شَرْحُ الْفَتْوَى الحَمَوِيَّة الكُبْرَى لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - رحمه الله تعالى- شرحها الشيخ العلامة صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ حفظه الله تعالى [(11) شريطا مفرغا] يوم الخميس 16 جمادى الآخرة 1416هـ - الخميس 9 محرم 1418هـ ملاحظة: تفريغ الأشرطة لا يعني الاستغناء عنها. أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري شَرْحُ الْفَتْوَى الحَمَوِيَّة الكُبْرَى ....الجزء 1 شَرْحُ الْفَتْوَى الحَمَوِيَّة الكُبْرَى ....الجزء 2 شَرْحُ الْفَتْوَى الحَمَوِيَّة الكُبْرَى ....الجزء 3 شَرْحُ الْفَتْوَى الحَمَوِيَّة الكُبْرَى ....الجزء 4 شَرْحُ الْفَتْوَى الحَمَوِيَّة الكُبْرَى ....الجزء 5 شَرْحُ الْفَتْوَى الحَمَوِيَّة الكُبْرَى ....الجزء 6 تابع (20)وجوب التحاكم إلى الكتاب والسنة ليس خاصا في الخصومات العملية بين الناس؛ بل حتى في الخصومات العلمية يجب الرد إلى الكتاب والسنة، فهؤلاء الذين تنازعوا في العلميات في مسائل الصفات والإيمان والقدر والأسماء وغير ذلك، هؤلاء اختلفوا فيها ولم يردوها إلى الكتاب والسنة؛ بل قالوا: إن الكتاب والسنة لا يهدي في هذه المسائل؛ بل الذي يهدي هو العقل. فصار ذلك اتخاذا لطاغوت، تجاوزوا به حدَّه، والطاغوت يكون بأشياء منها طاغوت المتكلمين هذا الذي ردُّوا به الكتاب والسنة وتحاكموا إليه، ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ?[النساء:60]، تحاكموا إلى العقل، تحاكموا إلى الفلسفة، تحاكموا إلى أقوال اليونان، تحاكموا إلى أقوال جهم، إلى أقوال كبرائهم، وتركوا ما يدل عليه الكتاب والسنة. وهذه هي حقيقة قول المتكلمين، فإن المتكلمين تركوا تحكيم الكتاب والسنة في مسائل الصفات وأخذوا بتحكيم أرائهم وأقوال كبرائهم، وهو من تحكيم الطاغوت. ويمنع من تكفيرهم عدم الجزم بأنهم أرادوا هذا التحاكم، قد يكونون تحاكموا من غير إرادة له ورغبة، إنما لشبهة فيه، فقوله جل وعلا (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) الإرادة هنا مقصودة، (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) فمن أراد واختار التحاكم إلى الطاغوت لا لشبهة قامت عنده فإنه كافر، ولهذا أهل العلم ما كفروا عامة المتكلمين، وإنما ربما كفروا أفاردا منهم الذين تبينوا منهم الحق وتركوه وتحاكموا إلى الطاغوت رغبة منهم في ذلك وإرادة منهم لأقوال الفلاسفة واليونان، والعياذ بالله بعضهم يضيق إذا جاءت النصوص كما في مصنفات بعض المعتزلة وأشباههم، إذا جاء النص ضاق، تحس أن في صدره حرجا منه. حتى أني سمعت كلمة لبعض المعتزلة أو من ينحون منحى المعتزلة في هذا الوقت يتكلم عن بعض المسائل في الصفات، لما جاء الكلام العقلي قرر مذهبه، ولكن لما جاءت الأدلة من النصوص تلحظ منه وهو يتكلم أن في صدره حرج من إيرادها، فهذا من أعظم الاختلاف، يتلو النص وفي صدره عدم راحة، يود أنه لو لم يكن في الباب هذا النص، هذا بلاء عظيم. (21) هذا زعمهم يقولون: نريد أن نوفق بين الدلائل العقلية والنقلية. هذا عمل المتكلمين، أما الفلاسفة، الفلاسفة الإسلاميين يقولون: نرجع النصوص إلى العقل، العقل عندهم أساس، المنطق، الفلسفة وما دلت عليه التجربة والنظر والتأمل هذا أساس, والنص يرجع إليه إن وافقه أخذ به وإن لم يوافقه حمل على محمل يناسب المقام. ففرق بين المتكلمين والفلاسفة, الذين يوفقون بين الدلائل النقلية والعقلية, هؤلاء هم المتكلمون الذين يوفقون، مثل ما ألف ابن رشد كتابه ‹فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال›. فقد ذكرت لكم في أحد هذه المجالس أنّ طلب الحكمة الذي كان عند اليونان -يعني طلب معرفة الصواب بالأشياء إما الأشياء المنظورة أو غير المنظورة-، هذا يكون بالعلم أو العمل، العلم بالعقليات دخل إلى المسلمين فمن ردّ هذه العقليات من السلف. ومن قال نقبل ذلك ونجعله أساسا، وإذا وافقته النصوص أخذنا بها وإذا خالفته النصوص تركنا النص؛ لأنه تكون دلالته غير واضحة وهم أهل التجهيل، وهؤلاء الفلاسفة. وطائفة تقول نأخذ بالنص ونأخذ بالدليل العقلي ونوفق بينهما، فجمعوا بين علوم اليونان وعلوم الشريعة في خليط وعجينة جديدة سُمّيت علم الكلام. هذا من جهة العلم. ومن جهة العمل صار عندنا شرائح دخلت اشراقات اليونان وآراء فلسفية في إصلاح النفس، ومما أثّر في الأمة منها القول بالإشراق والخير ونحو ذلك الذي شاع عند الصوفية في آواخر القرن الثالث والرابع وما بعده. المقصود من العلم المهم أن تعرف كيف دخل الانحراف على المسلمين، كيف دخل؟ ما تفهم الأقوال في العقيدة ولا التفصيلات حتى تعرف تطور ذلك في السنين، في القرن الأول كان كذا، والقرن الثاني كان كذا، وتدرج ذلك، تفهم كل قول ما منشؤه، ولم نشأ الخلاف فيه؟ والأقوال المتضاربة ما سببها؟ أما إذا أخذت الأقوال أقوال الأئمة، أو أقوال المخالفين دون معرفة بتسلسل القول، وكيف نشأ يكون عندك ضعف لإدراك المراد من كلامهم والرد عليهم، إلى آخره، من العلم المهم أن تعلم كيف دخل الانحراف على المسلمين في شتى المجالات؛ في الاعتقاد، في العمل، بالتفصيل إلى آخره. .. ما أعرف في الحقيقة أن هناك بحثا مفصلا فيه؛ لكن يمكن أن يؤخذ باستطراد من كلام شيخ الإسلام من درء تعارض العقل والنقل ........ (22) هذا الكلام واضح من حيث دلالته على إبطال ما تكلم به المتكلمون وزعموه دلائل ويقينيات من نقض النصوص بالعقليات. التنبيه هنا على قوله (ولازم هذه المقالة) هذا يكثر عند أهل العلم أن يذكروا اللوازم التي تلزم على الأقوال الباطلة، وذلك من جهة البرهان؛ لأن من البرهان على إبطال المقالة أو على فسادها أو على ضعفها أن يلزم منها لوازم باطلة، فإذا كان القول يلزم عليه لوازم باطلة فإن القول باطل، وليس هذا من شيخ الإسلام ولا من أهل العلم بإلزام للقائـل بلازم مذهبه؛ لأن التحقيق أن لازم المذهب ليس بمذهب حتى يُصَرِّح صاحبه بمذهبه؛ لكن لازم المذهب يدل على بطلان المذهب، إذا كان ذلك اللازم باطلا، وهذا يستفاد منه في المناظرات، وفي إبطال أقوال أهل الضلال خاصة في العقائد، يستفاد منه أكبر فائدة، فنجد مثلا هنا يقول (لازم هذه المقالة أن يكون ترك الناس بلا رسالة خير لهم في أصل دينهم) معلوم أن المتكلمين لا يقولون أن ترك الناس بلا رسالة خير لهم في أصل دينهم؛ لكن هذا لازم على تلك المقالة، ولما كان هذا اللازم يشترك فيه يعني في بطلانه المتكلمون يشترك في إبطاله المتكلمون وأهل السنة دل على فساد تلك المقالة. فهذا تنبيه على طريقة من طرق الاحتجاج على إبطال أقوال الخصوم. (23) السُّمنية بضم السين. (24) هذه الكلمة من شيخ الإسلام مهمة ونفيسة رحمه الله تعالى؛ لأن فيها بيان أصل الضلال في هذا الباب، وأن زعم من زعم أن طريقة المتكلمين هذه أنها أحكم أنها باطلة؛ لأن هذا القول قول فيه الإجحاف بالسلف الصالح -كما مر معنا-، ومن المعلوم أنه لم يأتِ شيء في النصوص ولا في هدي النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ يرشد الناس إلى ألا يأخذوا بظواهر النصوص؛ بل قال «إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا؛ كتاب الله» كما رواه مسلم في الصحيح، ورواه غيره في قوله «كتاب الله وسنتي ولن يفترقا حتى يرد علي الحوض». وقد قال بعض العلماء: إنه من اليقين القطعي أنّ النبي ( لما تلا القرآن وذكر النصوص التي فيه في الغيبيات والصفات وغيرها، كذلك لما ذكر حديث الصفات على الناس، لم يرد أنه أتبعها بشيء يصرفها عن ظاهرها؛ بل أوردها وترك فهم المعنى للناس، وهذا يدل على أنَّ المعنى الذي اشتملت عليه تلك النصوص هو ظاهر اللفظ؛ لأنه لو كان المعنى غير الظاهر معنى آخر يؤول يجب على النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أن يبينه حتى لا يعتقدوا في الله العقيدة الباطنة، فلما لم يُتبِع ذلك عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ بشيء يصرفه عن ظاهره دلنا على أن الظاهر مراد. ثم نقول إنّ هذه المقالة وهي مقالة التأويل إنما هي مأخوذة عن الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، والجهم ابن صفوان كما ذكر في آخر الكلام، وهو كلام مهم، الجهم بن صفوان كان فقيها عنده علم بالفقه بعض الشيء، ووقع له اجتهاد في مناظرة هذه الطائفة من الطبائعيين الذين يقولون بتناسخ الأرواح وهي طائفة السُّمنية، طائفة من طوائف خراسان والهند، ناظرهم في وجود الله جل وعلا فحيَّروه، حتى قالوا عنه إنه تحير فبقي أربعين يوما لا يصلي من شدة الحيرة، وهذا لأجل أنه خاض في مناظرة أولئك دون علم واسع بما يجب وينبغي في مناظرة أمثال هؤلاء، فقاده ذاك إلى أنه يثبت وجود الله لهم، فلم يجد دليلا يثبت به وجود الله جل وعلا إلا ما سُمي فيما بعد بطريقة حلول أو حدوث الأعراض في الأجسام أو طريقة الجوهر الفرد. هذه الطريقة لها تفاصيل؛ لكن المقصود أنها طريقة مخالفة لما جاء في القرآن والسنة من إثبات الله جل وعلا، ولما تقتضيه الضرورة الفطرية في الإنسان أنه جاء لا من فعل نفسه، ولا من فعل والديه، وقد رُكِّبت فيه هذه الآلات تركيبا عجيبا، محال عند كل ذي عقل أن يكون الزمن أو أن تكون الطبيعة أوجدتها على هذا النحو العجيب. سلك تلك الطريقة التي هي طريقة حلول الأعراض في الأجسام، وقال إنَّ العرض لا يقوم بنفسه – العرض مثل اللون أو الألوان والطبائع الأربعة: الحرارة البرودة والرطوبة واليبس، ومثل الارتفاع والانخفاض والحركة ونحو ذلك، هذه أعراض تكون في الجسم - فلما كان كذلك، قال: إن هذه الأعراض في الجسم الجامد تحل فيه، تحدث فيه، والجسم الجامد هذا لا يمكن أن يكون أحدث تلك الأعراض؛ بل إنما أُحدثت فيه، كذلك هذا الجسم الجامد إذا جزأناه إلى أجزاء صغيرة صغيرة ينتهي إلى ما سَمَّوه بالجوهر الفرد، وهذا الجوهر الفرد يعني الخلية الواحدة أو الجزيء الواحد هذا فيه عرضا أيضا من تلك الأعراض التي ذكرنا. ومعلوم أن هذا الجزيء الواحد لا يمكن أن يُحدث ذلك العرض لنفسه، لا يحدث الارتفاع في نفسه ولا البرودة ولا الحرارة ولا الرطوبة، إلى آخره، فَعُلم أنه محدَث فيه، وإذا كان محدثا فيه فلا بد له من محدث. وإذا كان كذلك فخرج هذا الجزيء الصغير، أو خرج هذا الجسم الذي حلت فيه الأعراض، عن حكم الطبيعة؛ لأنه لا يمكن لهذا الجزيء وهو الطبيعة أن يؤثر تلك التأثيرات. المقصود أنهم سلَّموا له بأن الأجسام لابد لها من محدث، قالوا: من هذا المحدِث؟ قال هذا هو ربي هو الله جل وعلا. فلنا سلموا له بذلك فرح، ثم قالوا له صِفْ لنا ربك، فلما أراد أن يصفه بما جاء في القرآن من الصفات تحيَّر أكثر؛ لأنه وجد أنه إذا وصف الله جل وعلا بما جاء في القرآن فإنه سيعود على دليله الذي ذكر بالإبطال؛ لأنه إذا وصف الله بأنه رحيم بأنه ذو رحمة، فالرحمة عرض ليست بجسم يُرى، إنما هي عرض، فمعنى ذلك أن هذا العرض حل في جسم، وهذا يقضي على برهانه الذي أتى به بالإبطال، لأنه يعود يقول من الذي أحدث الرحمة في ربك يا جهم؟ نظر في الصفات؛ الحركة ، في المجيء والإتيان ونحو ذلك، نظر في الاستواء وهو الاستواء على العرش، والعلو، ونحو ذلك، فتحير فلما لم يجد برهانا على وجود الله إلا ذلك البرهان، قال: إنَّ هذا البرهان قطعي فلابد أن كل ما عاد على هذا البرهان القطعي بالإضعاف أو بالبطلان أنْ يؤول، فأوَّل نصوص الصفات جميعا وهذا الذي تبعه عليه المعتزلة ثم الكلابية ثم الأشاعرة، إلى آخره. هذا مقصود شيخ الإسلام لما ذكر في هذه الجملة، وهي جملة لها تفاصيل كبيرة معروفة. (25) هذا الكلام ظاهر لك في أصل الضلال، والجهم بن صفوان هو الذي أسس تحكيم العقول على النصوص، وأن النص لا يحكم بظاهره حتى يعرض على العقل، ولهذا كل من حكم العقل على النص يقال له جهمي، فالمعتزلة من السلف يقولون عنهم أنهم جهمية، بشر المريسي هذا من كبار المعتزلة وهو من الجهمية، وكذلك الكلابية يطلق عليهم طائفة من أئمة السلف أنهم جهمية، كذلك الأشاعرة يقال عنهم جهمية باعتبار أنهم شاركوا جهما في الأصل الذي به رد دلالة النصوص وهو مشاركتهم له في تحكيم العقل على النص. إذن نسبة الطوائف وفرق الضلال إلى جهم بالتبعية له في الأصل الذي أصله إن كانوا لا يقولون بكل ما يقول جهم فليست النسبة مقتضية بالمماثلة في كل شيء والمساواة بل إذا وافق في الأصول، وإن زعم أنه لا يقول بقوله. التأويلات التي ذكرت في كتب الأشاعرة مثل [......] كتاب التأويلات [....] وهو مطبوع، ومثل كتاب الرازي تأسيس التقديس، الذي رد عليه شيخ الإسلام في كتاب كبير سماه [محو التأسيس] وكغيرهم من المعتزلة والماتريدية لما أولوا من النصوص، هؤلاء إنما تبعوا أوائل المعتزلة والجهمية في تأويل النصوص، تبعوا بشرا المريسي وأمثاله، بل إن بشرا المريسي أعرف بدلالات المنقول والمعقول –مثل ما ذَكر- من هؤلاء؛ لأنه لم يخض في تأويل كل الصفات وإنما خاض في تأويل ما يعظم الشبهة عنده في تأويله، وأما هؤلاء المتأخرون فإنهم خاضوا في تأويل كل الصفات التي لا يثبتونها بجراءة وعدم مراعات عقول الناس، ومن أعظم ذلك دخولهم في تأويل العلو وتأويل الاستواء ونحو ذلك من الصفات. فالمقصود أن الطريقة متتابعة وأنَّ طريقة هؤلاء إنما هي تبع لطريقة بشر المريسي، وبشر المريسي وأتباعه أجمعت الأمة في وصفهم يعني الفرقة الناجية، أجمع السلف في وصفهم الأئمة ومن تبعهم على أنهم ضلاَّل، وكفّرهم طوائف كثيرة من أهل العلم، وهذا ظاهر بيّن، فالأخذ بمقالتهم أخذ بالضلال الذي أجمع على تضليل من قال به السلف الصالح رضوان الله عليهم، ورحمهم الله تعالى. (26) بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فأسأل الله جل وعلا أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح وأن يبصرنا في ديننا وأن يجعل هذا العلم نورا في القلوب وبصيرة لما نأتي ونذر. ما ذكره هنا تَعداد للكتب التي توجد فيها أقوال السلف في الاعتقاد، وسمعت منها كتبا كثيرة سيأتي كثير من النقول عنها، كذلك نقل عنها وعن غيرها ابن القيم رحمه الله في كتابه ‹اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية› وينقل عنها أهل العلم نصوص السلف في العقيدة في باب الإيمان والقدر وغير ذلك، هذه الكتب التي ينقل عنها يكتفى فيها بشهرة الكتاب ونقل العلماء عنه، ولا يشترط فيها أن يثبت الكتاب لمصنفه وذلك لأن الكتاب إذا نقل عنه أهل العلم واعتمدوه فإن هذا يكفي في النقل عنه، يعني أن يُعتمد وينقل عنه لأن العلماء نقلوا عنه، ولا يفتقر ذلك إلى صحة نسبة الكتاب إلى المؤلف؛ لأن المقصود ما اشتمل عليه الكتاب من الأقوال، وذلك لأن في بعض ما سمعنا من الكتب شيئا من البحث في نسبة الكتاب إلى مؤلفه مثل كتاب الحيدة للكناني، فإن هناك بحثا [انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني] معروفا في نسبته إلى مؤلفه، وهكذا أيضا غيره. المقصود أن هذه الكتب اعتمدها المتقدمون من أهل العلم ونقلوا عنها، وكلام السلف من حيث الأصول وأيضا أفراد العقيدة موجود في هذه الكتب، من حرص على كلام السلف وجده في هذه الكتب. المسألة الثانية مما يتعلق بهذا المقام أن كتب المتقدمين من السلف ليست بسهولة الأخذ منها ومنهجية تصور مسائل العقيدة منها كالكتب التي صنفت متأخرة لأئمة السنة كلمعة الاعتقاد والواسطية والحموية والتدمرية هذه وأشباه ذلك؛ وذلك لأن تلك الكتب تعتمد على نقل أقوال السلف، كلام السلف واحد كقواعد في العقائد، وليس يُفهم على أن كل قول منه أصل وقاعدة في بابه، كلام السلف يفهم بعضه مع بعض، سواء كان ذلك كلام الصحابة أو كلام التابعين أو كلام تبع التابعين، أو كلام الأئمة، وذلك لأنه يوجد في كلامهم متشابه، لابد من إرجاع بعضه على بعض، حتى يحكم القول في مسائل الاعتقاد، نعم أكثر كلامهم واضح؛ لكن طالب العلم إذا لم يكن عنده تقعيد جيد في العقيدة، فإنه إذا نظر في كلام الأولين قد يشتبه عليه، ولا يدرك المراد منه، وذلك لأن فهمه يحتاج إلى جمع أقوالهم ومعرفة اصطلاحاتهم؛ بل ومعرفة ما يجري في ذلك الزمن من ردود وأقوال، فمن الكلام المنقول عن السلف ما لا يفهم إلا بفهم بساط الحال الذي كان يعيش عليه ذلك الكلام، وهذا كثير في فهم كلام أهل الفتوى في كل زمان. ذكر أيضا فيما سمعت كتاب الصفات للبيهقي، والبيهقي معدود في الطبقة الأولى من طبقات الأشاعرة، والطبقة الأولى هي أقرب طبقات الأشاعرة لأهل الحديث، فالبيهقي رحمه الله في كتابه الأسماء والصفات خلّط في أبواب الصفات، ولم يجر فيها على طريقة أئمة السنة المتقدمين، فقسم الصفات إلى صفات ذات وإلى صفات فعل، فما كان من صفات الذَّات وجاء نصه في القرآن يعقد له الأبواب لإثباته، وما كان من صفات الفعل -في بعضها- فإنه يتأوله، ويعقد الباب لذكر ما جاء فيه، يقول مثلا: باب ما جاء في الضحك، باب ما جاء في الإتيان، باب ما جاء في الهرولة، وذكر شيخ الإسلام له لا لأجل أنه من كتب أئمة السنة ولكن لأجل أن أقوال السلف موجودة فيه، فهو كتاب ينقل فيه البيهقي بالأسانيد عن المتقدمين، فتؤخذ منه أقوال السلف في مسائل الاعتقاد في الأسماء والصفات. (27) الأصل في الترضي أنه للصحابة، ?رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ?[التوبة:100]، ?لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ?[الفتح:18]، وغير الصحابة يجوز أن يُترضى عنهم؛ ولكن بشرط أن لا يكون ذلك شعارا؛ معناه ألا يلتزم مع ذكر من هم دون الصحابة دائما الترضي، مثل الصلاة، فيجوز أن يُصلى على غير الأنبياء لكن لا يكون ذلك دائما على جهة الشعار، صلَّى الله على أبي بكر، كما قال بعض الصحابة فهذا جائز على جهة المرة والمرتين، فالنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كان إذا أتاه قوم بصدقاتهم صلَّى عليهم، فأتاه ابن أبي أَوْفَى بصدقة قومه قال«اللهم صلِّ على ابن أبي أوفى» أو «على آل أبي أوفى»، وأوسع من الصلاة الترضي، فإنه يسوغ الترضي؛ لكن لا يُجعل ذلك بندية الترضي على الصحابة، يعني يقال مرة مرتين ثلاث، ونحو ذلك، ولا يلتزم مع إمام من الأئمة. (28) هذا الكلام قواعد كلها تحتاج إلى تفصيل لكن تأخذون تفصيلها من مظانه. ننبه هنا إلى التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل هذه العبارة جُمعت من أقوال متنافرة للسلف بفهم مذهب السلف بعامة. التحريف: صرف اللفظ عن معناه إلى معنى آخر لا يحتمله البتة، قد يكون بزيادة أو نقصان، مثل تفسير استوى استولى، هذا تحريف لا تدل عليه اللغة ولا يحتمله اللفظ، مثل تفسير الإتيان بإتيان الأمر هذا تحريف أيضا؛ لأنه لا دليل يدل على ذلك. كذلك التعطيل: التعطيل هو الإخلاء يعني إخلاء الرب جل وعلا عن الصفة، فحقيقة قول النفاة أنهم عطلوا الله عن صفاته يعني أخلوه جل وعلا من أن يكون موصوفا بصفة. والتكييف: أن تُجعل الصفة على كيفية من الكيفيات، يكيف الصفات، فيقول مثلا: كيفية استواء الله جل وعلا هو كذا وكذا، كيفية سمع الله جل وعلا هو كذا وكذا، كيف يسمع؟ يقول كذا وكذا؛ يجيب، هذه الطريقة لبعض الضالين في القديم، يكيفون، وهذا منفي لأن الله جل وعلا إثبات الصفات له إثبات وجود لا إثبات كيفية. والأخير التمثيل: التمثيل هذا نفي يقول الله جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، التمثيل قد يكون، التمثيل هو إثبات المثل أو المثلية، قد يكون في صفة من الصفات، وقد يكون إثبات المثل في أكثر من صفة أو في الذات والصفات، وهو خلاف التشبيه، فالتمثيل أن يقال يده كيد الإنسان، استواءه كاستواء الإنسان، هذا يقول هذا مثل هذا، هذا أيضا منفي؛ لأن الله جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]. وتفاصيل هذه الجملة بتعريف هذه الألفاظ الأربعة تجدونها فيما سبق ذكره في شرح الواسطية أو في الكتب المعروفة في ذلك. قال بعدها كلمة مهمة هي قوله: إنما وصف الله جل وعلا به نفسه أو وصفه به رسوله ( حق لا مرية فيه، يُفهم من حيث مقصود المتكلم بكلامه. هذه الكلمة دقيقة؛ وذلك أن مقصود المتكلم بكلامه: تارة يكون من جهة أفراد الكلام، وتارة يكون من جهة التركيب. مثلا يقول هذا كتابي، تفهم معنى الكتاب هو الذي في ذهنك منه، يقول مررت بفلان، تفهم معنى المرور حيث هو كلمة وفلان تتصوره، هذا استعمال للألفاظ وفهم المعنى العام مبني على فهم هذه الألفاظ. هذا يسمى المعنى الإفرادي للكلام؛ يعني يفهم الكلام بفهم أفراده، هذا نوع. والثاني وهو مهم في هذا الباب أن المتكلم يُفهم كلامه بتركيب الكلام بسياق الكلام، وهذا هو الذي يسمى عند الأصوليين بالدلالة الحملية للكلام، هذا في غاية الأهمية للناظر في هذا الباب باب الأسماء والصفات؛ لأن من ادعوا التأويل وأن السلف أوّلوا في باب الأسماء والصفات احتجوا ببعض كلامهم في هذا الأمر، وهم إنما أرادوا دلالة التركيب ومعلوم أن الكلام إذا دل بتركيبه فإنه لا يكون نفيا بما دلت عليه أفراده. مثال ذلك قول الله جل وعلا ?أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ?[الفرقان:45]، الظاهر الإفرادي للكلام (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ) أن الرؤية تكون لله؛ يعني يرى اللهَ جل وعلا يرى الرب جل وعلا (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ)؛ لكن لما قال (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) علمنا بدلالة التركيب وهو ما يُفهم به مقصود المتكلم من كلامه أنه أراد قدرة الله جل وعلا ?أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا?[الفرقان:45]. كذلك قوله جل وعلا ?فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ?[النحل:26]، (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) هل هذه من آيات الصفات فيها الإتيان؟ لا، ولم يحملها السلف على ذلك، وليست من آيات صفة الإتيان؛ لأن المقصود بالإتيان إذا أثبتت الصفة إتيان الذات وليس إتيان الصفات، هنا (أَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) نقول ليس هذا دليلا على صفة الإتيان لأن التركيب تركيب الكلام يدل على أن المراد إثبات الصفة بقوله (أَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) ومعلوم أن المتقرر في أنه جل وعلا ليس كمثله شيء أن الله جل وعلا لا يأتي بذاته للبنيان من قواعده، فهو جل وعلا أجلُّ من ذلك ومستوٍ على عرشه سبحانه، وإنما المقصود إتيان صفاته اللائقة في هذا الموضع وهي قدرته وبسطه وقوته وعقابه ونكاله بالكافرين لذلك قال(فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ). أيضا من أمثلته –نطيل فيها لأجل أهمية ذلك- قوله جل وعلا في سورة البقرة? وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ?[البقرة:115]، هنا فسر السلف الوجه بالقبلة؛ لأن الوجه من حيث اللفظ يطلق على الجهة ويطلق على الصفة، وجه بمعنى وِجهة، والوجه وجه الله بمعنى الصفة التي هي الوجه المعروفة، هنا ما حُمل على الصفة مع أنها إضافة وجه الله، إضافة صفة إلى متصف، وذلك لدلالة السياق لدلالة التركيب، وهذا ظاهر لقوله (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) لسياق الآيات في القبلة (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) يعني القبلة؛ ولهذا خرجت هذه الآية من أن تكون من آيات الصفات. كذلك قوله جل وعلا ? يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ?[القلم:42]، (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) هذه هي الآية الوحيدة التي اختلف فيها السلف هل هي من آيات الصفات أم ليست من آيات الصفات؟ وبعضهم قال من آيات الصفات وبعضهم فسرها بما يخرجها عن كونها من آيات الصفات، لم؟ لتنازع هذا الموضع بين أن يُقصد الفرد فتكون من آيات الصفات، أو أن يكون المقصود التركيب فتكون من غير آيات الصفات، يعني هل يفهم الكلام بفهم كلمة (سَاقٍ)، أو نفهمه مع سباقه ولحاقه فمن فهمه مع سباقه ولحاقه، العرب تقول كشفت الحرب عن ساقٍ إذا كشفت عن هول وشدة، وهذا استعمال تركيبي تستعمله العرب للدلالة على الهول والشدة، فلهذا قال ابن عباس وغيره (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) يعني عن هول وشدة. وآخرون كأبي سعيد وغيره: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) يعني عن ساق الرحمن جل وعلا فيما جاء في الحديث في الدلالة على ذلك. المقصود هذا البحث مهم وطويل فروعه، تضبطه بأن ظاهر الكلام قد يكون من جهة اللفظ، وقد يكون من جهة التركيب؛ لأن الذي يفهم به مقصود المتكلم من جهة ظاهر كلامه، لأننا لا نعلم بواطن الكلام، لكننا نعلم ظاهر الكلام، هذا مقصود المتكلم نفهمه من جهة ظاهر الكلام، وهذا الظاهر قد يكون من جهة الأفراد، وقد يكون من جهة التركيب، ولهذا ينقسم الظاهر إلى ظاهر إفرادي وتركيبي. هذا البحث أطال عليه شيخ الإسلام في مواضع كثيرة من كتبه، وهو معروف من جهة أصول الفقه في الركن الثالث من علم الأصول وهو دلالة الألفاظ أو الاستدلال. (29) يعني يلزم من كون الشيء حادثا أن يكون قبل ذلك عدما، حدوث الشيء يستلزم سبق حدوثه بالعدم. (30) (كما لا يمثلون) هنا الكاف هذه كاف التقعيد، يعني ما بعدها قاعدة، ذكرت لكم أنه عند الفقهاء والعلماء تتأتي الكاف تارة للتنضيد التمثيل وتارة تأتي الكاف للتقعيد، يعني يكون ما قبلها فرع من فروع ما بعدها ، هنا قال: لا يمثلون صفات الله بصفات خلقه كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه. هنا تمثيل ذاته بذات خلقه هذا شيء مجمع عليه أنه لا تمثل الذات بذات الخلق وإنما الخلاف بين الصفاتية في مسألة الصفات، فإنه كذلك لا يمثلون الصفات بصفات خلقه خلافا للمجسمة، فهم لا يمثلون الصفة بالصفة لأنهم لا يمثلون الذات أصلا بشيء من الذوات، فكما أن ذات الله جل وعلا لا تشبه الذوات وكذلك صفاته لا تشبه الصفات، وهذه القاعدة جاءت في التدمرية تبعا لما ذكره الخطابي في كتاب معالم الإيمان أو نحو ذلك، ذكر قاعدة السلف في هذا أن القول في الصفات كالقول في الذات، يحتذى فيه حذوه، وينهج فيه على منواله. (31)الجوهر ما يقوم بنفسه، والعرض ما لا يقوم إلا بغيره. (32) هذا الكلام من شيخ الإسلام تقرير لأصل متفق عليه، وبهذا الأصل يرد على الطوائف الضالة؛ ذلك هو قول الله جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، فالله جل وعلا ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، فالذين أوَّلوا، الذين عطلوا الله جل وعلا عن صفاته إما جميعا كالجهمية، وإما بعض الصفات كالصِّفَاتية من المعتزلة والكلابية والأشاعرة والماتريدية ونحو هؤلاء، هؤلاء وقعوا في التمثيل أولا، ثم وقعوا في التعطيل ثانيا، لأنه لا يمكن أن يعطل الله جل وعلا عن صفة من صفاته إلا بسبب أنَّ الذي عطّل قام في قلبه التمثيل ثم لأجل ما قام في قلبه من المعنى الباطل عطَّل، فمثلا إذا أتى لقول الله جل وعلا ?مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ?[ص:75]، وقع في قلبه أن اليدين في هذه الآية مثل يدي المخلوق، فلما وقع في قلبه هذا المعنى الذي هو التمثيل، قال: اليدان هنا بمعنى القدرة، أو بمعنى النعمة. وسبب هذا التأويل أنه وقع في قلبه أن النص فيه التمثيل، فنفى هذا التمثيل الذي قام بقلبه، أو وقع في قلبه بدلالة النص فنقول هذا من شر ما يكون؛ لأنَّ المعطل شر من الممثل؛ لأن الممثل مثَّل أولا والمجسم جسَّم، لكن المعطل مثل في قلبه ثم سعى لنفي هذا التمثيل الذي قام في قلبه وحمل عليه النص أو ظن أن النص يمكن أن يدل عليه فسعى لتأويله أو لدلالة المجاز عليه أو نحو ذلك. لهذا قال هنا كل معطل لا بد أن يجمع بين التمثيل والتعطيل؛ لأنه ما عطل إلا وقد مثل في قلبه أولا، فنفى ما قام بقلبه من المثلية التي نفاها الله جل وعلا بقوله ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11] سبحانه وتعالى. تعلمون الكلمة المشهورة عند السلف: الممثل يعبد صنما، والمعطل يعبد عدما، والسني يعبد إله واحدا فردا صمدا. (33) ?لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا?[الفتح:28]، هذه الجملة التي سمعنا من كلام المصنف رحمه الله فيها تأصيل فساد تأويل الآيات والأحاديث التي في الغيبيات بالعقل، والعقل قد حكّمه المبتدعة من الجهمية فالمعتزلة فمن بعدهم إلى يومنا هذا، حكموا العقل في ردّ النصوص، ولهذا وصف العقلانيين يشمل كل من ردّ النصوص بحجج أو بتأويلات عقلية. والواجب على عباد الله أن يسلموا في الأمور الغيبية بما دلت عليه النصوص؛ لأن الله جل وعلا أعلم بخلقه سبحانه وتعالى، ?أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ?[الملك:14]، وقال جل وعلا ?قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ?[البقرة:140]، وقال جل وعلا ?قُلْ صَدَقَ اللَّهُ?[آل عمران:95]، وقال جل وعلا ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا?[النساء:87]، وقال?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا?[النساء:122]، فالله جل وعلا خبره صدق وحق ويأخذ على ما دل عليه في ظاهره، والذين أولوا الآيات والأحاديث في الأمور الغيبية وصرفوها على حقائقها اللائقة بها إلى معان أخر احتجوا بالعقل، قالوا العقل الصريح اضطرنا إلى ذلك، فمثلا حينما نفوا رؤية الله جل وعلا في الآخرة، قالوا: العقل الصريح يردُّ إمكان هذه الرؤية. كما هو قول الجهمية والمعتزلة، قالوا: لأن الذي يرى لابد أن يكون في جهة، ولابد أن يحاط به من جهة الرؤية، وإذا كان في جهة معناه أنه في مكان، وإذا كان في مكان معناه أنه متحيز وأن ثم مكان من مخلوقاته يسعه، وهذه كلها كما يقولون نعلم بالعقل أنها لا يمكن أن تكون؛ أنها باطلة؛ لأن الله جل وعلا ليس بمحاط بشيء من خلقه ولا متحيز بشيء من خلقه من الأمكنة ونحوها، فدلنا ذلك على بطلان الرؤية، وعلى بطلان الاستواء على العرش وما أشبه هذا. فنفوا الرؤية لأجل هذا الصريح عندهم، وسبب ذلك أنهم جعلوا الصفة من الله جل وعلا من جنس ما يتصف به المخلوق فهم لم يحكموا على الله جل وعلا إلا ما رأوا في الدنيا، ومعلوم أن الفعل الصريح أيضا يدل على أنه يحتمل أن تكون أشياء لا يعقلها العقل. وهناك مثل بين في ذلك وهو الروح؛ روح الإنسان: فهذه الروح هي في الجسد؛ ولكن هل هذه الروح باقية في الجسد؟ متحيزة به لا تخرج عنه؟ أم أنها تذهب وتجيء وتصعد إلى الله جل وعلا وترسل ?اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى?[الزمر:42]، فهذه الروح لا يعقلها ابن آدم، فدل على أن تحكيم بعض قوانين المخلوقات في بعض، أن هذا ليس من الحكمة، وليس من العقل، فكيف بتحكيم قوانين المخلوقات على الله جل وعلا؟ ولهذا قال سبحانه ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، فلا يجوز أن يوصف الله جل وعلا، أو أن ينفى عنه الوصف في قياس شمولي، ولا بقياس منطقي؛ وذلك لأنه لا ينطبق عليه جل وعلا ما ينطبق على المخلوقات، هذا العقل الذي أولوا به النصوص متناقض أصلا؛ لأننا نجد أنَّ المعتزلة مثلا يثبتون البعث بعد الموت، ويثبتون بعض الصفات. والنافي للبعث والنافي للصفات التي أثبتها المعتزلة يقول: دلنا العقل الصريح على عدم إثباتها. والمعتزلة يقولون: العقل دل على عدم امتناعها. ويأتي بعد المعتزلة الكلابية فيقولون المعتزلة أثبتوا ثلاث صفات ونحن نثبت سبعا؛ لأن العقل الصريح دل على إثبات هذه السبع. والماتريدية وجاءوا وقالوا نثبت ثمان صفات لأن العقل الصريح دل أيضا على إثبات ثمان صفات. فإذن العقل الذي به تأول المعتزلة النصوص وظن أنه هو الصريح وأنه هو الذي يجب أن تخضع إليه الآيات والأحاديث، خالفهم فيه عقل الكلابية، وعقل الأشاعرة، وعقل الماتريدية، وخالف الأشاعرة أيضا في عقلهم الماتريدية. فإذن عقول أصحاب هذه الفرق التي تعتمد على العقل بعضها يضاد بعضا، فأي عقل هذا الذي يُحكَّم على النصوص؟ لا مناص من القول في أن هذا العقل لا يوجد؛ لأن أصحاب العقل الذين يحكمونه مختلفون في تحكيمه، وهذا قطعي. لهذا نقول ما من شيء قال فيه المبتدعة إن العقل يحيله من الأمور الغيبية، إلا وثَم دليل على أن العقل لا يحيله. وخذ مثلا على ذلك الرؤية التي مثل بها شيخ الإسلام؛ رؤية الله جل وعلا، الأشاعرة أثبتوا الرؤية، والمعتزلة نفوا الرؤية، الأشاعرة قالوا: يرى لا في جهة؛ يعني شيء يكون إدراكه في نفس الإنسان لكن رؤيته لا تكون إلى جهة معينة, والمعتزلة قالوا: إن رؤية الله جل وعلا إن أثبتناها بحسب ما جاء بالآيات والأحاديث فمعنى ذلك أن الله في جهة, وإن نفيناها نفينا أن الله في جهة، وعقل المعتزلة في هذه -من اطراد الإثبات والنفي- صحيح، وأما الأشاعرة فمتناقضون. ولهذا أهل السنة قالوا بإثبات الرؤية وإثبات علو الله جل وعلا؛ لأن الله سبحانه وتعالى له علو الذات وعلو الصفات سبحانه؛ فإذن هو يُرى وهو في جهة العلو جل وعلا، فالعقل [انتهى الشريط الثاني] مع النقل دلّ على إثبات ذلك وعدم التناقض بين هذا وهذا, ولهذا جعل شيخ الإسلام من الأوجه وهو الوجه الأول: في كل مسألة زعموا أن العقل يحيل الإثبات, نقول في العقل ما يدل على الإثبات، وتضرب بعض المبتدعة ببعض، فالجهمية تضربهم بالمعتزلة, والمعتزلة تضربهم بالأشاعرة, والأشاعرة تضربهم بالماتوريدية, وهكذا في تناسق؛ يعني هذا ضد هذا, هذا ضد هذا، حتى تصل إلى أن قول السنة هو الحق وأن العقل لا يحيل شيء من الصفات. وأعظم دليل على ذلك أن الله جل وعلا لا يقاس بأحد من خلقه، لا قياس شمول، ولا قياس منطق. المسألة الثانية التي تعرض لها هي: أن نصوص الصفات تُعلم بالاضطرار ليست دليلا واحدا يمكن تأويله، ولا هما نصان يمكن أن يتأولا؛ ولكن هي كثيرة، كثيرة جدا، حيث إنه يعلم بالاضطرار أنَّ المراد بها وصف الله جل وعلا بهذه الصفات. فوصف الله جل وعلا بالعلم, وصف الله جل وعلا بالقدرة, بالكلام، بالسمع, بالبصر, بالحياة، هذا كثير, كثير جدا في القرآن، ولهذا في هذه الصفات لم ينكرها الأشاعرة, ولم ينكر بعضها المعتزلة كذلك غيرها من الصفات؛ الصفات الذاتية أو الفعلية, كصفة الوجه لله جل وعلا أوصفة اليدين، أو صفة القدم له سبحانه وتعالى, أو صفة الساق، أو غير ذلك من الصفات، كلها ثابتة لله جل جلاله، لا يُدخل فيها بتأويل, لأن التأويل يمتنع في هذا بقوة؛ بل بجزم لأن النصوص كثيرة جدا مما يُعلم معه أنه لا مجال للتأويل قطعا، ولا يدخل فيها التأويل؛ لأن التأويل كلمة أو جملة تأتي ويراد منها غير ظاهرها لقرينة -كما يُعرِّفون التأويل بأنه صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى غيره بقرينة دلَّت على ذلك-, هذا يكون في دليل, يكون في مسألة, أما في نصوص الصفات فهي كثيرة كثرة يمتنع معها أن يكون كل هذه الكثرة يُخاض فيها بالتأويل، وإلا يكون أنَّ النبي ( بل النبوات جميعا أتت بما لا يدركه في صفات الله جل وعلا أحد. (34) وهذه الثلاث هي صفات الكمال، صفات الكمال في البشر ترجع إلى هذه الثلاث؛ كمال العلم والقدرة والإرادة، إذا كان هناك علم وقدرة وإرادة نتج الفعل أو القول بما يوافق الحكمة، وإذا كان كلامه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ حكمة فإنه ينفى عنه الباطل، فكمال هذه الصفات تنتج أنَّ ما قاله عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ هو الحق في نفسه، وكونه عليه الصلاة والسلام كاملا في العلم، وكاملا في القدرة البشرية، وكاملا في الإرادة الجازمة التي ليس فيها تردد، هذا متفق عليه بين الفرق، وإذا كان متفقا عليه فيلزم من ذلك أن يُتَّفق على كونه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ حكيما صادقا فيما أخبر به، وإذا كان حكيما فيما أخبر به عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ من صفات الله، فمعنى ذلك أن ظاهر هذه الصفات مرادة؛ لأنه إذا كان يخبر عن الله بصفات كثيرة في كل مجلس وبتنوعها ولا يكون ظاهرها مرادا، فيقع في الخلق اعتقاد ما ليس ظاهره مرادا، هذا ينافي الحكمة. ولهذا نقول: هذا البرهان ضد كل مبتدع، فنقول لكل مبتدع تأوَّل أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام في الصفات أو في الغيبيات، نقول: أليس هو عليه الصلاة والسلام أكمل الخلق علما؟ فسيقول: بلى. أليس هو عليه الصلاة والسلام أكمل الخلق قدرة؟ فسيقول: –يعني القدرة البشرية المناسبة له- بلى. أليس هو عليه الصلاة والسلام أكمل الخلق إرادة فلا تردد في قلبه، بل هو جازم بما يعتقده عليه الصلاة والسلام، أكمل الخلق إرادة؟ فسيقول:بلى. فينتج من ذلك أنه أكمل الخلق حكمة، ثم ينتج من ذلك أنّ ما أخبر به هو الموافق للحكمة، وهو هذه الأخبار التي ظاهرها إثبات الصفات، ظاهرها إثبات البعث، إلى آخره. وإذا كان أكثر الخلق لا يستطيعون الدخول في هذه الأحاديث بالتأويل، وإنما التأويل صنيع الخاصة عند هؤلاء المبتدعة، فإما أن تنفى عنه عليه الصلاة والسلام، فيكون ناقضا لذلك الاعتقاد الأول في أنه عليه الصلاة والسلام كامل العلم والقدرة والإرادة، وإما أن يقال هو عليه الصلاة والسلام حكيم؛ بل هو أحكم الخلق، فيكون إذن في ذلك البرهان على إثبات الصفات والغيبيات. (35) ولهذا قال جل وعلا ?وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا?[فاطر:44]، فقال جل وعلا (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ) العجْز إما أن يكون: * عن عدم علم أو نقص في العلم. * وإما عن عدم قدرة أو نقص في القدرة. * وإما عن عدم إرادة أو نقص في الإرادة. هذا به يكون العجز، ولهذا قال سبحانه (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) وعلل ذلك يعني لِمَ لم يُعجزه شيء سبحانه؟ علل ذلك بقوله (إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا) لكمال علمه وكمال قدرته ليس يعجزه شيء سبحانه وتعالى، فهكذا هو عليه الصلاة والسلام لكمال علمه البشري ولكمال قدرته البشرية وإرادته البشرية كَمُل قوله فعله عليه الصلاة والسلام وصار موافقا للحكمة. (36) الفلاسفة الإلهية؛ لأن الفلسفة لها عدة أقسام، فهنا قوله (الفلاسفة الإلهية) يعني الفلاسفة الذين اعتنوا بالإلهيات، والفلاسفة منهم من اعتنى بالرياضيات، ومنهم من اعتنى بالطبيعيات، ومنهم من اعتنى بأثر الأصوات والألحان والموسيقى إلى آخره، ومنهم من اعتنى بالإلهيات هؤلاء هم الذين اعتنوا بما يسميه الفلاسفة ما وراء الطبيعة، قسم من أقسام الفلسفة، وهو أعظمها شأنا عندهم. يريد أن يقول أنّ الفلاسفة الإلهيين هم الذين اهتموا بالفلسفة الإلهية علموا تلك الحقائق. (37) يعني الأشعرية مثل الرازي والآمدي وأشباه هؤلاء. (38) قوله (أن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات) يعني -لا من جهة الإثم، إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات من جهة الإثم، لا، قصده من جهة البرهان. (39) هذا التقسيم لطريقة الضلاّل في الوحي وفي النظر في النصوص مهم، وتأصيل وتقعيد لهذه الانحرافات العظيمة، فإن الضلال في هذا الباب على ثلاثة أقسام: أهل التخييل، وأهل التأويل، وأهل التجهيل. يتبع... |
2 مشترك
شَرْحُ الْفَتْوَى الحَمَوِيَّة الكُبْرَى ....الجزء 7
الجزائري عبد المعز- عضو ماسي
- تاريخ الإنضمام : 05/10/2011
الجنسية : جزائر
عدد المشاركات : 3288
مكسب العضو : 40583
نقاط تقييم مواضيع العضو : 21
المزاج : منتديات طموح الجزائر
- مساهمة رقم 1
شَرْحُ الْفَتْوَى الحَمَوِيَّة الكُبْرَى ....الجزء 7
خليل إبراهيم- صاحب الموقع
- تاريخ الإنضمام : 02/12/2009
الجنسية : أردني وافتخر
عدد المشاركات : 9177
مكسب العضو : 122149
نقاط تقييم مواضيع العضو : 118
العمر : 34
المزاج : رايق
مشكووووور على الموضوع المميز