هل ما ندرسه في التاريخ -منذ بداية أولى مراحل التعليم لنهاية آخر مراحله-
يخرج
عن نطاق التخدير الخبيث للعقل، والحبس في ماضٍ تمّ فصله بالقوة عن
الحاضر
المرير، والتوجيه عن بُعد لاتجاهات وأنماط من التفكير تجعل العقل
محبوسًا
في صندوق مغلق بقفل ثقيل؟
كل المظاهر تقول إن مادة التاريخ المدرسي
قد تحوّلت إلى سجن للعقل والوعي.. ولننظر معًا..
عَدَم التناسُب
مصر
دولة مرّ عليها -منذ ميلادها- 48 نظامًا حاكمًا (فراعنة وإغريق ورومان
وعرب
ومماليك وجمهوريون... إلخ) وحكمها حوالي 600 حاكم ما بين ملوك وولاة
وسلاطين
وخلفاء ورؤساء من مينا حتى مبارك، وخلال أكثر من سبعة عصور كانت
مركز
حكم إمبراطورية تشمل المشرق العربي كله.. تغيّرت ديانة أغلبية سكانها
ثلاث
مرات، وتغيّرت لغتها السائدة ثلاث مرات، تعرّضت لمحاولات الغزو عشرات
المرات،
واحتُلَت بالفعل أكثر من سبع مرات، وحدث اندماج اختياري بينها وبين
شعوب انتقلت إليها -في شكل هجرات أو سيطرة على الحكم برضا الشعب- أكثر من
خمس
مرات، فضلاً عن وجود تمثيل لجميع أجناس وأعراق الأرض في شعبها!
ما
الذي درسناه من عناصر قيام واستمرارية وتَغَيُّر وتَبَدُّل كل تلك
المكوّنات
المهمة للمحتوى التاريخي المصري؟ تقريبًا لا شيء، مجرد كلام
إنشائي
عام عن عوامل قيام أو سقوط هذا النظام أو ذاك، في غير تناسب مع واقع
يقول بنسبية النظر للعهود، وبديهية الاختلاف بشأن تقييماتها في ميزان
التاريخ!
بالإضافة
إلى ذلك يتمّ التعامُل مع الحقب والأنظمة
المختلفة بطريقة "هذا طيب -
هذا شرير.. هذا أبيض - هذا أسود"، أي بسطحية
مطلقة لا تحليل فيها ولا
تقييم ولا عرض موضوعيًا للسلبيات ولا الإيجابيات،
وبشكل مُسَيَّس يصل
بالطالب في النهاية إلى أنه من بين كل تلك الحقب
والعصور يعيش أزهاها
وأفضلها وأعظمها (!!) وطبعًا لا داعي للتفكير ما دام
واضعو المنهج قد
"أعفوا" الطالب من هذه المشقة!
أما عن المحتوى فهو
كذلك غير
متناسب مع ثراء وخصوبة المادة المكوّنة للتاريخ المصري؛ فالطالب
لا
يدرس سوى "قشور التاريخ" بالمعنى الكامل لهذا التعبير! مناهج التاريخ في
مختلف المراحل ما هي إلا تكرار لنفس الأفكار، ولكن بأشكال مختلفة، كما
القول
المأثور: "كل الطرق تؤدي إلى روما"!
و"روما" هنا هي الهدف من
كل
ذلك وهو "تحجيم" ذلك الأثر القوي للتغلغل في التاريخ، وتأمل أدقّ
تفاصيله
وتقليبه على الأوجه كافةً، ذلك الأثر الذي هو تدريب العقل على جمع
المعطيات،
وتركيبها كما يتم تركيب صورة لعبة الـPuzzle وصولاً للحقائق، وما
يترتب على ذلك بالتبعية من أن تكون للفرد مواقفه الخاصة الحرّة من التحكّم
والتسيير عن بُعد!
بمعنى أدقّ التاريخ قد تحوّل على يد من يضعون
سياسة
تلك المناهج إلى عملاق مقيَّد مربوط في ساقية مُكَمَّم الفَم، لا
يُسمَح
له بالحركة إلا في دائرة الساقية؛ لأنه لو تحرّر فسينطلق وينتزع
كمامته،
ويبوح بمكنوناته؛ ليفيق الجميع من خَدَرهم!
القوالب الجاهزة
ومن
طُرُق تخدير العقل المبثوثة في ذلك المنهج فرض القوالب الجاهزة لكل شيء،
لتفسير
الأحداث، ولوصف مواقف مصر، وتبرير السقطات.. فبالنسبة لمصر فهي
دائمًا:
القائدة - الكبيرة - الرائدة - الزعيمة - المؤثّرة - المساعدة
لأشقائها
- الثائرة على العدوان - المناضلة - المكافحة..
وبالنسبة للأحداث
فدائمًا هي محور الأحداث العالمية، وسبب كل التحرّكات الدولية، واللاعب
الرئيسي في أغلب المباريات السياسية!
وعن السقطات فهي دائمًا
مُبَرَّرَة بـ: "مؤامرات العدو الغادر"، أو "حقد الخصوم على تفوّق مصر"!
وطبعًا
"قوالب" الماضي تنحسب على الحاضر، وتتحوّل تلقائيًا إلى قوالب أبدية
الصلاحية للاستخدام "غير الآدمي"!
وطبعًا -كذلك- لا يوجد فصل في
الوجدان الجمعي للمصريين بين "الدولة" و"النظام"!
كل
تلك
القوالب عبارة عن قيود على العقل تجعله يستمرئ ويستسهل عدم التفكير
وإيجاد
التفسيرات الجاهزة لأية متغيّرات تصيب المجتمع، وهي عادة من النوع
الذي
يبرّئ الدولة -أو قيادتها تحديدًا- من أية مسئولية عن الكوارث
والتخلّف
والفساد والخسائر التي تصيب مصر! باعتبار أنها تمثّل الخير المطلق
والكمال الفذّ، بينما كل أسباب إخفاقاتها تأتي من الخارج!
الأمر
يُذكّرني
برواية "جورج أورويل" 1984، عندما كان النظام الحاكم يُدير مؤسسة
خاصة
بتزوير التاريخ والأخبار، لتسود فكرة أن كل شيء "تمام"، وأن كل ما
يصيب
الدولة من كوارث إنما هو من أعداء الوطن الخارجيين أو "القلّة المندسة
العميلة" في الداخل!
خلاصة القول
قراءة التاريخ ليست مجرد
تسلية،
بل وسيلة لمعرفة موقعنا من الإعراب في جُملة تاريخ الإنسانية؛ فنحن
قد
أدمنّا تخدير أنفسنا بأننا كنا في الماضي نمثّل المبتدأ المجيد في
الجُملة،
بينما واقعنا الآن يقول إننا قد أصبحنا خبرها الأسود!
وهكذا
تحوّلت دراسة التاريخ -على يد البعض- إلى "أفيونة" تُخَدِّرنا بخمر
الماضي،
وتلهينا عن حقيقة أنّ "كان" تُستَخدَم إلا للأفعال الماضية، حتى
وإن
حاولنا إجبارها على القيام بعمل أفعال المضارع بالقصور الذاتي!
العِلم
الذي كان قديمًا وسيلة لإثراء العقل واستفزازه، أصبح على يد القائمين على
ما
يُسَمّى "العملية التعليمية" وسيلة رخيصة لتكبيل العقول، وتضييق الخناق
عليها!
الطالب
يدرس لمدة 13 سنة ثم يخرج -غالبًا- وهو يجهل عن تاريخ
بلاده أبسط
البديهيات! ومن لا يجيد الحكم على الماضي من خلال تأمل
معطياته، لا أمل
في قدرته على اتخاذ موقف إيجابي مع مستجدّات الحاضر، فضلاً
عن فهمها
من الأساس! هذه حقيقة من المؤكّد أن القيادات التعليمية تعرفها،
وكذلك
القيادات السياسية، فلماذا -بحق الله- لا يوجد تحرّك إيجابي حقيقي
مسئول
للتعامل مع تلك الأزمة؟! لماذا هذا التعامل الرخو المستفز بلسان حال
يقول:
"ليس في الإمكان أفضل مما كان"؟
أتذكّر هنا مجددًا قولاً يُكرّره
صديق عندما نتحدّث عن قضية سياسية يحيطها الغموض وتستفزّ الارتياب: "ماحدش
فاهم حاجة خالص!".
فهل هذا هو الهدف في النهاية؟!
يخرج
عن نطاق التخدير الخبيث للعقل، والحبس في ماضٍ تمّ فصله بالقوة عن
الحاضر
المرير، والتوجيه عن بُعد لاتجاهات وأنماط من التفكير تجعل العقل
محبوسًا
في صندوق مغلق بقفل ثقيل؟
كل المظاهر تقول إن مادة التاريخ المدرسي
قد تحوّلت إلى سجن للعقل والوعي.. ولننظر معًا..
عَدَم التناسُب
مصر
دولة مرّ عليها -منذ ميلادها- 48 نظامًا حاكمًا (فراعنة وإغريق ورومان
وعرب
ومماليك وجمهوريون... إلخ) وحكمها حوالي 600 حاكم ما بين ملوك وولاة
وسلاطين
وخلفاء ورؤساء من مينا حتى مبارك، وخلال أكثر من سبعة عصور كانت
مركز
حكم إمبراطورية تشمل المشرق العربي كله.. تغيّرت ديانة أغلبية سكانها
ثلاث
مرات، وتغيّرت لغتها السائدة ثلاث مرات، تعرّضت لمحاولات الغزو عشرات
المرات،
واحتُلَت بالفعل أكثر من سبع مرات، وحدث اندماج اختياري بينها وبين
شعوب انتقلت إليها -في شكل هجرات أو سيطرة على الحكم برضا الشعب- أكثر من
خمس
مرات، فضلاً عن وجود تمثيل لجميع أجناس وأعراق الأرض في شعبها!
ما
الذي درسناه من عناصر قيام واستمرارية وتَغَيُّر وتَبَدُّل كل تلك
المكوّنات
المهمة للمحتوى التاريخي المصري؟ تقريبًا لا شيء، مجرد كلام
إنشائي
عام عن عوامل قيام أو سقوط هذا النظام أو ذاك، في غير تناسب مع واقع
يقول بنسبية النظر للعهود، وبديهية الاختلاف بشأن تقييماتها في ميزان
التاريخ!
بالإضافة
إلى ذلك يتمّ التعامُل مع الحقب والأنظمة
المختلفة بطريقة "هذا طيب -
هذا شرير.. هذا أبيض - هذا أسود"، أي بسطحية
مطلقة لا تحليل فيها ولا
تقييم ولا عرض موضوعيًا للسلبيات ولا الإيجابيات،
وبشكل مُسَيَّس يصل
بالطالب في النهاية إلى أنه من بين كل تلك الحقب
والعصور يعيش أزهاها
وأفضلها وأعظمها (!!) وطبعًا لا داعي للتفكير ما دام
واضعو المنهج قد
"أعفوا" الطالب من هذه المشقة!
أما عن المحتوى فهو
كذلك غير
متناسب مع ثراء وخصوبة المادة المكوّنة للتاريخ المصري؛ فالطالب
لا
يدرس سوى "قشور التاريخ" بالمعنى الكامل لهذا التعبير! مناهج التاريخ في
مختلف المراحل ما هي إلا تكرار لنفس الأفكار، ولكن بأشكال مختلفة، كما
القول
المأثور: "كل الطرق تؤدي إلى روما"!
و"روما" هنا هي الهدف من
كل
ذلك وهو "تحجيم" ذلك الأثر القوي للتغلغل في التاريخ، وتأمل أدقّ
تفاصيله
وتقليبه على الأوجه كافةً، ذلك الأثر الذي هو تدريب العقل على جمع
المعطيات،
وتركيبها كما يتم تركيب صورة لعبة الـPuzzle وصولاً للحقائق، وما
يترتب على ذلك بالتبعية من أن تكون للفرد مواقفه الخاصة الحرّة من التحكّم
والتسيير عن بُعد!
بمعنى أدقّ التاريخ قد تحوّل على يد من يضعون
سياسة
تلك المناهج إلى عملاق مقيَّد مربوط في ساقية مُكَمَّم الفَم، لا
يُسمَح
له بالحركة إلا في دائرة الساقية؛ لأنه لو تحرّر فسينطلق وينتزع
كمامته،
ويبوح بمكنوناته؛ ليفيق الجميع من خَدَرهم!
القوالب الجاهزة
ومن
طُرُق تخدير العقل المبثوثة في ذلك المنهج فرض القوالب الجاهزة لكل شيء،
لتفسير
الأحداث، ولوصف مواقف مصر، وتبرير السقطات.. فبالنسبة لمصر فهي
دائمًا:
القائدة - الكبيرة - الرائدة - الزعيمة - المؤثّرة - المساعدة
لأشقائها
- الثائرة على العدوان - المناضلة - المكافحة..
وبالنسبة للأحداث
فدائمًا هي محور الأحداث العالمية، وسبب كل التحرّكات الدولية، واللاعب
الرئيسي في أغلب المباريات السياسية!
وعن السقطات فهي دائمًا
مُبَرَّرَة بـ: "مؤامرات العدو الغادر"، أو "حقد الخصوم على تفوّق مصر"!
وطبعًا
"قوالب" الماضي تنحسب على الحاضر، وتتحوّل تلقائيًا إلى قوالب أبدية
الصلاحية للاستخدام "غير الآدمي"!
وطبعًا -كذلك- لا يوجد فصل في
الوجدان الجمعي للمصريين بين "الدولة" و"النظام"!
كل
تلك
القوالب عبارة عن قيود على العقل تجعله يستمرئ ويستسهل عدم التفكير
وإيجاد
التفسيرات الجاهزة لأية متغيّرات تصيب المجتمع، وهي عادة من النوع
الذي
يبرّئ الدولة -أو قيادتها تحديدًا- من أية مسئولية عن الكوارث
والتخلّف
والفساد والخسائر التي تصيب مصر! باعتبار أنها تمثّل الخير المطلق
والكمال الفذّ، بينما كل أسباب إخفاقاتها تأتي من الخارج!
الأمر
يُذكّرني
برواية "جورج أورويل" 1984، عندما كان النظام الحاكم يُدير مؤسسة
خاصة
بتزوير التاريخ والأخبار، لتسود فكرة أن كل شيء "تمام"، وأن كل ما
يصيب
الدولة من كوارث إنما هو من أعداء الوطن الخارجيين أو "القلّة المندسة
العميلة" في الداخل!
خلاصة القول
قراءة التاريخ ليست مجرد
تسلية،
بل وسيلة لمعرفة موقعنا من الإعراب في جُملة تاريخ الإنسانية؛ فنحن
قد
أدمنّا تخدير أنفسنا بأننا كنا في الماضي نمثّل المبتدأ المجيد في
الجُملة،
بينما واقعنا الآن يقول إننا قد أصبحنا خبرها الأسود!
وهكذا
تحوّلت دراسة التاريخ -على يد البعض- إلى "أفيونة" تُخَدِّرنا بخمر
الماضي،
وتلهينا عن حقيقة أنّ "كان" تُستَخدَم إلا للأفعال الماضية، حتى
وإن
حاولنا إجبارها على القيام بعمل أفعال المضارع بالقصور الذاتي!
العِلم
الذي كان قديمًا وسيلة لإثراء العقل واستفزازه، أصبح على يد القائمين على
ما
يُسَمّى "العملية التعليمية" وسيلة رخيصة لتكبيل العقول، وتضييق الخناق
عليها!
الطالب
يدرس لمدة 13 سنة ثم يخرج -غالبًا- وهو يجهل عن تاريخ
بلاده أبسط
البديهيات! ومن لا يجيد الحكم على الماضي من خلال تأمل
معطياته، لا أمل
في قدرته على اتخاذ موقف إيجابي مع مستجدّات الحاضر، فضلاً
عن فهمها
من الأساس! هذه حقيقة من المؤكّد أن القيادات التعليمية تعرفها،
وكذلك
القيادات السياسية، فلماذا -بحق الله- لا يوجد تحرّك إيجابي حقيقي
مسئول
للتعامل مع تلك الأزمة؟! لماذا هذا التعامل الرخو المستفز بلسان حال
يقول:
"ليس في الإمكان أفضل مما كان"؟
أتذكّر هنا مجددًا قولاً يُكرّره
صديق عندما نتحدّث عن قضية سياسية يحيطها الغموض وتستفزّ الارتياب: "ماحدش
فاهم حاجة خالص!".
فهل هذا هو الهدف في النهاية؟!