تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
قال الله جل وعلا :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا
تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ
كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ
قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ ﴾(الحاقة: 38- 43) .
أولاً-
يقرر الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمة تقريرًا حاسمًا جازمًا حقيقة هذا القول
الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .. هذا القول الذي
تلقَّاه الكفرة والمشركون بالرَّيْب والسخرية
والتكذيب .ويؤكِّد سبحانه وتعالى على أنه حق
ثابت ؛ لأنه صادر عن الحق ، وينفي على سبيل القطع والجزم أن يكون شعر شاعر ، أو
كهانة كاهن ، أو افتراء مفتر ؛ ولهذا فهو أوضح من أن يحتاج إلى قسم لتوكيده بشيء
مما نبصر ، وبأشياء مما لا نبصر من مشاهد هذا الكون العجيب .
وقد
كان مما تقوَّل به المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم : إنه شاعر ،
وإنه كاهن ، متأثرين في هذا بشبهة سطحية ، منشؤها أن هذا القول فائق في طبيعته على
كلام البشر ، وأن الشاعر في وهمهم له من الجن من يأتيه بالقول الفائق ، وأن الكاهن
كذلك متصل بالجن ، فهم الذين يمدونه بعلم ما وراء الواقع .. وهي شبهة تسقط عند أقل
تدبر لطبيعة القرآن والرسالة ، وطبيعة الشعر والكهانة ، وهي شبهة واهية سطحية ،
حتى حين كان القرآن الكريم لم يكتمل ، ولم تتنزل منه إلا سور وآيات ، عليها ذلك
الطابع الإلهي الخاص ، وفيها ذلك القبس الموحي بمصدرها الفريد ، وهو الله جل في
علاه !
وكبراء
قريش وصناديدها كانوا يراجعون أنفسهم ، ويردُّون على هذه
الشبهة بين الحين والحين ؛ ولكن الغرض يعمي البصائر عن رؤية الحق ، ويصمُّ الآذان
عن سماعه .. ﴿
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا
سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ
قَدِيمٌ ﴾(الأحقاف:
11) .
وقد
حكت كتب السيرة مواقف متعددة لزعماء قريش ، وهم يراجعون هذه الشبهة ، وينفونها
فيما بينهم ، ومن ذلك ما رواه ابن اسحق عن الوليد بن المغيرة ، وعن النضر بن
الحارث ، وعن عتبة بن ربيعة ؛ فما كان قولهم : ساحر ، أو كاهن ، أو غير ذلك إلا
حيلة ماكرة أحيانًا ، وشبهة مفضوحة أحيانًا . والأمر أوضح من أن يلتبس عند أول
تدبُّر ، وأول تفكُّر ، وهو من ثمَّ لا يحتاج إلى قسم بـ﴿ ِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ
﴾ ، ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾ ،
وما هو ﴿ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ *
وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾
؛ إنما هو ﴿ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ ﴾
، وكانت
مواقفهم تلك من القرآن الكريم من أهم الأسباب الداعية إلى التحدي
.
ثانيًا- ذكرت
في مقالي السابق ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ
مِثْلِهِ ﴾ أن الله تعالى بعد أن قرَّر في مكة
المكرمة عجز الإنس والجن مجتمعين عن الإتيان بمثل القرآن العظيم
، تحدَّى الخلق عامة ، والمكذبين خاصة أن يأتوا :
﴿ بِسُورَةٍ
مِثْلِهِ ﴾(يونس: 37)، و﴿ بِعَشْرِ
سُوَرٍ مِثْلِهِ ﴾(هود: 13) ، و﴿
بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾(الطور: 34) .
ثم
أعاد سبحانه وتعالى هذا التحدي في المدينة المنورة بعد الهجرة ، فأمر الناس جميعهم
عامة ، والمرتابين في القرآن الكريم من كفار العرب ، ومشركيهم خاصة أن يأتوا بسورة
واحدة من هذا المِثل للقرآن ، وأسجل عليهم إسجالاً عامًا إلى يوم القيامة ، أنهم
لم يفعلوا ، ولن يفعلوا ذلك أبدًا ، فليتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة ،
أعدت للكافرين ، من أمثالهم . وذكرت في مقالي الآخر
﴿ هـذا القـرآن ﴾ أن قول الله عز وجل :
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا
بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾(الإسراء: 88)
كان بمثابة الإعلان في مكة على
لسان النبي عليه الصلاة والسلام بعجز العرب قاطبة ، والأمم عامة ؛ إنسهم وجنهم ،
عن الإتيان بمثل هذا القرآن العظيم عجزًا مطلقًا ، ولو تظاهروا على ذلك . وهذا ما
دل عليه فعل الإتيان المنفي بـ﴿ لَا ﴾ نفيًا شاملاً
، على سبيل القطع والجزم ﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ . فأفاد هذا النفيُ أن الإتيان
بمثل هذا القرآن ، لا يمكن أبدًا ، وأنه فوق طاقة الخلق
من الإنس والجن مجتمعين ، ومتعاونين .
ثم ذكرت أن هذا المِثْلَ للقرآن
الكريم ليس مِثْلاً مفترضًا- كما هو الشائع- وإنما هو مِثْلٌ موجود
، وبينت بالأدلة والبراهين على وجود هذا المثل بما لا يدع مجالاً لأحد أن
يشك في وجوده . ويكفي في بيان ذلك وإثباته أن الله تعالى أقسم على أنه مِثْلٌ موجود :
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ
عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ .
وذكرت أيضًا أنه ليس في هذه
الآية الكريمة ما يشير ، لا من قريب ولا من بعيد ، إلى أن الله تعالى طلب من
المكذبين خاصة والناس عامة أن يأتوا بمِثْل هذا القرآن ، خلافًا للمشهور ؛ إذ كيف
يعلن الله تعالى عجز الإنس والجن على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم عن الإتيان
بهذا المِثْل للقرآن ، ويقسم على ذلك ، ثم يطلب من الناس أن يأتوا بهذا المِثْل ؟
نعم لقد تحداهم في المدينة أن
يأتوا :﴿ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
﴾ ، حين
كانوا في ريب منه ، وأن الجن- على حدِّ زعمهم- كانت تتنزل به على محمد صلى الله
عليه وسلم ، فقال تعالى :﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾(البقرة: 23) . ثم أسجل عليهم إسجالاً عامًا إلى
يوم القيامة ، أنهم لم يفعلوا ، ولن يفعلوا ذلك أبدًا ؛ ولهذا انتقل سبحانه وتعالى
إلى إرشادهم ، فقال :﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا
النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
﴾(البقرة:
24) . وقد سبق ذلك كله قول الله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾(البقرة:21-22).
والخطاب هنا عام للناس كل الناس ، في كل زمان وكل مكان ، إلى أن يرث الله تعالى الأرض
ومن عليها . وليس فيه ما يشير إلى أن الله تعالى تحدَّى العرب أن يأتوا بسورة من
مثل سور القرآن في بلاغته وفصاحته ونظمه ، وإن
كانوا أصحاب بلاغة وفصاحة ، ففي ذلك تحميل للفظ ما لا يحتمله .. وما في
اللفظ يدل على خلاف ذلك :
1-
ففي اللفظ قوله تعالى :﴿
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ ، وهو
خطاب يراد به العموم . والعرب بعض من هذا العموم .
2-
وفي اللفظ قوله تعالى :﴿ وَإِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾ .
والريب هو الشك بتهمة ، وهو معلق بـ﴿ إِنْ
﴾ الشرطية التي تدل على إمكان حدوث ما
بعدها ، وعدم إمكان حدوثه . وحدوثه إن كان ، مع قلته ، أخطر تهمة توجه إلى
القرآن الكريم ، فهو أخطر من الافتراء ، ومن التقوُّل ، ومن غيرهما .
ولهذا
نجد آيات القرآن الكريم تتكرر في أكثر من موضع نافية على سبيل الاستغراق والشمول
لكل جنس من أجناس الريب في القرآن الكريم ، وتؤكد على أنه تنزيل من الله جل وعلا ؛
لأنه المعجزة الكبرى التي أيَّد الله تعالى بها رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ ومن
هذه الآيات قوله تعالى :
﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى
لِّلْمُتَّقِينَ ﴾(البقرة: 2)
﴿ تَنزِيلُ
الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(السجدة:
2)
﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾(فصلت:
42)
3-
وفي اللفظ قوله تعالى :﴿
فَأْتُوا بِسُورَةٍ ﴾ . والإتيان
بالشيء يكون بالمجيء به ، أو جلبه من مكان بعيد إلى مكان
قريب بسهولة ويسر ، دون جهد يبذل . ويكون ذلك إما بالاسترفاد من الغير ؛ كما في
قوله تعالى هنا :﴿ فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ ، أو يكون ذلك بالاختراع من
الجالب ؛ كما في قوله تعالى :﴿ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي
بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾(البقرة:
258)
4-
وفي اللفظ قوله تعالى :﴿
مِنْ ﴾ ، وهي لابتداء الغاية ، مثلها في
قوله تعالى :﴿ فَأْتُوا
بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعُهُ ﴾(القصص:
49) .
5-
وفي اللفظ قوله تعالى :﴿
مِثْلِهِ ﴾ . ومِثْلُ الشيء ، بكسر فسكون ، هو المساوي للمثل الآخر المتفق معه في
الجنس في تمام ذاته ، أو حقيقته وماهيته ، أو جوهره ، لا في صفاته ؛ فإن المِثْلَ
لا يكون مِثْلاً لغيره ، إلا وذلك الغير مِثْلاً له . والمثلان- بإجماع علماء
التوحيد- هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته ، بحيث يسد
مسدَّه . والشيء- كما قال أبو هلال العسكري- لا يكون مِثْلَ الشيء في الحقيقة ،
إلا إذا أشبهه من جميع الوجوه لذاته ، وأن التشبيه بالكاف يفيد تشبيه الصفات بعضها
ببعض ، وبالمِثْل يفيد تشبيه الذوات بعضها ببعض . وقد بينت ذلك في مقالي المذكور :﴿ هـذا القـرآن ﴾ .
فليس
من الصواب في شيء بعد هذا كله أن يقال : إن الله تحدى العرب بأن يقولوا مثل هذا
القرآن ، أو سورة واحدة مثل سور هذا القرآن في بلاغته وفصاحته وحسن نظمه ؛ لأن هذه
صفات خارجة عن ذات الشيء وجوهره ، أو حقيقته وماهيَّته ، لا يعبَّر عنها بلفظ
المِثْل . ومن قال خلاف ذلك ، فإنه لا يعرف جوهر الكلام ،
ولا يدرك شيئًا من أسرار البيان . وما أظن أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم كانوا
يفهمون معنى المِثْلية في هاتين الآيتين ؛ كما فهمها
جمهور المفسرين ، وأعني : المِثْلِيَّة في قوله تعالى :﴿ لَا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ ﴾(الإسراء: 88) ، وقوله تعالى :﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ ﴾(البقرة: 23) .
ثالثًا- وحدث- بين الإعلان عن عجز الإنس
والجن عن الإتيان بمثل هذا القرآن ﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ ، وبين تحدِّي الناس كلهم أن
يأتوا بسورة من هذا المثل للقرآن ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾- أن اعترض الكفار في مكة على
صحة دعوى نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، وأن ما جاء به من القرآن ليس بكلام الله
، وأنه إنما أتى به من عند نفسه على سبيل ( الافتراء ) تارة ، وعلى سبيل ( التقوُّل ) تارة أخرى ، فبيَّن الله تعالى
في هذين
المقامين أن
إتيان محمد عليه الصلاة والسلام بهذا القرآن ليس على سبيل الافتراء على الله تعالى
، وليس على سبيل التقوُّل على الله جل وعلا ؛ ولكنه وحي نازل عليه من عند الله تعالى
، فقال سبحانه في الرد على القائلين بالافتراء :﴿ وَمَا كَانَ هَذَا
الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
﴾(يونس: 37) ، فنفى سبحانه أن يكون هذا القرآن
مفترى من دون الله . أي : ما ينبغي لبشر أن يفتري هذا
القرآن ، وينسبه إلى الله جل وعلا . فنفى تعالى فعل ذلك ، ونفى احتمال فعله ،
وأخبر بأن مثل هذا لا يقع ؛ بل يمتنع وقوعه ، فيكون المعنى : ما يمكن ، ولا يحتمل ،
ولا يجوز أن يفترى هذا القرآن من دون الله ، فإن الذي يفتريه من دون الله مخلوق ،
والمخلوق لا يقدر على ذلك .
ثم قال سبحانه في الرد على
القائلين بالتقوُّل :﴿ أََمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ
الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي
مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ
بَلْ لَا يُؤْمِنُون ﴾(الطور: 30- 33) . وهو حكاية لإِنكارهم أن يكون القرآن
وحيًا من الله سبحانه ، فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم تقوّله على الله
سبحانه . فالاستفهام إنكار لقولهم ، واستبعاد له . وهم
قد أكثروا من الطعن ، وتمالؤوا عليه ؛ ولذلك جيء في حكايته عنهم بصيغة الحاضر :﴿
يَقُولُونَ ﴾ المفيدة للتجدد ، ثم أتبع بقوله تعالى :﴿ تَقَوَّلَهُ
﴾ بدلاً من قوله ، فيما تقدم :﴿ افْتَرَاهُ
﴾ ؛ وذلك لاختلاف المقامين .
والتقوُّل
معناه : قال عن الغير : إنه قاله . فهو عبارة عن كذب مخصوص ؛
كما في قوله تعالى :﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ
الْأَقَاوِيلِ ﴾(الحاقة: 38) . أي
: قال عنا ما لم نقله . وليس كذلك الافتراء ؛ إذ كل تقوُّل افتراء ، وليس كل
افتراء بتقوُّل ؛ ولهذا شدَّد الله جل وعلا في وعيد من يتقوَّل عليه ما لم يقله ،
فقال في جواب الآية السابقة :﴿ لَأَخَذْنَا مِنْهُ
بِالْيَمِينِ * ثُمَّ
لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴾(الحاقة: 39- 40) .
ثم
قال تعالى :﴿ بَلْ لَا
يُؤْمِنُونَ ﴾ جوابًا لقوله :﴿ أَمْ
يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ﴾ ، فابتدأ الرد عليهم ؛ لتعجيل
تكذيبهم قبل الإِدلاء بالحجة عليهم ؛ وليكون ورود الاستدلال مفرَّعًا على قوله :﴿ لَا
يُؤْمِنُونَ ﴾ بمنزلة دليل ثان . والمعنى : لا يؤمنون بسبب
كفرهم وعنادهم ، مع أن دلائل تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن تقوّل القرآن
الكريم بيِّنةٌ لديهم ؛ ولكنهم أبوا أن يؤمنوا ، وبادروا إلى الطعن في القرآن
الكريم دون نظر ، وشرعوا يلقون المعاذير سترًا لمكابرتهم وجهلهم وغرورهم ؛ من نحو
ما كانوا يقولونه من وجوه اعتراضهم على القرآن ممَّا حُكِيَ عنهم ؛ كما في قوله
تعالى :
﴿
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ
لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾(الأنفال:
31) .
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ
الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ
قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ
إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ ﴾(يونس: 15) .
﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا
بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا
لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
﴾(الزخرف: 30- 31) .
فأخبر
تعالى عنهم : أنهم ادعوا مرة القدرة على أن يقولوا مثل
القرآن ، ووصفوه بأكاذيب الأولين ، وحكاياتهم المسطرة في كتبهم ؛ كالأضاحيك
والأعاجيب . وأنهم طلبوا منه مرة الإتيان بغير القرآن ،
أو تبديله . وأنهم قالوا مرة ، لما جاءهم : هذا سحر ، وكفروا به ، ثم قالوا : لولا
نزِّل هذا القرآن على رجل غيره عظيم ؛ كالوليد بن المغيرة بمكة ، أو عروة بن مسعود
الثقفي بالطائف .. إلى آيات كثيرة في نحو هذا تدل على أنهم كانوا متحيرين في أمرهم
، متعجبين من عجزهم ، يفزعون إلى نحو هذه الأمور ، من تعليل وتعذير ومدافعة بما
وقع التحدي إليه ، ووجد الحثُّ عليه .
رابعًا-
وقد احتج الله تعالى على صحة هذا
القرآن ، وأنه ليس بمفترى ، بأنأمر
نبيه عليه الصلاة والسلام أن يجيب الكافرين عن دعوى الافتراء بتعجيزهم ، وأن يقطع
الاستدلال عليهم ،ويبطل
بذلك دعواهم بافترائه ، فقال سبحانه :﴿ أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾(يونس: 38) ، ثم قال سبحانه :﴿ أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾(هود: 13) ، فتحداهم
أن يأتوا ﴿ بِسُورَةٍ
مِثْلِهِ ﴾ . ثم تحداهم أن يأتوا ﴿ بِعَشْرِ
سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ ، وطلب منهم في الموضعين أن يستعينوا
بمن أمكنهم الاستعانة به من المخلوقين من دون الله ، إن كانوا صادقين ، فقال
سبحانه :﴿ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ .
ومن المحال أن يأتيَ واحد منهم بكلام ، يفتعله ويختلقه من تلقاء نفسه ، ثم يطالبهم أن يأتوا
بسورة مثله ، أو بعشر سور مثله مفتريات ، ثم يعجزون جميعهم عن ذلك .
ومن الواضح أن الآيتين
السابقتين قد وردتا على نمط واحد من الأسلوب . والفرق بينهما : أن التحدي في الأولى أتى ﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ
﴾ ، وفي الثانية
أتى ﴿ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ
مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ . وما عدا ذلك فكل ما فيهما مماثل للآخر.
وأول
ما يلفت النظر- هنا- هو تصدُّر الآيتين الكريمتين بـ﴿
أَمْ ﴾ ، وهي
للإضراب الانتقالي من النفي إلى الاستفهام الإنكاري التعجبي . والغرض منه إبطال
دعواهم أن يكون هذا القرآن مفترًى من دون الله جل وعلا .
و﴿ أَمْ ﴾ هذه هي التي تتقدر عند
النحاة بـ( همزة الإنكار ) ، و( بل )
. وعليه يكون تقدير الكلام : بل ، أيقولون افتراه ، بعدما تبين لهم من الدلائل على
صدقه وبراءته من الافتراء ؟ وقيل : إنكار لقولهم واستبعاد .
والافتراء
معناه : الكذب . وأكثر استعماله في اللغة في الإفساد ؛ وكذلك استعمل في القرآن في الشرك والظلم والكذب عن
عمد ؛ نحو قوله تعالى :﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ
فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ﴾(النساء: 48) .
وقوله تعالى :﴿ انظُرْ كَيفَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً ﴾(النساء:
50) .
وواضح
أن المراد بقوله تعالى :﴿
فَأْتُوا بِعَشْرِ
سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾(هود: 13) : أن يأتوا بعشر سور مثل القرآن
مفتريات . ويدل عليه أن ضمير الغائب في قوله تعالى :﴿ افْتَرَاهُ
﴾ يعود على قوله :﴿ بَعْضَ
مَا يُوحَى إِلَيْكَ ﴾ من الآية السابقة ، وهي قوله تعالى
:﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ
بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ
مَلَكٌ ﴾(هود: 12) .
أما
قوله تعالى :﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِثْلِهِ ﴾(يونس: 38) فالمراد به : أن يأتوا بكلام ، أو
بقرآن مثل القرآن على وجه الافتراء ، لا سورة واحدة مثله . والدليل على ذلك :
1- أن الضمير في ﴿ مِثْلِهِ ﴾ يعود على ﴿ هَذَا الْقُرْآَن
﴾ في
الآية السابقة لهذه الآية ، على أرجح الأقوال ؛ وهي قوله
تعالى : ﴿
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾(يونس: 37) .
2- أن
من معاني السُّورة في اللغة : المنزلة الرفيعة ؛ ومنه قول النابغة في مدح النعمان
بن المنذر :
ألم تر أن الله أعطاك سورة **
ترى كل ملك دونها يتذبذب
3- أن
السُّورة- على ما قيل- هي كلٌّ متكامل ، وتشتمل على
ألوان من العلوم والمعارف والتشريعات والآداب ، وغير ذلك . وتطلق في الأكثر على
السورة الواحدة من القرآن . وقد تطلق ، ويراد بها القرآن
كله- كما في هذه الآية الكريمة- ومثله في ذلك لفظ ( قرآن ) ، فإنه يطلق ، ويراد به
القرآن كله ، وقد يراد به بعضه .
4-
أنَّ آية يونس التي تتحدى البشر أن يأتوا ﴿
بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾ يأتي بعدها مباشرة قول الله تعالى :﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ
يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾(يونس:
39) . أي : كذبوا بالقرآن ؛ لأنهم لم
يحيطوا بعلمه الذي أحاط بكل شيء . ولفظ ( سورة ) يتضمن معنى :
السُّمو والرفعة . ومعنى : الإحاطة . ومعنى الإحاطة يتضمن : الاشتمال ، والتمييز،
وتحديد المعالم .
5- قرأ
عمرو بن قائد :﴿ بسورةِ
مثلِهِ ﴾ على الإضافة . أي : بكلام مثله . أي : مثل
القرآن .
6- جاء في
كتاب معاني القرآن :« وقيل
: المعنى : فأتوا بقرآن مثل هذا القرآن . والسورة قرآن ،
فكنَّى عنها بالتذكير على المعنى . ولو كان على اللفظ ،
لقيل مثلها » .
7-
أنَّ لفظ ( سورة ) لم يذكر
في أول خمسين سورة ، نُزِّلت على الرسول عليه الصلاة
والسلام ، فقد جاء التحدي ﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ
﴾ في سورة يونس ، والتي هي السورة الواحدة والخمسين في ترتيب النزول .
ثم جاء التحدي ﴿ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ﴾ في سورة هود ، والتي هي السّورة الثانية والخمسين في ترتيب النزول .
وهذا يعني أنّ العرب ، في زمن الوحي ، قد أَلِفَت معنى
لفظ القرآن قبل أن تألف معنى لفظ السورة . وهناك الكثير من السُّور القصار التي
نزلت قبل أن يُسَمِّيَ القرآنُ الكريم كلَّ قطعة متكاملة باسم :( سورة
) .
خامسًا-
ثم احتج تعالى على صحة القرآن ، وأنه ليس
بمتقوَّل ، فقال :﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ
كَانُوا صَادِقِينَ ﴾(الطور: 34). والفاء
هنا للتعقيب . أي : إذا كان القرآن متقوَّلاً- كما يدعون-
فيجب عليهم أن يأتوا بحديث مثله ، إن كانوا صادقين . وقال تعالى هنا :﴿ فَلْيَأْتُوا
﴾ ، بصيغة المضارع المسبوق بلام الأمر ، وبدون وساطة :﴿
قُلْ ﴾ ، خلافًا للآيتين السابقتين ؛ إذ قال فيهما :﴿ قُلْ
فَأْتُوا ﴾ . والسِّرُّ في ذلك :
1-
أن التحدي بقوله تعالى :﴿ فَلْيَأْتُوا
﴾ تحدٍّ غير مباشر يعمُّ كلَّ من نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم
تقوَّل القرآن تارة ، وافتراءه على ربه جل وعلا تارة أخرى . أما التحدي بقوله تعالى :﴿ قُلْ
فَأْتُوا ﴾ فهو تحد مباشر ، ويخصُّ كل من نسب إلى النبي صلى
الله عليه وسلم افتراء القرآن .
2-
أن التعبير بصيغة المضارع المسبوق بلام الأمر ﴿
فَلْيَأْتُوا ﴾ يفيد تجدد التحدي واستمراره دون
انقطاع ، بخلاف صيغة الأمر ﴿ فَأْتُوا ﴾ ؛
فإن التعبير بها يفيد احتمال وقوع الفعل مرة واحدة ، ووقوعه أكثر من ذلك ؛ ونحو
ذلك قوله تعالى:﴿ قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ
يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَا ﴾(إبراهيم: 31). أي :
يداوموا ، ويواظبوا على ذلك دون انقطاع . والتقدير على أحد الأقوال : قل لعبادي
الذين آمنوا ، ليقيموا الصلاة ، ولينفقوا مما رزقناهم .
سادسًا- وواضح
مما تقدم أن المِثْلِيَّة المنصوص عليها في قوله تعالى :﴿ لَا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ ﴾ ، وقوله
تعالى :﴿
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ هي غيرها في قوله تعالى :﴿ بِسُورَةٍ
مِثْلِهِ ﴾ ، وقوله تعالى :﴿ بِعَشْرِ
سُوَرٍ مِثْلِهِ ﴾ ، وقوله
تعالى :﴿ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾ .
فتلك
يراد بها المِثْل الموجود للقرآن في اللوح المحفوظ ،
والكتاب المكنون ، لا المِثْل المفترض . وأما هذه فالمراد بها أن يأتوا بكلام ، أو قرآن مثل القرآن ، وبعشر سور مفتريات مثل القرآن ،
وبحديث متقوَّل مثل القرآن . وهذا المِثْل لا وجود له في واقع الناس ، لا على سبيل
الافتراض ، ولا على سبيل غيره ؛ لأن الكلام هو كلام الله جل وعلا ، وكلام الله لا
يماثله كلام البشر ، لاختلافه معه في الحقيقة والماهيَّة والجنس ؛ كما أن ذات الله
تعالى لا تماثلها ذات من ذوات البشر ، للسبب ذاته .
ولكن
الذين تحدثوا عن المثلية في آيات التحدي ، لم يفرقوا بين
مثلية ، وأخرى ، فهي مثلية واحدة عندهم ، ومن ثمَّ زعموا أنها مثلية في البلاغة ،
أو الفصاحة ، أو النظم ، أو غير ذلك .
والمتتبع
لأقوال المفسرين في تفسير هذه الآيات الثلاثة ، يجد
المفسرين متفقين على أن المراد بالمثلية في قوله تعالى :﴿
بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ : مثلية
في البلاغة والفصاحة وحسن النظم . أما المراد بالمثلية في قوله تعالى
:﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾ فاختلفوا
فيها- كما اختلفوا في غيرها- على أقوال :
أحدها : أنها مثلية في كثرة العلوم ،
والأحكام ، والوعد والوعيد ، والإخبار عن الغيب .
والثاني : أنها مثلية في الفصاحة والبلاغة
وحسن النظم .
والثالث : أنها مثلية تامة في غيوب القرآن ،
وعلومه ، ونظمه ، ووعده ، ووعيده .
قال
الثعالبي عند تفسير آية يونس ﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ
﴾ :« والتحدي في هذه الآية- عند الجمهور- وقع بجهتي الإعجاز اللتين في
القرآن : إحداهما : النظم والرصف والإيجاز والجزالة . والأخرى :
المعاني من الغيب لما مضى ، ولما يستقبل . وحين تحداهم بعشر مفتريات
؛ إنما تحداهم بالنظم وحده » .
أما
الطاهر بن عاشور فقال :«
وقد وقع التحدي بإتيانهم بسورة تماثل سور القرآن . أي : تشابهه في البلاغة وحسن
النظم » . ثم قال :«
فالمماثلة في قوله :﴿ مِثْلِهِ
﴾ هي المماثلة في بلاغة الكلام وفصاحته ، لا في
سداد معانيه . قال علماؤنا : وفي هذا دليل على أن إعجازه
في فصاحته بقطع النظر عن علوِّ معانيه ، وتصديق بعضه بعضًا »
.
وكذلك
اختلفوا في المراد بالمثلية في قوله تعالى في الطور :﴿ فَلْيَأْتُوا
بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾ ،
فقال أبو حيان :« أي : مماثل للقرآن في نظمه ووصفه
من البلاغة ، وصحة المعاني والأخبار بقصص الأمم السالفة ، والمغيبات ، والحكم »
. وقال الطاهر بن عاشور :« ومعنى
المثلية في قوله ﴿ مِثْلِهِ
﴾ : المثلية في فصاحته وبلاغته »
. وذهب الفخر الرازي إلى أنه استدل بهذه الآية على أن إعجاز القرآن بفصاحته ، لا
باشتماله على المغيبات ، وكثرة العلوم ؛ إذ لو كان كذلك ، لم يكن لقوله سبحانه :﴿
مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ معنى . أما إذا كان وجه
الإعجاز الفصاحة ، صح ذلك ؛ لأن فصاحة الكلام تظهر ، إن صدقًا
، وإن كذبًا » .
وعقَّب
الألوسي على ذلك ، فقال :« واعترض
عليه الفاضل الجلبي بما هو مبني على الغفلة عن معنى الافتراء والاختلاق »
؛ ولهذا فسر الألوسي المثلية هنا بقوله :«
مماثل للقرآن في النعوت التي استقل بها من حيث النظم ، ومن حيث المعنى »
.
إلى غير ذلك من الأقوال التي لا
طائل من الجري وراءها وتتبعها ؛ لأنها لا تفسر أسلوبًا ،
ولا توضح معنى . وإذا اختلفت الأقوال وتعارضت الآراء ،
لم يكن بعضها أولى من بعض ، وبخاصة إذا كانت تقوم على أساس هشٍّ ، وفهمٍ غير صحيح .
قال الله جل وعلا :﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا
تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ
كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ
قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ ﴾(الحاقة: 38- 43) .
أولاً-
يقرر الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمة تقريرًا حاسمًا جازمًا حقيقة هذا القول
الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .. هذا القول الذي
تلقَّاه الكفرة والمشركون بالرَّيْب والسخرية
والتكذيب .ويؤكِّد سبحانه وتعالى على أنه حق
ثابت ؛ لأنه صادر عن الحق ، وينفي على سبيل القطع والجزم أن يكون شعر شاعر ، أو
كهانة كاهن ، أو افتراء مفتر ؛ ولهذا فهو أوضح من أن يحتاج إلى قسم لتوكيده بشيء
مما نبصر ، وبأشياء مما لا نبصر من مشاهد هذا الكون العجيب .
وقد
كان مما تقوَّل به المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم : إنه شاعر ،
وإنه كاهن ، متأثرين في هذا بشبهة سطحية ، منشؤها أن هذا القول فائق في طبيعته على
كلام البشر ، وأن الشاعر في وهمهم له من الجن من يأتيه بالقول الفائق ، وأن الكاهن
كذلك متصل بالجن ، فهم الذين يمدونه بعلم ما وراء الواقع .. وهي شبهة تسقط عند أقل
تدبر لطبيعة القرآن والرسالة ، وطبيعة الشعر والكهانة ، وهي شبهة واهية سطحية ،
حتى حين كان القرآن الكريم لم يكتمل ، ولم تتنزل منه إلا سور وآيات ، عليها ذلك
الطابع الإلهي الخاص ، وفيها ذلك القبس الموحي بمصدرها الفريد ، وهو الله جل في
علاه !
وكبراء
قريش وصناديدها كانوا يراجعون أنفسهم ، ويردُّون على هذه
الشبهة بين الحين والحين ؛ ولكن الغرض يعمي البصائر عن رؤية الحق ، ويصمُّ الآذان
عن سماعه .. ﴿
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا
سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ
قَدِيمٌ ﴾(الأحقاف:
11) .
وقد
حكت كتب السيرة مواقف متعددة لزعماء قريش ، وهم يراجعون هذه الشبهة ، وينفونها
فيما بينهم ، ومن ذلك ما رواه ابن اسحق عن الوليد بن المغيرة ، وعن النضر بن
الحارث ، وعن عتبة بن ربيعة ؛ فما كان قولهم : ساحر ، أو كاهن ، أو غير ذلك إلا
حيلة ماكرة أحيانًا ، وشبهة مفضوحة أحيانًا . والأمر أوضح من أن يلتبس عند أول
تدبُّر ، وأول تفكُّر ، وهو من ثمَّ لا يحتاج إلى قسم بـ﴿ ِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ
﴾ ، ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾ ،
وما هو ﴿ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ *
وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾
؛ إنما هو ﴿ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ ﴾
، وكانت
مواقفهم تلك من القرآن الكريم من أهم الأسباب الداعية إلى التحدي
.
ثانيًا- ذكرت
في مقالي السابق ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ
مِثْلِهِ ﴾ أن الله تعالى بعد أن قرَّر في مكة
المكرمة عجز الإنس والجن مجتمعين عن الإتيان بمثل القرآن العظيم
، تحدَّى الخلق عامة ، والمكذبين خاصة أن يأتوا :
﴿ بِسُورَةٍ
مِثْلِهِ ﴾(يونس: 37)، و﴿ بِعَشْرِ
سُوَرٍ مِثْلِهِ ﴾(هود: 13) ، و﴿
بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾(الطور: 34) .
ثم
أعاد سبحانه وتعالى هذا التحدي في المدينة المنورة بعد الهجرة ، فأمر الناس جميعهم
عامة ، والمرتابين في القرآن الكريم من كفار العرب ، ومشركيهم خاصة أن يأتوا بسورة
واحدة من هذا المِثل للقرآن ، وأسجل عليهم إسجالاً عامًا إلى يوم القيامة ، أنهم
لم يفعلوا ، ولن يفعلوا ذلك أبدًا ، فليتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة ،
أعدت للكافرين ، من أمثالهم . وذكرت في مقالي الآخر
﴿ هـذا القـرآن ﴾ أن قول الله عز وجل :
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا
بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾(الإسراء: 88)
كان بمثابة الإعلان في مكة على
لسان النبي عليه الصلاة والسلام بعجز العرب قاطبة ، والأمم عامة ؛ إنسهم وجنهم ،
عن الإتيان بمثل هذا القرآن العظيم عجزًا مطلقًا ، ولو تظاهروا على ذلك . وهذا ما
دل عليه فعل الإتيان المنفي بـ﴿ لَا ﴾ نفيًا شاملاً
، على سبيل القطع والجزم ﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ . فأفاد هذا النفيُ أن الإتيان
بمثل هذا القرآن ، لا يمكن أبدًا ، وأنه فوق طاقة الخلق
من الإنس والجن مجتمعين ، ومتعاونين .
ثم ذكرت أن هذا المِثْلَ للقرآن
الكريم ليس مِثْلاً مفترضًا- كما هو الشائع- وإنما هو مِثْلٌ موجود
، وبينت بالأدلة والبراهين على وجود هذا المثل بما لا يدع مجالاً لأحد أن
يشك في وجوده . ويكفي في بيان ذلك وإثباته أن الله تعالى أقسم على أنه مِثْلٌ موجود :
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ
عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ .
وذكرت أيضًا أنه ليس في هذه
الآية الكريمة ما يشير ، لا من قريب ولا من بعيد ، إلى أن الله تعالى طلب من
المكذبين خاصة والناس عامة أن يأتوا بمِثْل هذا القرآن ، خلافًا للمشهور ؛ إذ كيف
يعلن الله تعالى عجز الإنس والجن على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم عن الإتيان
بهذا المِثْل للقرآن ، ويقسم على ذلك ، ثم يطلب من الناس أن يأتوا بهذا المِثْل ؟
نعم لقد تحداهم في المدينة أن
يأتوا :﴿ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
﴾ ، حين
كانوا في ريب منه ، وأن الجن- على حدِّ زعمهم- كانت تتنزل به على محمد صلى الله
عليه وسلم ، فقال تعالى :﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾(البقرة: 23) . ثم أسجل عليهم إسجالاً عامًا إلى
يوم القيامة ، أنهم لم يفعلوا ، ولن يفعلوا ذلك أبدًا ؛ ولهذا انتقل سبحانه وتعالى
إلى إرشادهم ، فقال :﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا
النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
﴾(البقرة:
24) . وقد سبق ذلك كله قول الله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾(البقرة:21-22).
والخطاب هنا عام للناس كل الناس ، في كل زمان وكل مكان ، إلى أن يرث الله تعالى الأرض
ومن عليها . وليس فيه ما يشير إلى أن الله تعالى تحدَّى العرب أن يأتوا بسورة من
مثل سور القرآن في بلاغته وفصاحته ونظمه ، وإن
كانوا أصحاب بلاغة وفصاحة ، ففي ذلك تحميل للفظ ما لا يحتمله .. وما في
اللفظ يدل على خلاف ذلك :
1-
ففي اللفظ قوله تعالى :﴿
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ ، وهو
خطاب يراد به العموم . والعرب بعض من هذا العموم .
2-
وفي اللفظ قوله تعالى :﴿ وَإِنْ
كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾ .
والريب هو الشك بتهمة ، وهو معلق بـ﴿ إِنْ
﴾ الشرطية التي تدل على إمكان حدوث ما
بعدها ، وعدم إمكان حدوثه . وحدوثه إن كان ، مع قلته ، أخطر تهمة توجه إلى
القرآن الكريم ، فهو أخطر من الافتراء ، ومن التقوُّل ، ومن غيرهما .
ولهذا
نجد آيات القرآن الكريم تتكرر في أكثر من موضع نافية على سبيل الاستغراق والشمول
لكل جنس من أجناس الريب في القرآن الكريم ، وتؤكد على أنه تنزيل من الله جل وعلا ؛
لأنه المعجزة الكبرى التي أيَّد الله تعالى بها رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ ومن
هذه الآيات قوله تعالى :
﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى
لِّلْمُتَّقِينَ ﴾(البقرة: 2)
﴿ تَنزِيلُ
الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ﴾(السجدة:
2)
﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾(فصلت:
42)
3-
وفي اللفظ قوله تعالى :﴿
فَأْتُوا بِسُورَةٍ ﴾ . والإتيان
بالشيء يكون بالمجيء به ، أو جلبه من مكان بعيد إلى مكان
قريب بسهولة ويسر ، دون جهد يبذل . ويكون ذلك إما بالاسترفاد من الغير ؛ كما في
قوله تعالى هنا :﴿ فَأْتُوا
بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ ، أو يكون ذلك بالاختراع من
الجالب ؛ كما في قوله تعالى :﴿ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي
بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ﴾(البقرة:
258)
4-
وفي اللفظ قوله تعالى :﴿
مِنْ ﴾ ، وهي لابتداء الغاية ، مثلها في
قوله تعالى :﴿ فَأْتُوا
بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعُهُ ﴾(القصص:
49) .
5-
وفي اللفظ قوله تعالى :﴿
مِثْلِهِ ﴾ . ومِثْلُ الشيء ، بكسر فسكون ، هو المساوي للمثل الآخر المتفق معه في
الجنس في تمام ذاته ، أو حقيقته وماهيته ، أو جوهره ، لا في صفاته ؛ فإن المِثْلَ
لا يكون مِثْلاً لغيره ، إلا وذلك الغير مِثْلاً له . والمثلان- بإجماع علماء
التوحيد- هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته ، بحيث يسد
مسدَّه . والشيء- كما قال أبو هلال العسكري- لا يكون مِثْلَ الشيء في الحقيقة ،
إلا إذا أشبهه من جميع الوجوه لذاته ، وأن التشبيه بالكاف يفيد تشبيه الصفات بعضها
ببعض ، وبالمِثْل يفيد تشبيه الذوات بعضها ببعض . وقد بينت ذلك في مقالي المذكور :﴿ هـذا القـرآن ﴾ .
فليس
من الصواب في شيء بعد هذا كله أن يقال : إن الله تحدى العرب بأن يقولوا مثل هذا
القرآن ، أو سورة واحدة مثل سور هذا القرآن في بلاغته وفصاحته وحسن نظمه ؛ لأن هذه
صفات خارجة عن ذات الشيء وجوهره ، أو حقيقته وماهيَّته ، لا يعبَّر عنها بلفظ
المِثْل . ومن قال خلاف ذلك ، فإنه لا يعرف جوهر الكلام ،
ولا يدرك شيئًا من أسرار البيان . وما أظن أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم كانوا
يفهمون معنى المِثْلية في هاتين الآيتين ؛ كما فهمها
جمهور المفسرين ، وأعني : المِثْلِيَّة في قوله تعالى :﴿ لَا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ ﴾(الإسراء: 88) ، وقوله تعالى :﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ ﴾(البقرة: 23) .
ثالثًا- وحدث- بين الإعلان عن عجز الإنس
والجن عن الإتيان بمثل هذا القرآن ﴿ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ ، وبين تحدِّي الناس كلهم أن
يأتوا بسورة من هذا المثل للقرآن ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾- أن اعترض الكفار في مكة على
صحة دعوى نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، وأن ما جاء به من القرآن ليس بكلام الله
، وأنه إنما أتى به من عند نفسه على سبيل ( الافتراء ) تارة ، وعلى سبيل ( التقوُّل ) تارة أخرى ، فبيَّن الله تعالى
في هذين
المقامين أن
إتيان محمد عليه الصلاة والسلام بهذا القرآن ليس على سبيل الافتراء على الله تعالى
، وليس على سبيل التقوُّل على الله جل وعلا ؛ ولكنه وحي نازل عليه من عند الله تعالى
، فقال سبحانه في الرد على القائلين بالافتراء :﴿ وَمَا كَانَ هَذَا
الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ
يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
﴾(يونس: 37) ، فنفى سبحانه أن يكون هذا القرآن
مفترى من دون الله . أي : ما ينبغي لبشر أن يفتري هذا
القرآن ، وينسبه إلى الله جل وعلا . فنفى تعالى فعل ذلك ، ونفى احتمال فعله ،
وأخبر بأن مثل هذا لا يقع ؛ بل يمتنع وقوعه ، فيكون المعنى : ما يمكن ، ولا يحتمل ،
ولا يجوز أن يفترى هذا القرآن من دون الله ، فإن الذي يفتريه من دون الله مخلوق ،
والمخلوق لا يقدر على ذلك .
ثم قال سبحانه في الرد على
القائلين بالتقوُّل :﴿ أََمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ
الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي
مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ
بَلْ لَا يُؤْمِنُون ﴾(الطور: 30- 33) . وهو حكاية لإِنكارهم أن يكون القرآن
وحيًا من الله سبحانه ، فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم تقوّله على الله
سبحانه . فالاستفهام إنكار لقولهم ، واستبعاد له . وهم
قد أكثروا من الطعن ، وتمالؤوا عليه ؛ ولذلك جيء في حكايته عنهم بصيغة الحاضر :﴿
يَقُولُونَ ﴾ المفيدة للتجدد ، ثم أتبع بقوله تعالى :﴿ تَقَوَّلَهُ
﴾ بدلاً من قوله ، فيما تقدم :﴿ افْتَرَاهُ
﴾ ؛ وذلك لاختلاف المقامين .
والتقوُّل
معناه : قال عن الغير : إنه قاله . فهو عبارة عن كذب مخصوص ؛
كما في قوله تعالى :﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ
الْأَقَاوِيلِ ﴾(الحاقة: 38) . أي
: قال عنا ما لم نقله . وليس كذلك الافتراء ؛ إذ كل تقوُّل افتراء ، وليس كل
افتراء بتقوُّل ؛ ولهذا شدَّد الله جل وعلا في وعيد من يتقوَّل عليه ما لم يقله ،
فقال في جواب الآية السابقة :﴿ لَأَخَذْنَا مِنْهُ
بِالْيَمِينِ * ثُمَّ
لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴾(الحاقة: 39- 40) .
ثم
قال تعالى :﴿ بَلْ لَا
يُؤْمِنُونَ ﴾ جوابًا لقوله :﴿ أَمْ
يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ﴾ ، فابتدأ الرد عليهم ؛ لتعجيل
تكذيبهم قبل الإِدلاء بالحجة عليهم ؛ وليكون ورود الاستدلال مفرَّعًا على قوله :﴿ لَا
يُؤْمِنُونَ ﴾ بمنزلة دليل ثان . والمعنى : لا يؤمنون بسبب
كفرهم وعنادهم ، مع أن دلائل تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن تقوّل القرآن
الكريم بيِّنةٌ لديهم ؛ ولكنهم أبوا أن يؤمنوا ، وبادروا إلى الطعن في القرآن
الكريم دون نظر ، وشرعوا يلقون المعاذير سترًا لمكابرتهم وجهلهم وغرورهم ؛ من نحو
ما كانوا يقولونه من وجوه اعتراضهم على القرآن ممَّا حُكِيَ عنهم ؛ كما في قوله
تعالى :
﴿
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ
لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾(الأنفال:
31) .
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ
الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ
قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ
إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ ﴾(يونس: 15) .
﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا
بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا
لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
﴾(الزخرف: 30- 31) .
فأخبر
تعالى عنهم : أنهم ادعوا مرة القدرة على أن يقولوا مثل
القرآن ، ووصفوه بأكاذيب الأولين ، وحكاياتهم المسطرة في كتبهم ؛ كالأضاحيك
والأعاجيب . وأنهم طلبوا منه مرة الإتيان بغير القرآن ،
أو تبديله . وأنهم قالوا مرة ، لما جاءهم : هذا سحر ، وكفروا به ، ثم قالوا : لولا
نزِّل هذا القرآن على رجل غيره عظيم ؛ كالوليد بن المغيرة بمكة ، أو عروة بن مسعود
الثقفي بالطائف .. إلى آيات كثيرة في نحو هذا تدل على أنهم كانوا متحيرين في أمرهم
، متعجبين من عجزهم ، يفزعون إلى نحو هذه الأمور ، من تعليل وتعذير ومدافعة بما
وقع التحدي إليه ، ووجد الحثُّ عليه .
رابعًا-
وقد احتج الله تعالى على صحة هذا
القرآن ، وأنه ليس بمفترى ، بأنأمر
نبيه عليه الصلاة والسلام أن يجيب الكافرين عن دعوى الافتراء بتعجيزهم ، وأن يقطع
الاستدلال عليهم ،ويبطل
بذلك دعواهم بافترائه ، فقال سبحانه :﴿ أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾(يونس: 38) ، ثم قال سبحانه :﴿ أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾(هود: 13) ، فتحداهم
أن يأتوا ﴿ بِسُورَةٍ
مِثْلِهِ ﴾ . ثم تحداهم أن يأتوا ﴿ بِعَشْرِ
سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ ، وطلب منهم في الموضعين أن يستعينوا
بمن أمكنهم الاستعانة به من المخلوقين من دون الله ، إن كانوا صادقين ، فقال
سبحانه :﴿ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ .
ومن المحال أن يأتيَ واحد منهم بكلام ، يفتعله ويختلقه من تلقاء نفسه ، ثم يطالبهم أن يأتوا
بسورة مثله ، أو بعشر سور مثله مفتريات ، ثم يعجزون جميعهم عن ذلك .
ومن الواضح أن الآيتين
السابقتين قد وردتا على نمط واحد من الأسلوب . والفرق بينهما : أن التحدي في الأولى أتى ﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ
﴾ ، وفي الثانية
أتى ﴿ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ
مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ . وما عدا ذلك فكل ما فيهما مماثل للآخر.
وأول
ما يلفت النظر- هنا- هو تصدُّر الآيتين الكريمتين بـ﴿
أَمْ ﴾ ، وهي
للإضراب الانتقالي من النفي إلى الاستفهام الإنكاري التعجبي . والغرض منه إبطال
دعواهم أن يكون هذا القرآن مفترًى من دون الله جل وعلا .
و﴿ أَمْ ﴾ هذه هي التي تتقدر عند
النحاة بـ( همزة الإنكار ) ، و( بل )
. وعليه يكون تقدير الكلام : بل ، أيقولون افتراه ، بعدما تبين لهم من الدلائل على
صدقه وبراءته من الافتراء ؟ وقيل : إنكار لقولهم واستبعاد .
والافتراء
معناه : الكذب . وأكثر استعماله في اللغة في الإفساد ؛ وكذلك استعمل في القرآن في الشرك والظلم والكذب عن
عمد ؛ نحو قوله تعالى :﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ
فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً ﴾(النساء: 48) .
وقوله تعالى :﴿ انظُرْ كَيفَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً ﴾(النساء:
50) .
وواضح
أن المراد بقوله تعالى :﴿
فَأْتُوا بِعَشْرِ
سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾(هود: 13) : أن يأتوا بعشر سور مثل القرآن
مفتريات . ويدل عليه أن ضمير الغائب في قوله تعالى :﴿ افْتَرَاهُ
﴾ يعود على قوله :﴿ بَعْضَ
مَا يُوحَى إِلَيْكَ ﴾ من الآية السابقة ، وهي قوله تعالى
:﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ
بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ
مَلَكٌ ﴾(هود: 12) .
أما
قوله تعالى :﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِثْلِهِ ﴾(يونس: 38) فالمراد به : أن يأتوا بكلام ، أو
بقرآن مثل القرآن على وجه الافتراء ، لا سورة واحدة مثله . والدليل على ذلك :
1- أن الضمير في ﴿ مِثْلِهِ ﴾ يعود على ﴿ هَذَا الْقُرْآَن
﴾ في
الآية السابقة لهذه الآية ، على أرجح الأقوال ؛ وهي قوله
تعالى : ﴿
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾(يونس: 37) .
2- أن
من معاني السُّورة في اللغة : المنزلة الرفيعة ؛ ومنه قول النابغة في مدح النعمان
بن المنذر :
ألم تر أن الله أعطاك سورة **
ترى كل ملك دونها يتذبذب
3- أن
السُّورة- على ما قيل- هي كلٌّ متكامل ، وتشتمل على
ألوان من العلوم والمعارف والتشريعات والآداب ، وغير ذلك . وتطلق في الأكثر على
السورة الواحدة من القرآن . وقد تطلق ، ويراد بها القرآن
كله- كما في هذه الآية الكريمة- ومثله في ذلك لفظ ( قرآن ) ، فإنه يطلق ، ويراد به
القرآن كله ، وقد يراد به بعضه .
4-
أنَّ آية يونس التي تتحدى البشر أن يأتوا ﴿
بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾ يأتي بعدها مباشرة قول الله تعالى :﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ
يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾(يونس:
39) . أي : كذبوا بالقرآن ؛ لأنهم لم
يحيطوا بعلمه الذي أحاط بكل شيء . ولفظ ( سورة ) يتضمن معنى :
السُّمو والرفعة . ومعنى : الإحاطة . ومعنى الإحاطة يتضمن : الاشتمال ، والتمييز،
وتحديد المعالم .
5- قرأ
عمرو بن قائد :﴿ بسورةِ
مثلِهِ ﴾ على الإضافة . أي : بكلام مثله . أي : مثل
القرآن .
6- جاء في
كتاب معاني القرآن :« وقيل
: المعنى : فأتوا بقرآن مثل هذا القرآن . والسورة قرآن ،
فكنَّى عنها بالتذكير على المعنى . ولو كان على اللفظ ،
لقيل مثلها » .
7-
أنَّ لفظ ( سورة ) لم يذكر
في أول خمسين سورة ، نُزِّلت على الرسول عليه الصلاة
والسلام ، فقد جاء التحدي ﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ
﴾ في سورة يونس ، والتي هي السورة الواحدة والخمسين في ترتيب النزول .
ثم جاء التحدي ﴿ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ﴾ في سورة هود ، والتي هي السّورة الثانية والخمسين في ترتيب النزول .
وهذا يعني أنّ العرب ، في زمن الوحي ، قد أَلِفَت معنى
لفظ القرآن قبل أن تألف معنى لفظ السورة . وهناك الكثير من السُّور القصار التي
نزلت قبل أن يُسَمِّيَ القرآنُ الكريم كلَّ قطعة متكاملة باسم :( سورة
) .
خامسًا-
ثم احتج تعالى على صحة القرآن ، وأنه ليس
بمتقوَّل ، فقال :﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ
كَانُوا صَادِقِينَ ﴾(الطور: 34). والفاء
هنا للتعقيب . أي : إذا كان القرآن متقوَّلاً- كما يدعون-
فيجب عليهم أن يأتوا بحديث مثله ، إن كانوا صادقين . وقال تعالى هنا :﴿ فَلْيَأْتُوا
﴾ ، بصيغة المضارع المسبوق بلام الأمر ، وبدون وساطة :﴿
قُلْ ﴾ ، خلافًا للآيتين السابقتين ؛ إذ قال فيهما :﴿ قُلْ
فَأْتُوا ﴾ . والسِّرُّ في ذلك :
1-
أن التحدي بقوله تعالى :﴿ فَلْيَأْتُوا
﴾ تحدٍّ غير مباشر يعمُّ كلَّ من نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم
تقوَّل القرآن تارة ، وافتراءه على ربه جل وعلا تارة أخرى . أما التحدي بقوله تعالى :﴿ قُلْ
فَأْتُوا ﴾ فهو تحد مباشر ، ويخصُّ كل من نسب إلى النبي صلى
الله عليه وسلم افتراء القرآن .
2-
أن التعبير بصيغة المضارع المسبوق بلام الأمر ﴿
فَلْيَأْتُوا ﴾ يفيد تجدد التحدي واستمراره دون
انقطاع ، بخلاف صيغة الأمر ﴿ فَأْتُوا ﴾ ؛
فإن التعبير بها يفيد احتمال وقوع الفعل مرة واحدة ، ووقوعه أكثر من ذلك ؛ ونحو
ذلك قوله تعالى:﴿ قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ
يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَا ﴾(إبراهيم: 31). أي :
يداوموا ، ويواظبوا على ذلك دون انقطاع . والتقدير على أحد الأقوال : قل لعبادي
الذين آمنوا ، ليقيموا الصلاة ، ولينفقوا مما رزقناهم .
سادسًا- وواضح
مما تقدم أن المِثْلِيَّة المنصوص عليها في قوله تعالى :﴿ لَا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ ﴾ ، وقوله
تعالى :﴿
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ﴾ هي غيرها في قوله تعالى :﴿ بِسُورَةٍ
مِثْلِهِ ﴾ ، وقوله تعالى :﴿ بِعَشْرِ
سُوَرٍ مِثْلِهِ ﴾ ، وقوله
تعالى :﴿ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾ .
فتلك
يراد بها المِثْل الموجود للقرآن في اللوح المحفوظ ،
والكتاب المكنون ، لا المِثْل المفترض . وأما هذه فالمراد بها أن يأتوا بكلام ، أو قرآن مثل القرآن ، وبعشر سور مفتريات مثل القرآن ،
وبحديث متقوَّل مثل القرآن . وهذا المِثْل لا وجود له في واقع الناس ، لا على سبيل
الافتراض ، ولا على سبيل غيره ؛ لأن الكلام هو كلام الله جل وعلا ، وكلام الله لا
يماثله كلام البشر ، لاختلافه معه في الحقيقة والماهيَّة والجنس ؛ كما أن ذات الله
تعالى لا تماثلها ذات من ذوات البشر ، للسبب ذاته .
ولكن
الذين تحدثوا عن المثلية في آيات التحدي ، لم يفرقوا بين
مثلية ، وأخرى ، فهي مثلية واحدة عندهم ، ومن ثمَّ زعموا أنها مثلية في البلاغة ،
أو الفصاحة ، أو النظم ، أو غير ذلك .
والمتتبع
لأقوال المفسرين في تفسير هذه الآيات الثلاثة ، يجد
المفسرين متفقين على أن المراد بالمثلية في قوله تعالى :﴿
بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ : مثلية
في البلاغة والفصاحة وحسن النظم . أما المراد بالمثلية في قوله تعالى
:﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴾ فاختلفوا
فيها- كما اختلفوا في غيرها- على أقوال :
أحدها : أنها مثلية في كثرة العلوم ،
والأحكام ، والوعد والوعيد ، والإخبار عن الغيب .
والثاني : أنها مثلية في الفصاحة والبلاغة
وحسن النظم .
والثالث : أنها مثلية تامة في غيوب القرآن ،
وعلومه ، ونظمه ، ووعده ، ووعيده .
قال
الثعالبي عند تفسير آية يونس ﴿ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ
﴾ :« والتحدي في هذه الآية- عند الجمهور- وقع بجهتي الإعجاز اللتين في
القرآن : إحداهما : النظم والرصف والإيجاز والجزالة . والأخرى :
المعاني من الغيب لما مضى ، ولما يستقبل . وحين تحداهم بعشر مفتريات
؛ إنما تحداهم بالنظم وحده » .
أما
الطاهر بن عاشور فقال :«
وقد وقع التحدي بإتيانهم بسورة تماثل سور القرآن . أي : تشابهه في البلاغة وحسن
النظم » . ثم قال :«
فالمماثلة في قوله :﴿ مِثْلِهِ
﴾ هي المماثلة في بلاغة الكلام وفصاحته ، لا في
سداد معانيه . قال علماؤنا : وفي هذا دليل على أن إعجازه
في فصاحته بقطع النظر عن علوِّ معانيه ، وتصديق بعضه بعضًا »
.
وكذلك
اختلفوا في المراد بالمثلية في قوله تعالى في الطور :﴿ فَلْيَأْتُوا
بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾ ،
فقال أبو حيان :« أي : مماثل للقرآن في نظمه ووصفه
من البلاغة ، وصحة المعاني والأخبار بقصص الأمم السالفة ، والمغيبات ، والحكم »
. وقال الطاهر بن عاشور :« ومعنى
المثلية في قوله ﴿ مِثْلِهِ
﴾ : المثلية في فصاحته وبلاغته »
. وذهب الفخر الرازي إلى أنه استدل بهذه الآية على أن إعجاز القرآن بفصاحته ، لا
باشتماله على المغيبات ، وكثرة العلوم ؛ إذ لو كان كذلك ، لم يكن لقوله سبحانه :﴿
مُفْتَرَيَاتٍ ﴾ معنى . أما إذا كان وجه
الإعجاز الفصاحة ، صح ذلك ؛ لأن فصاحة الكلام تظهر ، إن صدقًا
، وإن كذبًا » .
وعقَّب
الألوسي على ذلك ، فقال :« واعترض
عليه الفاضل الجلبي بما هو مبني على الغفلة عن معنى الافتراء والاختلاق »
؛ ولهذا فسر الألوسي المثلية هنا بقوله :«
مماثل للقرآن في النعوت التي استقل بها من حيث النظم ، ومن حيث المعنى »
.
إلى غير ذلك من الأقوال التي لا
طائل من الجري وراءها وتتبعها ؛ لأنها لا تفسر أسلوبًا ،
ولا توضح معنى . وإذا اختلفت الأقوال وتعارضت الآراء ،
لم يكن بعضها أولى من بعض ، وبخاصة إذا كانت تقوم على أساس هشٍّ ، وفهمٍ غير صحيح .