه.

    الإعراض: يُعدّ الإعراض مبالغة في السكوت، لأنه يصاحبه حركة من الرأس
    والوجه إلى الجانب، أو إلى الخلف، وكأن الصمت وحده لا يكفي، فتدخل الوجه
    ليضيف إلى السكوت ما يدل على استحالة الكلام؛ لأن الإعراض عن الشيء هو الصد
    عنه، وغالباً ما يقترن الكره والغضب مع الإعراض.

    المبحث الثاني منزلة السكوت في عالم البيان:

    منزلة السكوت في عالم البيان، تتنوع وسائل البيان البشري عامة، وتتكاثر
    أمام الباحثين وسائل التعبير عن المعاني، وهذا التنوع الهائل تراه شاخصاً
    في هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يوصل دعوته للناس، ويقف على رأس
    هذه الوسائل: اللفظ المنطوق، فهو مدار البلاغة العربية وحلبتها التي يتسابق
    أهلها في استخراج مكنوناته، وكشف أستاره، وهو النبع الذي لا ينضب، ولا
    يجف، وهو الذي حمل مراد الله لعباده إلى يوم يبعثون؟ وهو على العموم أفضل
    من السكوت على العموم؛ لذا لن يستطيع أحد أن يُعرض عنه، أو يستبدله بغيره،
    فهو الركن الأول في البيان، والذي تراه في قول الله - تعالى -حكاية عن أهل
    النار: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير)؛ لأن البيان
    جاءهم من طريقين، الأول: هو البيان باللفظ، والذي يناسبه قوله " نسمع "،
    والآخر: البيان بغير اللفظ، والذي يناسبه قوله " أو نعقل " ففهم المعاني
    يأتي عن طريق السمع، وهو إحدى الحواس، أو عن طريق النظر، أو غير ذلك من
    الحواس، التي تغذي المتلقي، بالدلالات التي تُحمل بوسائل مختلفة عن اللفظ
    المسموع، ولا يمكن إغفال البيان بها، حتى وإن كانت تدور في كنف اللفظ،
    وترتبط به من قريب أو من بعيد، والبيان كما قال الجاحظ: "اسم جامع لكل شيء -
    أكرر هذه العبارة: اسم جامع لكل شيء - كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجب دون
    الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله، كائناً ما كان ذلك
    البيان، ومن أي جنس كان ذلك الدليل؛ لأن مدار الأمر، والغاية التي إليها
    يجرى القائل والسامع إنما هي الفهم والإفهام، فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت
    عن المعنى فذاك هو البيان في ذلك الموضع"، وفي تفسير ابن المقفع للبلاغة
    يقول: " البلاغة اسم جامع لمعانٍ تجري في وجوه كثيرة فمنها ما يكون في
    السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة ومنها ما
    يكون في الحديث"، ولا تعجب حين ترى خلف السكوت بلاغة قد لا تجدها في بلاغة
    الكلام، فالسكوت جزء من البيان الذي علمه الله - تعالى - للإنسان، وامتن
    عليه بذلك فقال - سبحانه -: (الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان)،
    ورحم الله الإمام عبد القاهر، فلقد قال لافتا الانتباه إلى مثل ذلك في باب
    الحذف: "هذا باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك
    ترى فيه ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك
    أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن"، فالإمام عبد
    القاهر وإن كان يتحدث عن الحذف أثناء الكلام، إلا أن إشارته في الإعراض عن
    اللفظ، وعدم التصريح به، وأنك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، يشمل السكوت عن
    الكلام أيضاً، ففي مركوز الفطرة أن السكوت قد يفيد من المعاني ما لا يفيده
    اللفظ، وحين يفهم الصحابة شيئاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم
    لا تجد لفظاً منطوقاً، فينبغي أن تقف لتسأل: من أين فهموا ما فهموه؟ وما
    وسيلة البيان التي رجعوا إليها في فهم تلك المعاني مع عدم وجود اللفظ؟
    فالحياء مثلاً، وهو خلق الإسلام الأول لا يدل عليه إلا بالسكوت، والعرب
    تقول في خطبها: "ولا يحملك الحياء على السكوت عما يضرك ألا تبينه، فإن
    الكلام سلاح السلم، وبالأنين يعرف ألم الجرح"، ومع ذلك لم يخل السكوت من
    معان أخرى، قد يدل عليها بالألفاظ، لكن المتكلم في بعض السياقات يؤثر
    الدلالة عليها بالسكوت، لأنهم رأوا فيه زخماً من الدلالات التي قد لا يقوى
    اللفظ على حملها، أو يطول به السياق، فتراهم يقولون: وربما كان السكوت
    جواباً، ووضعوا في كتبهم أبواباً للسكوت وفضله، وقالوا: بلغنا أن الحكمة
    عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت والعاشر في عزلة الناس" ومن هنا كان الوقوف
    على البيان بغير اللفظ أمراً مهما للباحث عن البيان العربي، وهذا أمر لا
    يمكن إغفاله، والاكتفاء بالألفاظ، فما دام هناك معنى مفهوم فهناك وسيلة
    للبيان لا بد من الإمساك بها، وإظهارها لأهل الفصاحة، والبيان، ولقد سبق لي
    بحث في البيان بالإشارة في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا شاء
    الله - تعالى -أتبعت هذا البحث بالوسائل الأخرى للبيان، من خط، وعقد، وحال،
    فهذه هي وسائل البيان البشري على الإطلاق، ويحتل السكوت فيها مرتبة عالية،
    تكاد تلي البيان باللفظ، لماذا؟ لأنه قسيم الكلام في البيان، ولأنه
    الوسيلة الأكثر استخداما في حياة الرسول الكريم، الذي أُُُُُُرسل ليبين
    للناس، ثم تراه يسكت أكثر مما يتكلم، وهذا دليل واضح على أن سكوته - صلى
    الله عليه وسلم - كان وسيلة من وسائل البيان للناس، وهي وسيلة تحتاج إلى
    تحليل وفهم، كما أن كلامه يحتاج إلى تحليل وفهم، فعن أبي الدرداء أن رسول
    الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما
    حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فان الله لم يكن
    ينسى شيئاً)). لاحظ هنا أن رسول الله جعل السكوت ذا دلالة، وهي دلالة العفو
    والمسامحة في أمر الحلال والحرام، فقال: ((وما سكت عنه فهو عفو))، فإذا
    جئت لتبحث في شأن المعاني عامة، والأخلاق خاصة فإنك ترى معاني كثيرة يدل
    عليها بالسكوت، فمثلاً التواضع: يكون غالباً بالسكوت، وكظم الغيظ: يكون
    بالسكوت وفي الحديث: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو
    ليسكت))، فليس معنى " أو ليسكت " أنه لا كلام عنده، ولا معنى في قلبه،
    وإنما عنده كلام كثير، لن يؤدي إلى خير، ولكي يفهم السامعون ذلك دل عليه
    بالسكوت، وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: ((إن جبريل
    وميكائيل أتياني فقعد جبريل على يميني، وميكائيل على يساري، فقال جبريل:
    اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل: استزده، حتى بلغ سبعة أحرف..، فنظرت
    إلى ميكائيل، فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة، لا حظ هذا " فسكت فعلمتُ "
    يعني أنه - صلى الله عليه وسلم - فهم من السكوت معنى، وهذا المعنى المفهوم
    لم يدل عليه بلفظ، وعلى هذا السبيل سار الصحابة ففهموا من رسول الله، ما
    قاله وما سكت عنه، وما صرح به، وما لم ينطق به، وكان - صلى الله عليه وسلم -
    يسكت حين لا يرى للكلام مقاماً يناسبه، ومن ذلك: أنه - صلى الله عليه وسلم
    - دعا بني هاشم، حين نزل قول الله - تعالى -: ((وأنذر عشيرتك الأقربين))
    [الشعراء 214]، لا حظ هنا أنه مأمور بالإنذار، وعليه أن يبدأ بالأقربين،
    فحضروا، ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا خمسة وأربعين رجلا،
    فبادره أبو لهب، وقال: هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك فتكلم ودع الصباة، واعلم
    أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك، وإن
    أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب عليك بطون قريش، وتمدهم
    العرب، فما رأيت أحداً جاء على بني أبيه بشر مما جئت به، فسكت رسول الله
    ولم يتكلم في ذلك المجلس، نعم سكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم
    يتكلم. والسؤال: لم سكت وقد جمعهم ليبلغهم؟ وهل السكوت هنا أبلغ أم أن
    الكلام لن يجدي نفعاً؟ وما الذي فهموه من السكوت؟ أم أن السكوت لا يدل على
    شيء؟ لقد سكت كما سكتت السيدة العذراء مريم، حين قالت: (إني نذرت للرحمن
    صوماً فلن أكلم اليوم إنسيا) [مريم 26]؛ لأن الكلام في هذا المقام لن يغني
    شيئا، فالجميع مشحون بحالة من الانفعال التي تجعل الآذان مغلقة عن سماع أي
    شيء.

    إن الذي لا أشك فيه: أن السكوت هنا حمل من الدلالات مالا يحمله الكلام،
    هذه الدلالات تستطيع أن تتفكر فيها حين تدرك أن القصد ليس إلقاء عبارات في
    الهواء، ثم المضي قدماً دون أن يلوي على شيء، بل القصد توصيل رسالة ذات
    ملامح محددة، وهذه الرسالة لا يستطيع اللفظ ولا المقام ساعتها أن يتحملها،
    فأرجئت إلى وقت آخر، لأن المقام مشحون بالتوتر، والانفعال الذي يطمس الكلام
    طمساً، وحين تُعرض القلوب عن الإنصات فمن الحكمة الصمت، كما أنك تلحظ أن
    السكوت حمل دلالات الغضب، والحزن، والشعور بخيبة الأمل في أقرب الناس إليه،
    كما حمل الإصرار على ما دعاهم إليه، وإرجائه إلى وقت آخر، تهدأ فيه
    النفوس، وتلين له القلوب.

    المبحث الثالث: من بلاغة السكوت في بيانه - صلى الله عليه وسلم -:

    تحليل مواضع السكوت في بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - السكوت أخو
    الرضا: إن الرضا في البيان العربي لا يكاد يدل عليه إلا بالسكوت مثل موافقة
    البكر على الزواج فحياؤها يمنعها من الكلام وفي الحديث: ((لا تنكح الأيم
    حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن))، قالوا: يا رسول الله، وكيف
    إذنها، قال: ((أن تسكت))، فالسكوت هنا رضى وموافقة ولامانع من الإنكار
    والرفض، ولقد جرى العرف العربي بأن السكوت الناتج عن الحياء يعني الموافقة،
    وهنا سؤال: من أين فُهمت الموافقة؟ إنها لم تفهم من السكوت فقط، ولكنها
    فهمت من الأحوال والملابسات المصاحبة للسكوت، وهذه الأحوال تشير إلى أن
    الأبلغ، والأعلى في البيان عن الموافقة يكون في هذا المقام بالسكوت، لماذا؟
    لأنه سؤال عن الزواج، وسؤال للفتاة البكر، وسؤال من الولي وليس من صاحبةٍ
    أو جارة، وكل ذلك يدفع إلى اتجاه السكوت عند الرضى؛ لأنه الأبلغ من الكلام،
    ولأنه دليل الحياء والدين، وقد يدل على الرضى حين يبتدأ المقام بالرفض، ثم
    يتبع ذلك بالسكوت فيفهم من السكوت التالي للرفض أنه موافقة ورضى، ومن ذلك
    حديث مصعب بن سعد عن أبيه أنه قال: " مرضت فأرسلت إلى النبي - صلى الله
    عليه وسلم -، فقلت دعني أقسم مالي حيث شئت، فأبى، قلت فالنصف؟ فأبى، قلت:
    فالثلث؟ قال فسكت بعد الثلث، فكان بعدُ الثلث جائزاً "، فالسكوت هنا لم يكن
    مطلقاً، وإنما جاء بعد رفض منطوق، فلما سكت بعد الكلام دل ذلك على أن
    السكوت يفيد الموافقة.

    لكن يبقى السؤال: لم أوثر السكوت هنا؟ إن إيثار السكوت هنا يشير إلى أن
    الموافقة غير مستقرة الاستقرار الكامل، ولذلك جاء في بعض الروايات الموافقة
    بالكلام، حيث قيل: ((الثلث، والثلث كثير))، فكأن السكوت هناك موافقة
    منقوصة، أو ليست كاملة، وقد نقل البيضاوي "أنه - صلى الله عليه وسلم - مر
    بعزف دف، فقال: ((ما هذا))؟ قالوا: ختان، فسكت"، فهل السكوت هنا أمارة
    الرضى؟ الظاهر يؤيد هذا، ولا ينبغي الزيادة على ذلك، فالمقام يباح فيه ما
    يباح عند كل مناسبة سعيدة، ولا يعني هذا أن السؤال كان نتيجة لسماع ما
    يخالف الشرع، ولكنه بسبب سماع ما ينبغي المشاركة فيه من رائد الناس،
    وكبيرهم، فلما كان المقام لا يستحق كبير عناء، اكتفى - صلى الله عليه وسلم -
    بالسكوت، تعبيراً عن رضاه بما يسمع من إظهار البشر والسرور بالمولود.

    ووقع في كتب الأصول ما يسمى بالإجماع السكوتي، فالإجماع نوعان: إجماع
    صريح يبدي فيه كل مجتهد رأيه ويعلنه، وإجماع سكوتي أو ضمني حيث يكتفي
    المجتهد فيه بالصمت بعد أن يعلم بما حكم به الآخرون، وصورته إعلان فتوى من
    أحد المجتهدين في مسألة اجتهادية عرفت أمامه، وعلم بها بقية المجتهدين
    فسكتوا ولم يعلنوا رفضها، فالسكوت هنا إقرار بالفتوى؛ لأن المفروض في
    المجتهد العدالة، والعدالة تقتضي إعلان المخالفة متى وجدت دواعيها، فالسكوت
    هنا رضاء معتبر، ولا يكون السكوت كذلك إلا إذا فهم المجتهد الأمر، وأمن من
    الجور، والمثبتون لحجية الإجماع السكوتي يختلفون في درجة حجيته، فبعضهم
    يرى أن الإجماع السكوتي حجة قطعية، متى ثبت فهو كالإجماع الصريح سواء
    بسواء، والبعض الآخر يقولون بأنه حجة ظنية؛ لأن ثبوت الإجماع السكوتي أساسه
    رجحان احتمال الموافقة على المخالفة، وهو يورث الشبهة في دلالة الإجماع،
    ومع الشبهة لا وجود للقطعية، فيترجح القول بأنه حجة ظنية، إلا إذا كان هناك
    نص على أن المفهوم هو الرضا، أو أن المقام لا يفهم منه إلا الرضا. ومن ذلك
    ما رواه سيدنا (جابر بن عبد الله، أن أبي بن كعب: جاء إلى النبي - صلى
    الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله عملت الليلة عملاً قال: ((ما هو))؟
    قال: نسوة معي في الدار قلن: إنك تقرأ ولا نقرأ فصل بنا، فصليت ثمانياً
    والوتر، قال: فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: فرأينا أن سكوته
    رضا)، فهذا نص على أن المفهوم من السكوت هو الرضا، ولو كان الأمر فيه
    مخالفة لنبهه إلية، أو نهاه عنه، أو أضاف إليه من الشروط ما يصححه، وكل ذلك
    لم يكن، مما دل على صلاة الرجل بالنساء في البيت جائزة ولا شيء فيها.

    ومما يؤكد هذه الدلالة ما جاء عن استخلاف سيدنا أبي بكر على الناس فلقد
    جاء (عن أبي بكر بن عياش أنه قال: قال لي الرشيد: كيف استخلف أبو بكر - رضي
    الله عنه -؟ قلت: يا أمير المؤمنين سكت الله، وسكت رسوله، وسكت المؤمنون،
    فقال: والله ما زدتني إلا عمى، قلت: مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
    ثمانية أيام فدخل عليه بلال فقال: مروا أبا بكر يصلي بالناس، فصلى بالناس
    ثمانية أيام والوحي ينزل، فسكت رسول الله لسكوت الله، وسكت المؤمنون لسكوت
    رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعجبه ذلك، وقال بارك الله فيك)،
    فالصحابي الجليل استنبط من السكوت الذي كان من السماء، وعدم استحداث وحي في
    شأن صلاة أبي بكر بالناس، وكذا سكوت رسول الله ثمانية أيام، وعدم استبدال
    أبي بكر بغيره أثناء المرض، أو حتى جعل الصلاة بين مجموعة من الصحابة، بحيث
    يصلي كل واحد منهم يوماً، بل ظل أبو بكر وحده يصلي بالناس، بأمر من رسول
    الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك سكت الصحابة على هذه الولاية في
    الصلاة، وفي الناس من هو أقرأ من أبي بكر - رضي الله عنه -، كل هذا السكوت
    فهم منه الصحابي الجليل ارتضاء أبي بكر لخلافة الرسول - صلى الله عليه وسلم
    - بعد موته، وقد كان.

    والقاعدة التي تكاد تلمحها من وراء تلك النصوص أن السكوت على شيء هو رضا
    به، وموافقة عليه، ما دامت القدرة على الرفض موجودة، ولا يوجد مانع من
    الاعتراض من داخل النفس، أو من خارجها.

    دلالة السكوت على الرفض: إذا كان السكوت في بعض المقامات يفيد الرضى،
    فإنه في مقامات أخرى يفيد الاعتراض والرفض، ولا شك أن للسياق والمقام أثراً
    بالغاً في فهم هذه الدلالة ومن ذلك ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
    أنه كان جالساً في المسجد في أصحابه، فجاءه اليهود " فقالوا يا أبا
    القاسم، ما ترى في رجل وامرأة - منهم - زنياً؟ فلم يكلمهم النبي - صلى الله
    عليه وسلم -، حتى أتى بيت مدراسهم، فقام على الباب، فقال: أنشدكم بالله
    الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على موسى على من زنى إذا
    أحصن؟ فقالوا: يحمم وجهه، ويجبه، ويجلد، (والتجبية أن يحمل الزانيان على
    حمار وتقابل أقفيتهما، ويطاف بهما) قال: وسكت شاب منهم فلما رآه النبي -
    صلى الله عليه وسلم - سكت ألظّ به النشدة، فقال: اللهم إذ نشدتنا، فإنا نجد
    في التوراة الرجم: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فإني أحكم بما في
    التوراة، فأمر بهما فرجما)، فهنا موضعان للسكوت، الأول من رسول الله حين
    سئل، والآخر من الشاب اليهودي حين سئلوا عن حكم التوراة، وكلا الموضعين
    يفيد الرفض.

    أما سكوت النبي، وعدم إجابته على سؤالهم فلأنه أراد أن يحكّم فيهم
    التوراة، ففيها حكم الله، لذلك قال القرآن الكريم: (وكيف يحكمونك وعندهم
    التوراة فيها حكم الله) [المائدة 43]، فالسكوت هنا دليل على أنهم ما أرادوا
    حكم الله وإنما وهموا بأن يكون هناك عند رسول الله حكم أخف من الرجم.

    أما سكوت الشاب اليهودي فمرده الاعتراض على إجابة اليهود بأن حكم
    التوراة هو الجلد، وهذا ما دعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن
    يلتفت إليه ويعيد مناشدته، لعلمه أن سكوته ناشئ عن رفض، فليس كل من سكت
    يقال: راض، وإلا لأصبحنا جميعاً راضين بهذه الأحوال التي ألمت بالأمة
    المسلمة، وهي أحوال لا ترضي أحداً، فالسكوت في زماننا دليل الرفض الصارخ،
    والاعتراض الذي لا يقوى الكلام على حمل مضامينه، وإن فهم الغافلون بأن
    السكوت رضا، فذرهم وما يفترون، فهل هذه المنكرات التي في حياة الناس حق
    وعدل؟! هل هذه المنكرات التي يقف من خلفها الجبابرة والظلمة، هل السكوت
    عنها يدل على الرضى؟ !!!! أم أنه يدل على العجز، والضعف الذي ألم بالأمة
    حتى صارت لا تقوى على المنكر إلا بالسكوت عنه، واكتفت بتغييره بالقلب؟!
    وأين : ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم
    يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))؟! وهل ترى إيماناً أضعف من إيمان الناس
    في ذلك الزمان الذي صار السكوت دلالة الرفض، وليس دلالة الرضى؟!.

    ومن شواهد دلالة السكوت على الرفض ما جاء عن أبي مرثد الغنوي أنه كان
    يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغيّ، يقال لها عناق، وكانت صديقته، قال: جئت
    إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت يا رسول الله أنكح عناق؟ قال:
    فسكت عني، فنزلت: (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على
    المؤمنين) [النور- 3]، فدعاني فقرأها علي، وقال: ((لا تنكحها))، فالسكوت
    هنا من المعصوم دل على الرفض، وهو هنا أبلغ من الكلام؛ لأن في الكلام
    مروراً على اسم هذه البغي، أو تعريضاً بها، وهذا لا يناسب مقام النبوة، ولا
    أهداف الإسلام في الستر، فكان السكوت هنا أبلغ في الرفض من التصريح.

    وفي فتح الباري في قصة المرأة التي وهبت نفسها للرسول - صلى الله عليه
    وسلم -، ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - طأطأ رأسه، وهو بمعنى قوله: فصمت،
    ثم عرضت نفسها عليه فصمت، فلقد رأيتها قائمة ملياً تعرض نفسها عليه، وهو
    صامت، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً جلست... فكأنه صمت أولاً
    لتفهم أنه لم يردها، وفهمت من السكوت عدم الرغبة لكنها لما لم تيأس من الرد
    جلست تنتظر الفرج، وسكوته - صلى الله عليه وسلم - إما حياء من مواجهتها
    بالرد، فلقد كان - صلى الله عليه وسلم - شديد الحياء، كما تقدم في صفته أنه
    كان أشد حياء من العذراء في خدرها، وإما انتظاراً للوحي، وإما تفكراً في
    جواب يناسب المقام)، فالصمت هنا أبلغ من الكلام لعدة أسباب:

    أولها: أنه لم يعهد من رسول الله أن سبق له الزواج من هذا الطريق، بأن
    تعرض امرأة نفسها عليه ثم يقبل، فهذا أمر جديد، وليس عند رسول الله فيه
    توجيه من السماء، وهذا يستدعي الانتظار والتريث قبل الرد بالموافقة أو
    الرفض.

    ثانيا: أن رسول الله لم يتزوج إلا لغاية دينية، ولا غاية هنا يراها.

    ثالثا: أن التصريح بالرفض لا يتوافق مع حيائه - صلى الله عليه وسلم -.

    رابعا: أن التصريح بالرفض لا يتوافق مع شعور المرأة خاصة أمام جمع من الصحابة.

    خامسا: أن التصريح بالرفض قد يعيب المرأة فلا يتقدم أحد لخطبتها، لكن الصمت حفظ لها مكانتها حتى قام أحد الصحابة خاطباً لها وقد كان.

    ويرى البعض أن سكوته دليل القبول، ليس قبولاً للزواج منها، (وإنما
    قبولاً لمبدأ الهبة وإلا لما سكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه
    لا يقر على الباطل إذ أنه يحتمل أن يكون سكوته منتظراً بياناً، فنزلت الآية
    بالتحليل والتخيير، فاختار تركها وزوجها من غيره، ويحتمل أن يكون سكت
    ناظراً في ذلك حتى قام الرجل لها طالباً).

    ومن شواهده أيضاً ما رواه الحاكم (عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت:
    كلمنني صواحبي أن أكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر الناس
    فيهدون له حيث كان، فإن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة - رضي الله عنها
    -، وإنا نحب الخير كما تحبه عائشة فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
    فلم يراجعني، فجاءني صواحبي فأخبرتهن بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم
    يكلمني، فقلن والله لا تدعيه، وما هذا حين تدعيه، قالت: فدار، فكلمته فقلت
    إن صواحبي قلن لي: أن أكلمك تأمر الناس فيهدون لك حيث كنت، فقلت له: مثل
    المقالة الأولى مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يسكت عنها رسول الله - صلى الله
    عليه وسلم - ثم قال: ((يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإني والله ما نزل
    الوحي علي وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة))، قالت، فقلت: أعوذ بالله أن أسوءك
    في عائشة)، فسكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المرة الأولى والثانية
    دليل قاطع على رفضه فكرة مخاطبة الناس في شأن هداياهم، والسيدة أم سلمة
    فهمت ذلك، لكنها أعادت كلامها لإلحاح زوجات النبي عليها.

    لكن السؤال: ما العلاقة بين نزول الوحي وهدايا الناس؟ ولماذا كان الرد
    هو: ((فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة))؟ إن الذي ألمحه
    هنا أن الأمر متعلق برغبته - صلى الله عليه وسلم - في قضاء حوائج الناس،
    فما دام الوحي لا ينزل إلا في بيت عائشة - رضي الله عنها - فليأت الناس
    بهداياهم، ولا يخلو الأمر حين الهدية من سؤال، أو طلب حاجة في الدين، فليأت
    الناس بهداياهم، وليسعدوا بإجابة الوحي على ما يسألون عنه، وليس في الأمر
    حرمان للنساء من طعام الناس، فالطعام يوزع على الجميع، وبهذا نفهم أن رسول
    الله لم يوجه الناس، ولم يأمرهم أن يوزعوا هداياهم على جميع الأيام، وعند
    جميع النساء حتى يوافق بهداياهم نزول الوحي، فيسألوا عن أمورهم في وجود
    الوحي، أو عند نزول الوحي فتكون الإجابة حاضرة، أما إذا قلت ولم ينزل الوحي
    في بيت عائشة وحدها، وفي ليلتها؟ فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ومن نماذج
    دلالة السكوت على الرفض ما رواه أبو هريرة في قصة ماعز، وإقامة الحد عليه،
    فلقد جاء في رواية: (فقال: هل تدري ما الزنا؟ قال: ((نعم))، أتيت منها
    حراماً كما يأتي الرجل من امرأته حلالاً، قال: ((فما تريد بهذا القول))؟
    قال: أريد أن تطهرني، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرجم،
    فرجم، فسمع رجلين من الأنصار يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر
    الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلب، قال: فسكت رسول الله - صلى الله
    عليه وسلم - عنهما، ثم سار ساعة، فمر بجيفة حمار شائل برجله، فقال: ((أين
    فلان وفلان))؟ فقالا: نحن ذا يا رسول الله، فقال لهما: ((كلا من جيفة هذا
    الحمار))، فقالا: يا رسول الله، غفر الله لك، من يأكل من هذا؟! فقال رسول
    الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما نلتما من عرض هذا الرجل آنفا أشد من أكل
    هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة))، لا شك أن
    الإنكار والرفض، وبيان فحش ما قالوه لن يبلغ درجة هذا المشهد الذي تجسد
    أمامهم في أمرهم بالأكل من الجيفة، وأي كلام يبلغ هذه الدرجة؟! لقد سكت
    رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليس لأنه رافض فقط لكلامهم، ولكن لأن
    الكلام في هذا السياق لا يحمل المعنى الذي يريد - صلى الله عليه وسلم - أن
    يوصله إليهم، لقد توارى اللفظ ساعة، حتى حانت الفرصة فاستثمرها في بيان قبح
    ما قالوه.

    دلالة السكوت على الانتظار: هناك أمور كثيرة تحتاج إلى فكر وروية،
    وإدراج الأمر على القلب لاستفتائه، أو العقل لمراجعته، أو الوحي لاستشارته،
    أو حتى انتظار الفرصة ليكون الكلام أبلغ، وعندها يفضل السكوت، وفي كل ذلك
    لا ينفع التعجل بالكلام، ويظهر السكوت عاليَ الصوت ليبين للسامع أن الأمر
    في حالة مراجعة، لإخراج الأنسب من الإجابات، ولا يعني السكوت أبدا التردد،
    أو الاضطراب، وفي الحديث الشريف كثير من هذه النماذج، ومنها حديث أبي سعيد
    الخدري: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أكثر ما أخاف
    عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض))، قيل: وما بركات الأرض؟ قال:
    ((زهرة الدنيا))، فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشر؟ فصمت النبي - صلى الله
    عليه وسلم -، حتى ظننت أنه يُنزّل عليه، ثم جعل يمسح عن جبينه، فقال:
    ((أين السائل))؟ قال: أنا، قال أبو سعيد: لقد حمدناه حين طلع لذلك، قال:
    ((لا يأتي الخير إلا بالخير، إن هذا المال خضرة حلوة، وإن كل ما أنبت
    الربيع يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر، اختلفا، حتى إذا امتدت
    خاصرتاها، استقبلت الشمس، فاجترت، وثلطت وبالت، ثم عادت فأكلت، وإن هذا
    المال حلوة، من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنعم المعونة هو، ومن أخذه بغير حقه
    كان كالذي يأكل ولا يشبع))، فالسكوت هنا يشعرك بأن السؤال كان نتيجة أصول
    معتبرة أقرها الإسلام، وخالف بعضها بعضاً، وأراد الصحابي الجليل أن يستبين
    الأمر، فالإسلام يقر بأن المال خير، قال - تعالى -: (وإنه لحب الخير لشديد)
    [العاديات 8]، ثم يأتي هذا الحديث ليقول: إن هذا الخير الذي يبسط للناس
    مصدر خوف وقلق من رسول الله على أمته، وهنا يطرأ السؤال، وهل الخير يستجلب
    الشر؟ وهو سؤال معتبر، واستدعى السكوت حتى يتبين الأمر من الوحي، أو من
    القلب، أو حتى من العقل، وهنا تدخل الوحي ليحسم الأمر، وليزيل الإبهام،
    فالخير لا يأتي إلا بالخير، لكن الشر يكمن في التعامل مع هذا الخير،
    وتوجيهه حيث يحب الله - تعالى -، فالمال - من حيث هو زهرة الدنيا ونعيمها -
    خير كبير، ولكن حين يرمي به في مصرف السوء يتحول هذا الخير إلى وبال على
    صاحبه، وهب أنك تتحدث عن الصلاة أو الصيام، فكلاهما من حيث أنهما فريضتان
    خير كبير، ولكن حين تلهيك النوافل عن اكتساب قوت يومك، أو الإنفاق على
    عيالك فتعرضهم للضياع يتحول الأمر إلى شر، وهذا ما أراد الحديث أن يجليه
    للصحابة، فبدأ بالسكوت ليستقر السؤال في عقول الجميع، ويبحث كل منهم في
    مدركاته عن إجابة، فلا يجد، ويظنون أن الأمر فيه حرج لرسول الله - صلى الله
    عليه وسلم - حتى (أنهم لامو الرجل، حيث رأوا سكوت النبي - صلى الله عليه
    وسلم -، فظنوا أنه أغضبه، ثم حمدوه آخرا لما رأوا مسألته سببا لاستفادة ما
    قاله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالمال ولو كثر فهو من جملة الخير
    وإنما يعرض له الشر بعارض البخل به عمن يستحقه، والإسراف في إنفاقه فيما لم
    يشرع وأن كل شيء قضى الله أن يكون خيراً فلا يكون شراً، وبالعكس، ولكن
    يخشى على من رُزق الخير أن يعرض له في تصرفه فيه ما يجلب له الشر، كأن
    يدعوهم المال إلى الطغيان، والظلم، ولذلك علق ابن كثير على قوله - تعالى -:
    (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) [الشورى 27]، فقال: أي: لو
    أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على
    بعض أشراً وبطراً) لذلك جاءت رواية تقول عن المال: "أَوَ خير هو؟ " ثلاث
    مرات وهو استفهام إنكاري، أي: إن المال ليس خيراً حقيقاً، وإن سمي خيراً،
    لأن الخير الحقيقي هو ما يعرض له من الإنفاق في الحق، كما أن الشر الحقيقي
    فيه ما يعرض له من الإمساك عن الحق، والإخراج في الباطل)، وهذا وجه آخر
    لتفسير السكوت، وكأن السكوت كان تعجبا من النظر إلى المال على أنه خير وهو
    في الحقيقة شر، وإنما يعرض الخير له إن أنفق في الحق.

    ومن نماذج دلالة السكوت على الانتظار، دون أن يراد القبول أو الرفض ما
    جاء في قصة استئذان سيدنا عمر بن الخطاب على رسول الله - صلى الله عليه
    وسلم - حين أشيع أنه طلق زوجاته، وكان الغلام يستأذن لعمر، وكان رسول الله
    يسكت، فالسكوت هنا ليس رفضاً للدخول، وإنما هناك شاغل صرف النفس عن استقبال
    الفاروق يقول ابن حجر: "وفيه أن السكوت قد يكون أبلغ من الكلام، وأفضل في
    بعض الأحايين لأنه - عليه الصلاة والسلام - لو أمر غلامه برد عمر لم يجز
    لعمر العود إلى الاستئذان مرة بعد أخرى، فلما سكت فهم عمر من ذلك أنه لم
    يؤثر رده مطلقاً"، بل وأعاد الاستئذان حتى سمح له بالدخول.

    وفي مقام آخر يكون السكوت انتظاراً لتنفيذ شيء أمر به رسول الله، كما في
    قصة عبد الله بن أبي السرح، وكان كاتباً للوحي، ولما نزلت الآية التي في
    سورة المؤمنون (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) [آية 12]، دعاه النبي -
    صلى الله عليه وسلم - فأملاها عليه فلما انتهى إلى قوله: (ثم أنشأناه
    خلقاً آخر]، عجب عبد الله في تفصيل خلق الإنسان، فقال: (تبارك الله أحسن
    الخالقين)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هكذا أنزلت عليّ))،
    فشك عبد الله حينئذ، وقال، لئن كان محمد صادقاً لقد أوحى إلي كما أوحي
    إليه، ولئن كان كاذباً لقد قلت كما قال، فارتد عن الإسلام، ولحق بالمشركين،
    فلما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة أمر بقتله، وقتل عبد الله
    بن خطل، ومقيس بن صبابة، ولو وجدوا تحت أستار الكعبة، ففر عبد الله بن أبي
    سرح إلى عثمان - رضي الله عنه -، وكان أخاه من الرضاعة، أرضعت أمه عثمان،
    فغيبه عثمان حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما اطمأن أهل مكة
    فاستأمنه له، فصمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طويلاً، ثم قال: نعم،
    فلما انصرف عثمان، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما صَمَتُّ إلا
    ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه، فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إليّ يا
    رسول الله فقال: إن النبي لا ينبغي أن تكون له خائنة الأعين)، وهذا مقام لا
    يصلح فيه كلام ألبتة، ولو راجعت الموقف، لا تجد ألفاظاً تصلح له، فقط
    السكوت، والسكوت وحده، هو الذي يستطيع أن يحمل تلك المعاني المتداخلة،
    فهناك رجل ثلم في الإسلام ثلمة، كادت تطيح بقواعده، وكان موقعه من رسول
    الله موقعاً قريباً، فلقد كان من كتاب الوحي، ثم ارتد عن الإسلام، وهذا ترك
    أثراً بالغا في قلوب الناس، ثم هاهو قد جاء يطلب الأمان، وجاء معه عثمان
    بن عفان، والرواية لم تقل إنه جاء مسلماً أو تائباً، إنما جاء طالباً
    الأمان ممن بُعث رحمة للعالمين، فالرجل ما زال على كفره، فهل ترى للألفاظ
    هنا موضعاً؟ ولو أنك درت بخيالك، لتبحث عن كلام فلن تجد، فماذا يقال هنا؟
    إنك لن تجد غير الصمت، والعجيب أن الصحابة توقفوا عند هذا الصمت، ولم
    يفهموا منه إلا التريث، والانتظار حتى يصدر أمر آخر، لأن الأمر الأول
    بالقتل ينقضه واقع مشاهد أمام أعينهم يرون فيه الرجل جالساً أمام رسول
    الله، ومعه عثمان بن عفان، وظن القوم أنه لو أراد رسول الله قتله لأومأ
    بعينه، وحاشاه أن تكون له خائنة الأعين، ومضى الموقف يحوطه الصمت، فرسول
    الله ينتظر من الصحابة تنفيذ الأمر الذي صدر سابقاً، والصحابة ينتظرون
    إشارة لأن الرجل بين يدي رسول الله، فلما طال الانتظار، لم يكن بد من إعطاء
    الأمان للرجل، وإنفاذ إجارة سيدنا عثمان بن عفان، وقد كان.

    وجاء في رواية أن عبد الله بن أبي السرح جاء مبايعاً، ومد يده ثلاث مرات
    ورسول الله لا يبايعه، وينتظر من الصحابة قتله، حتى قال الخطابي: "وفيه أن
    التوبة عن الكفر في حياته - صلى الله عليه وسلم - كانت موقوفة على رضاه -
    صلى الله عليه وسلم -، وأن الذي ارتد وأذاه - صلى الله عليه وسلم - إذا أمن
    سقط قتله"، والصحابة لم يجربوا موقفاً مثل ذلك من قبل، ولم يعرفوا المقصود
    من سكوت النبي عنه، هل هو غضب، هل هو عتاب؟ هل هو رفض للمبايعة؟ أمور
    كثيرة، وما عليهم إلا الانتظار وهنا أقبل - صلى الله عليه وسلم - على
    أصحابه، فقال: ((أما رجل يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته
    فيقتله))، قالوا: ما درينا يا رسول الله ما في نفسك، فهلا أومأت إلينا
    بعينك؟ فقال: ((إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة عين)).

    دلالة السكوت على الحزن: الحزن عامل قوي في امتناع الإنسان عن الكلام،
    لكنه حين يمتزج بالغضب ينطلق اللسان من محبسه، فيذهب يميناً وشمالاً، إلا
    من رحم الله، ورُزق الحلم والأناة، فيمسك لسانه، ولقد علّم رسول الله
    صحابته ذلك بطريقة عملية حين سألته زوجاته النفقة، ولنستعرض هنا الحديث،
    ليتبين لنا قدرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، على كتمان حزنه، فعن جابر
    قال: جاء أبو بكر - رضي الله عنه - يستأذن على رسول الله - صلى الله عليه
    وسلم -، فوجد الناس جلوساً على بابه لم يؤذن لأحد منهم، قال: فأذن لأبي بكر
    - رضي الله عنه - فدخل، ثم أقبل عمر- رضي الله عنه- فاستأذن، فأذن له،
    فدخل، فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - جالساً حوله نساؤه... واجم ساكت،
    قال: فقال عمر - رضي الله عنه -: " لأقولن شيئاً أضحك النبي - صلى الله
    عليه وسلم - فقال يا رسول الله: لو رأيت ابنة خارجة سألتني النفقة، فقمت
    إليها فوجأت عنقها، قال: فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: هن
    حولي كما ترى يسألنني النفقة..... إلخ)، وهذا السكوت المفعم بالحزن فهم منه
    أبو بكر وعمر، غضب رسول الله من زوجاته، واحتياجه إلى ما يخرجه من هذا
    المقام، فما كان من سيدنا عمر إلا أنه قام بإضحاكه، وإنهاء هذا الموقف
    بالتشديد على ابنته، وكذا فعل أبو بكر - رضي الله عنهما -، وهذا الموقف لا
    يصلح معه كلام، فما الذي يمكن أن يقوله رسول الله لزوجاته ليعبر عن حزنه؟
    هل يقول إنني اخترت الآخرة على الدنيا؟ هل يقول إنه لا يليق بابنة الصديق
    وابنة الفاروق وسائر زوجات الرسول أن ينظرن إلى متاع الدنيا كما تنظر سائر
    النساء؟ هل يقول إنه ليس عندي ما أوسع به عليكن، ولا حيلة لي في ذلك؟ هل
    يلوح في الأفق شبح الطلاق؟ كل هذه الأسئلة وغيرها تدور في الذهن، ولا يحمل
    معالمها إلا السكوت؛ لذلك أوثر على الكلام هنا، حتى أضحكه سيدنا عمر، ولو
    أنك ترجمت هذا السكوت إلى عبارات، لضاق عنها السياق والمقام.

    دلالة السكوت على الغضب: قد يعجب المرء حين يرى غضباً يدل عليه بالسكوت،
    فالمعروف في عالم البشر أن الغضب يفرج عنه بالصوت العالي، وبالصراخ،
    وبالكلام الكثير، فالكلام يفتح الباب للتفريج عن النفس، بسبب ما ألم بها،
    ولقد كان من وصايا الرسول - صلى الله عليه وسلم - لصحابته أنه ((إذا غضب
    أحدهم فليسكت))، لماذا؟ لأن الغضب يجعل الإنسان في الغالب لا يعرف ماذا
    يقول، وقد يخرج منه ما يندم عليه حياته كلها، لذا أمر بالسكوت عند الغضب،
    وكان قدوة في ذلك، وإليك هذا المثال: "عن عبد الله قال: لما كان يوم بدر
    جيء بالأسارى، وفيهم العباس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما
    ترون في هؤلاء الأسارى))؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك، وأهلك
    استبقهم، لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: كذبوك، وأخرجوك، وقاتلوك،
    قدمهم واضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة: انظر وادياً كثير الحطب،
    فأضرمه عليهم، فقال العباس - وهو يسمع -: قطعت رحمك، قال: فدخل رسول الله -
    صلى الله عليه وسلم - ولم يرد عليهم شيئاً، فقال أناس: يأخذ بقول أبي بكر -
    رضي الله عنه -، وقال أناس يأخذ بقول عمر، وقال أناس: يأخذ بقول عبد الله
    بن رواحة، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((إن الله ليلين
    قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من
    الحجارة، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، قال: (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني
    فإنك غفور رحيم)، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى، إذ قال: (إن تعذبهم فإنهم
    عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)، ومثلك يا عمر كمثل نوح - عليه
    السلام -، إذ قال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً)، ومثلك يا
    عمر مثل موسى - عليه السلام -، إذ قال: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على
    قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) أنتم عالة، فلا ينفلتن أحد إلا
    بفداء، أو حصول عنق، فقال عبد الله: إ
    مرتاح بهجرك
    مرتاح بهجرك
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    تاريخ الإنضمام : 22/09/2011

    الجنسية : العراق

    عدد المشاركات : 1082

    مكسب العضو : 4717

    نقاط تقييم مواضيع العضو : 21

     البيان بالسكوت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم Empty رد: البيان بالسكوت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم

    مُساهمة من طرف مرتاح بهجرك 5/12/2011, 10:50

    الف شكرررررررررررر
    خليل إبراهيم
    خليل إبراهيم
    صاحب الموقع


    تاريخ الإنضمام : 02/12/2009

    الجنسية : أردني وافتخر

    عدد المشاركات : 9177

    مكسب العضو : 122149

    نقاط تقييم مواضيع العضو : 118

    العمر : 34

    المزاج : رايق

     البيان بالسكوت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم Empty رد: البيان بالسكوت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم

    مُساهمة من طرف خليل إبراهيم 17/1/2012, 02:22

    مشكوووووووووووووووووور على الموضوع الرائع
    المخلص الموعود
    المخلص الموعود
    المراقب العام
    المراقب العام


    تاريخ الإنضمام : 26/03/2012

    الجنسية : ذكر

    عدد المشاركات : 1045

    مكسب العضو : 2044

    نقاط تقييم مواضيع العضو : 19

     البيان بالسكوت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم Empty رد: البيان بالسكوت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم

    مُساهمة من طرف المخلص الموعود 6/4/2012, 00:35

    شكرا
    بارك الله فيك
    ننتظر منك كل جديد
    مشكور
    هيرودوت
    هيرودوت
    عضو ماسي
    عضو ماسي


    تاريخ الإنضمام : 10/04/2012

    الجنسية : يمنية

    عدد المشاركات : 878

    مكسب العضو : 1010

    نقاط تقييم مواضيع العضو : 20

     البيان بالسكوت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم Empty رد: البيان بالسكوت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم

    مُساهمة من طرف هيرودوت 12/4/2012, 15:37

    يارك الله فيك


    طرح مميز


    ننتظر حديدك


    يسسلم قلمك المبدع

      الوقت/التاريخ الآن هو 22/9/2024, 14:32