ذهب اللذين تجنبوا سبل الردى
لطائف من منظومة" السير إلى الله و الدار الآخرة"(1)
للعلامة عبد الرحمان بن ناصر السعدي ـ رحمه الله ـ
مفهوم العبادة:
واعلمْ: أنَّ المقصودَ مِن العبدِ عبادةُ الله ومعرفتُه ومحبتُه والإنابةُ إليه على الدَّوام، وسلوكُ الطريق التي تُوصلُه إلى دارِ السلام، وأكثرُ الناس غَلب عليهم الحِسُّ ومَلكتهم الشهواتُ والعادات؛ فلم يرفعوا بهذا الأمرِ رأسًا، ولا جعلوه لبِنائهم أساسًا؛ بل أعرَضوا عنه اشتغالًا بِشَهواتِهم، وتَركوه عُكُوفًا على مُراداتِهم، ولم يَنتَهُوا لاستدراكِ ما فاتَهُم في أوقاتِهم،
فهُم في جهلِهم وظُلمِهم حائِرون، وعن ذِكر ربِّهم غافِلون، ولمصالِح دينِهم مُضيِّعون، وفي سُكر عِشقِ المألوفاتِ هائِمون: ﴿ نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ﴾ [الحشر: 19].
ولم ينتبهْ مِن هذه الرقدةِ العظيمة، و المُصيبةِ الجسيمة، إلا القليلُ مِن العقلاء، والنادرُ مِن النبلاء؛ فعَلِموا أنَّ الخسارةَ كلَّ الخسارةِ الاشتغالُ بما لا يُجدي على صاحبِه إلا بالوَبال والحِرمان، ولا يُعوِّضُه مما يؤمِّل إلا الخُسـران؛ فآثَروا الكاملَ على الناقص، وباعُوا الفانيَ بالباقي، وتحمَّلوا تعبَ التكليفِ والعبادة، حتى صارتْ لهم لذةً وعادة، ثم صارُوا بعد ذلك سادة، فاسمعْ صِفاتِهم، واستعنْ باللهِ على الاتِّصاف بها :
سَعِــدَ الَّذِيــنَ تَـجَنَّبُــوا سُبُـلَ الـرَّدَى *** وَتَيَـمَّـمُــوا لِـمَـنَـــاِزِلِ الـــرِّضْـوانِ
فَهُــمُ الَّذِيــنَ أَخْلَصُــوا فـِي مَشْيِهِـمْ *** مُـتَشَــرِّعِيـنَ بِشِـــرْعَـــةِ الإيمَــــانِ
وَهُــمُ الَّذِيــنَ بَنَـوْا مَنَــازِلَ سَيْـرِهِـمْ *** بَيْــنَ الرَّجَـــا والْخَـــوْفِ لِلــدَيَّـــانِ وَهُــمُ الَّذِينَ مَـــلا الإلَـهُ قُلُوبَـهُـــمْ *** بِـــوِدَادِهِ وَمَـحَـبَّـــةِ الــرَّحْـمَـــــنِ
هذه المنزلة -وهي منزلة المحبة- هي أصلُ المنازل كلِّها، ومنها تنشأ جميعُ الأعمالِ الصالحة والنافعة، والمنازل العالِية.
ومعنى المحبة: تعلُّق القلب بالمحبوب، ولُزوم الحُبِّ للقلبِ فلا تنفك عنه، تقتضـي مِن صاحبِها الانكِفاف عما يكرهُ الحبيب، والمباردرةَ إلى ما يُرضيه بقلبٍ مُنشـرحٍ وصدرٍ رحيب؛ فإن تكلَّم تكلَّم بالله، وإن سَكت سَكَت لله، وإنْ تحرَّك فَلِله، وإنْ سَكن فَلَهُ، ويَحدُث عن الحبِّ الشوقُ إلى الله والقلق؛ فلا يكادُ صاحبُه يستقرُّ.
فإن قيل: فهل [للمحبة] -التي هي أعلى المراتب- مِن وسيلةٍ وسببٍ؟ قيل: لم يجعلِ الله مطلبًا إلا جعل لحصولِه سببًا؛ فمِن أكبر أسبابِها: الانكفافُ عن كلِّ قاطع بالقولِ والفعل والأفكار الرديَّة، والإكثارُ من ذِكر الله بحضور قلبٍ وتدبُّر كلامِه الكريم، ومُطالعة نِعمِه العظيمة على العبد، وبالوقوفِ بين يديه بحضورِ قلبٍ وأدَب في الوقوف بين يديْه، ومجالسةُ المحبِّين ومجانبة كلِّ قاطع، فمَن فعل ذلك؛ نال محبةَ اللهِ -إن شاء الله-، و الله المستعان.
ياسين بن محمود الارهاطي
لطائف من منظومة" السير إلى الله و الدار الآخرة"(1)
للعلامة عبد الرحمان بن ناصر السعدي ـ رحمه الله ـ
مفهوم العبادة:
واعلمْ: أنَّ المقصودَ مِن العبدِ عبادةُ الله ومعرفتُه ومحبتُه والإنابةُ إليه على الدَّوام، وسلوكُ الطريق التي تُوصلُه إلى دارِ السلام، وأكثرُ الناس غَلب عليهم الحِسُّ ومَلكتهم الشهواتُ والعادات؛ فلم يرفعوا بهذا الأمرِ رأسًا، ولا جعلوه لبِنائهم أساسًا؛ بل أعرَضوا عنه اشتغالًا بِشَهواتِهم، وتَركوه عُكُوفًا على مُراداتِهم، ولم يَنتَهُوا لاستدراكِ ما فاتَهُم في أوقاتِهم،
فهُم في جهلِهم وظُلمِهم حائِرون، وعن ذِكر ربِّهم غافِلون، ولمصالِح دينِهم مُضيِّعون، وفي سُكر عِشقِ المألوفاتِ هائِمون: ﴿ نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ﴾ [الحشر: 19].
ولم ينتبهْ مِن هذه الرقدةِ العظيمة، و المُصيبةِ الجسيمة، إلا القليلُ مِن العقلاء، والنادرُ مِن النبلاء؛ فعَلِموا أنَّ الخسارةَ كلَّ الخسارةِ الاشتغالُ بما لا يُجدي على صاحبِه إلا بالوَبال والحِرمان، ولا يُعوِّضُه مما يؤمِّل إلا الخُسـران؛ فآثَروا الكاملَ على الناقص، وباعُوا الفانيَ بالباقي، وتحمَّلوا تعبَ التكليفِ والعبادة، حتى صارتْ لهم لذةً وعادة، ثم صارُوا بعد ذلك سادة، فاسمعْ صِفاتِهم، واستعنْ باللهِ على الاتِّصاف بها :
سَعِــدَ الَّذِيــنَ تَـجَنَّبُــوا سُبُـلَ الـرَّدَى *** وَتَيَـمَّـمُــوا لِـمَـنَـــاِزِلِ الـــرِّضْـوانِ
فَهُــمُ الَّذِيــنَ أَخْلَصُــوا فـِي مَشْيِهِـمْ *** مُـتَشَــرِّعِيـنَ بِشِـــرْعَـــةِ الإيمَــــانِ
وَهُــمُ الَّذِيــنَ بَنَـوْا مَنَــازِلَ سَيْـرِهِـمْ *** بَيْــنَ الرَّجَـــا والْخَـــوْفِ لِلــدَيَّـــانِ وَهُــمُ الَّذِينَ مَـــلا الإلَـهُ قُلُوبَـهُـــمْ *** بِـــوِدَادِهِ وَمَـحَـبَّـــةِ الــرَّحْـمَـــــنِ
هذه المنزلة -وهي منزلة المحبة- هي أصلُ المنازل كلِّها، ومنها تنشأ جميعُ الأعمالِ الصالحة والنافعة، والمنازل العالِية.
ومعنى المحبة: تعلُّق القلب بالمحبوب، ولُزوم الحُبِّ للقلبِ فلا تنفك عنه، تقتضـي مِن صاحبِها الانكِفاف عما يكرهُ الحبيب، والمباردرةَ إلى ما يُرضيه بقلبٍ مُنشـرحٍ وصدرٍ رحيب؛ فإن تكلَّم تكلَّم بالله، وإن سَكت سَكَت لله، وإنْ تحرَّك فَلِله، وإنْ سَكن فَلَهُ، ويَحدُث عن الحبِّ الشوقُ إلى الله والقلق؛ فلا يكادُ صاحبُه يستقرُّ.
فإن قيل: فهل [للمحبة] -التي هي أعلى المراتب- مِن وسيلةٍ وسببٍ؟ قيل: لم يجعلِ الله مطلبًا إلا جعل لحصولِه سببًا؛ فمِن أكبر أسبابِها: الانكفافُ عن كلِّ قاطع بالقولِ والفعل والأفكار الرديَّة، والإكثارُ من ذِكر الله بحضور قلبٍ وتدبُّر كلامِه الكريم، ومُطالعة نِعمِه العظيمة على العبد، وبالوقوفِ بين يديه بحضورِ قلبٍ وأدَب في الوقوف بين يديْه، ومجالسةُ المحبِّين ومجانبة كلِّ قاطع، فمَن فعل ذلك؛ نال محبةَ اللهِ -إن شاء الله-، و الله المستعان.
ياسين بن محمود الارهاطي