الحمد لله و الصلاة و السلام على رسول الله و بعد

خلق الله الإنسان و أوجد فيه العاطفة و العقل ، قوتان دافعتان ، لا سبيل للتخلص من إحداهما ، إنما السبيل ترويض الأولى و

تحكيم الثانية ، و ذلك لأن العاطفة بطبيعتها متطرفة يجب ترويضها أما العقل فهو بطبيعته جاهل يجب أن يتعلم ، الطفل يصدر

عن عاطفته دائماً ، حتى يكبر و يتعلم و يتثقف رويداً رويداً فيستطيع السيطرة على تلك العاطفة و توجيهها الوجهة الفاعلة المنتجة

، و الموازنة بين القوتين هي المطلب الأسمى للتقدم و حسن التصرف في المواقف

المجتمعات تنطبق عليها الصفات ذاتها ، فكلما ضَعُف صوت العقل في المجتمع علا صوت العاطفة ، و العكس بالعكس ، ففي

المجتمع الجاهل قد يقتل الرجل أخاه من أجل قدر لا يُذكر من المال أو لخلاف بسيط ، كما تكثر حالات الطلاق في الأسر الأمية

أو البسيطة عنها في الأسر المثقفة أو المتعلمة –و لكل قاعدة شواذ-

في ظروف الاحتقان و الكبت التي تعانيها الشعوب المستضعفة تتولد طاقة -تتمثل في الغضب- داخل المجتمع ، هذه الطاقة إن

توجهت إلى العاطفة تولّد انفجار مفاجئ أو ما قد يتشكل في ثورة أو انقلاب و نحوه –انظر ثورة الزنج كمثال- ، أما إن توجهت

هذه الطاقة إلى العقل فإنها تتجه إلى العمل و الإصلاح و النهضة –كما فعل اليابانيون و الألمان بعد الحرب العالمية-

إن الشخص العاطفي بفوران عاطفته يشعر أنه يؤدي واجباً ما ، أو له رسالة و يرى أن انفجاره العاطفي قد يكون الوسيلة الوحيدة

و الأنجع في إيصال تلك الرسالة أو بلوغ ذلك الهدف ، فإن كان ينتظر نصراً سريعاً على عدو أو إصلاحاً سريعاً لحال أمته ، فإنه

ينظر بعين الغضب و العداوة لمن ينبهه أن هذا النصر أو الإصلاح بعيد و تسبقه خطوات كثيرة قبل الشروع في بلوغه ، و ربما

اتهم ناصحه هذا بالعمالة أو السلبية... و ذلك لأن الذي يدعوه إلى التعقل و إبصار الواقع ليس فقط يوقظه من حلم جميل ، إنما

يوجهه إلى طريق أصعب يتطلب عمل و صبر مدة أطول

الشباب الذين يرون التغيير في التظاهر و الثورات... ما رأيكم في العودة إلى خير الهَدي؟

أمضى المسلمون 13 سنة من الإذلال و التعذيب و القمع تحت النظام المكي "المشرك" ، حتى كانت تُقتل أُسر بأكملها ، فكان

النبي صلى الله عليه و سلم يمر بآل ياسر و هم يُعذّبون أمامه فما يزيد على قوله: صبراً آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة.

ما هذا؟ لا رد للعدوان؟ لا نهي عن المنكر؟ لا كلمة حق في وجه الظالمين؟ ليس هذا هو الوقت... بل الوقت وقت تربية

، و صبر و تحمّل ، حتى إذا قامت الدولة ، تحملوا أشد الصعاب فكان جيل من الرجال فتح مشارق الأرض و مغاربها و نشروا

رسالة الإسلام في ربوع المعمورة


و عندما جاء إليه صلى الله عليه و سلم خبّاب بن الأرت رضي الله عنه قائلاً: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال:

قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها فيُجاء بالمنشار فيوضَع على رأسه فيُجعل نصفين ، و يمشّط

بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصدّه ذلك عن دينه ، و الله ليُتمّنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى

حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، و لكنكم تستعجلون. رواه البخاري ، من يتعلم الصبر و التحرك بين

جموع الناس بدعوة الإسلام... هو سبيل الخروج من الوضع و الحال الذي نعانيه –الذي هو في الواقع أفضل مما كانوا يعانون-


و لما هدد فرعون –أطغى طغاة التاريخ- بني إسرائيل بقتل الأبناء و الاعتداء على النساء... ماذا كان رد نبي الله موسى عليه

السلام؟ هل دعاهم إلى الحشد و التظاهر و الثورة على نظام فرعون –أكفر الكفار مدعي الربوبية-؟ لا لم يفعل أهي السلبية؟ لا

بل هي قمة الإيمان فقد جاء في كتاب الله (قال موسى لقومه استعينوا بالله و اصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من

عباده و العاقبة للمتقين)
إذاً فلزوم التقوى هو سبب التمكين... لنلزم التقوى و ندعو الناس إلى التزام شرع الله... أم أننا

سنرث الأرض بمزاجنا؟ لله في كونه سنن... لنكن واقعيين و نحترمها

لو أن الشاب الذي يهدف إلى أن يكون أمير المؤمنين عُرض عليه أن يكون مديراً لمبنى سكني ، لرفض و شعر بأن هذا استهزاءً

به و بهدفه و طموحاته و قدراته.. و لكنه لا يعلم أن الطريق لإمارة المؤمنين لا يبدأ إلا بتولي مراكز صغيرة ثم يتلوه إثبات

الجدارة لتولي المناصب الكبيرة... مشكلتنا ليست مع المستحيل الذي نتمنّاه ، و لكنها مع الممكن الذي ضيّعناه



الشباب اليوم على أتم الاستعداد ليُقتلوا و يُعذبوا في سبيل الحرية و الإصلاح ، و لكن هل الشاب المدخن على استعداد للإقلاع عن

التدخين من أجل الإصلاح؟ هل هو على استعداد لأن يلتزم الصلاة في المسجد من أجل الإصلاح؟ هل و هل و هل.. أم أننا

صرنا نرى التغيير "فقط" يكمن في التظاهر و الثورة ، لا ليس هذا هو السبيل الوحيد للتغيير بل ليس سبيلاً للإصلاح ابتداءً من

دون تربية و علم

إن حال أمتنا اليوم –تاريخياً- ما هو إلا حصيلة نهائية لكل أشكال الإحباط و الانكسار و كل ألوان الصمود و المقاومة طوال

أكثر من سبعة قرون ، واقعياً إن كل مسلم هو جزء من إشكالات الأمة بسلوكه و منهجه و خلقه و فعاليته. من المستحيل على

جيل من الأجيال أن يعيد الأمجاد المفقودة ، خاصة و قد وصل عدد أفراد الأمة مليار و ربع المليار...


الحل ليس مدّخراً عند شخص ، لكنه مذخور في دم كل مسلم مهما كان شأنه ، و ذلك بأن يقلل من سلبياته ، و أن يضاعف

فاعليته ، و أن يساعد في إيجاد الوظائف للمبادئ الإسلامية تخطيطاً و تنفيذاً في جزئيات و كليات حياتنا

ملحوظة:

من الناس الطيبين من يؤيد "التغيير لمجرد التغيير" فإنهم يعتقدون أن في الحركة بركة و أن المهم هو الاندفاع مع الجماهير

الغفيرة نحو التغيير.. و يظنون –بل بعضهم يوقن- أن التنظير و التفكير بضاعة الهاربين من ثقل التكاليف ، و ما يُقال ما هو إلا

كلام في كلام.. إن هذا خروجاً عن الموضوعية ، فليس كل حركة بركة ، كما أن القعود عن الحركة خير من تحركات خاطئة لا

ترتكز على ثوابت و رؤى منهجية


هب أن باب بيتك متآكل و به من العيوب الكثير ، هل يُعقل أن تخلع هذا الباب دون أن تجهّز الباب البديل؟


أخيراً... و باختصار:

منهج التغيير في هذه المرحلة: التربية ، الدعوة ، الصبر. إلى متى؟ إلى أن يرى الله منا خيراً ، لا نقول بعد عام أو عقد أو قرن

، الله أعلم

إصلاح الأفراد هو إصلاح في جسد الأمة ، و كن على يقين أن البحر لا يكون إلا من جنس ماءه

إن الله لا يُصلح عمل المفسدين

إن مشكلتنا ليست مع المستحيل الذي نتمنّاه و لكنها مع الممكن الذي ضيّعناه

العاقبة للمتقين

للتوسّع:

فصول في التفكير الموضوعي – الشيخ عبد الكريم بكار

منطلقات الدعوة - الشيخ ياسر برهامي


إن كان خيراً و توفيقاً فمن الله و إن كان خطأً فمن نفسي و من الشيطان