بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لب الصلاة وروحها عبده قايد الذريبي الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبيِّنا محمدٍ سيِّد الخاشعين، وعلى آله وصحْبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين. أمَّا بعدُ: فقد خَلَق الله الخَلْق جميعًا لغاية عظيمة؛ ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]. خلَق الله الخَلْق؛ ليعبدوه وحْده لا شريك له، ومِن هذه العبادات التي أوْجَبها الله على عباده: إقامة الصلاة؛ قال - تعالى -: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5]. وجعَل إقامتها رُكنًا من أركان الإسلام، ودعامة من دعائمه العظام، فعن عبدالله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((بُنِي الإسلام على خمس: شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان))[1]. وقد أجْمَعت الأُمَّة على فرضيَّتها، وأنها رُكن من أركان الإسلام، ولَم يخالف في ذلك أحدٌ من المسلمين، بل ذلك مما عُلِم لجميع المسلمين بالضرورة. والمقصود بإقامة الصلاة: أداؤها بشروطها، وأركانها، وواجباتها، ومستحبَّاتها؛ قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "إقامة الصلاة: إتمامُ الركوع والسجود، والتلاوة والخشوع، والإقبال عليها فيها". وقال قتادة - رحمه الله -: "إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها، وركوعها وسجودها". وقال مقاتل بن حيَّان - رحمه الله -: "إقامتها: المحافظة على مواقيتها، وإسباغ الطُّهور بها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهُّد والصلاة على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهذا إقامتها"[2]. وقد علَّق الله - سبحانه - فلاحَ المصلِّي بخشوعه في صلاته، فقال - تعالى -: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 1 - 2]. قال ابن القَيِّم - رحمه الله -: "فمَن فاتَه خشوع الصلاة، لَم يكن من أهل الفلاح، ويستحيل حصولُ الخشوع مع العَجَلة والنقر قطعًا، بل لا يحصل الخشوع قطُّ إلاَّ مع الطمأنينة، وكلَّما زادَ طمأنينة ازدادَ خشوعًا، وكلَّما قلَّ خشوعه، اشتدَّتْ عَجَلته؛ حتى تصيرَ حركة يَدَيه بمنزلة العبث الذي لا يَصحبه خشوع ولا إقبال على العبوديَّة، ولا معرفة حقيقة العبودية، والله - سبحانه - قد قال: ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ ﴾ [البقرة: 43]، وقال: ﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ﴾ [لقمان: 4]، وقال: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ ﴾ [هود: 114]، وقال: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ ﴾ [النساء: 103]، وقال: ﴿ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ ﴾ [الحج: 35]، وقال إبراهيم - عليه السلام -: ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ ﴾ [إبراهيم: 40]، وقال لموسى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [ طه: 14]. فلن تكاد تجد ذِكْرَ الصلاة في موضع من التنزيل إلاَّ مقرونًا بإقامتها، فالمصلون في الناس قليل، ومُقيم الصلاة منهم أقلُّ القليل!"[3]. والخشوع في الصلاة هو: "حضور القلب، وتأمُّله بما يقوله المصلِّي، وما يفعله، وهو أمرٌ مُهم؛ لأنَّ الصلاة بلا خشوع كالجسد بلا رُوح، فأنت إذا صلَّيْت وقلبك يدور في كلِّ وادٍ، فإنك تصلِّي حركات بدنيَّة فقط، فإذا كان قلبك حاضرًا تَشعر كأنَّك بين يدي الله - عزَّ وجلَّ - تُناجيه بكلامه، وتتقرَّب إليه بذِكْره ودُعائه، فهذا هو لبُّ الصلاة ورُوحها"[4]. والخشوع في الصلاة على نوعين - كما بيَّن العلماء: النوع الأول: خشوع واجب،وهو: الطمأنينة في جميع أعمال الصلاة؛ حتى يؤدِّيها كاملة، مستوفية لشروطها، وأركانها، وواجباتها؛ قال ابن تيميَّة - رحمه الله -: "الطمأنينة في الصلاة واجبة، وتاركها مُسيء باتِّفاق الأئمَّة، بل جمهور أئمَّة الإسلام؛ كمالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة، وأبو حنيفة، ومحمد، لا يُخالفون في أنَّ تارِكَ ذلك مُسيء غير مُحسن، بل هو آثِمٌ عاصٍ تارك للواجب، وغيرهم يوجِبون الإعادة على مَن ترَك الطمأنينة. ودليل وجوب الإعادة ما في الصحيحين: أنَّ رجلاً صلَّى في المسجد ركعتين، ثم جاء فسلَّم على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ارجعْ فصلِّ؛ فإنَّك لَم تصلِّ))، مرتين أو ثلاثًا، فقال: والذي بعثَك بالحقِّ ما أُحْسن غير هذا، فعلِّمني ما يُجزئني في صلاتي، فقال: ((إذا قُمت إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئنَّ راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدلَ قائمًا، ثم اسْجد حتى تطمئنَّ ساجدًا، ثم اجلس حتى تطمئنَّ جالسًا، ثم افعلْ ذلك في صلاتك كلها))[5]. فهذا كان رجلاً جاهلاً، ومع هذا فأمَره النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يُعيد الصلاة، وأخبره أنه لَم يُصَلِّ، فتبيَّن بذلك أنَّ مَن ترَك الطمأنينة، فقد أخبَر الله ورسوله أنه لَم يُصَلِّ، فقد أمرَه الله ورسوله بالإعادة، ومَن يَعْص الله ورسوله، فله عذابٌ أليم"[6]. ومما يدل أيضًا على وجوب الطمأنينة في الصلاة؛ ما جاء في حديث أبي مسعود البدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تُجزئ صلاة الرجل؛ حتى يُقيم ظهْرَه في الركوع والسجود))[7]. وما جاء في حديث العلاء بن عبدالرحمن أنه دخَل على أنس بن مالك في داره بالبصرة حين انصرَف من الظهر، وداره بجنب المسجد، فلمَّا دخلنا عليه، قال: أصليتُم العصر؟ فقلنا له: إنما انصرفْنا الساعة من الظهر، قال: فصلُّوا العصر، فقمْنا، فصلَّينا، فلمَّا انصرفْنا، قال: سَمِعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قَرْني الشيطان، قام فنقَرها أربعًا، لا يذكر الله فيها إلاَّ قليلاً))[8]. فالخشوع في الصلاة والطمأنينة فيها، يرتكز عليه قَبول الصلاة وردُّها، وإذا وُجِد الخشوع قُبِلت الصلاة، وإذا انعدَم رُدَّت، نسأل الله السلامة؛ قال بعض السلف: "الصلاة كجارية تُهدى إلى ملك من الملوك، فما الظنُّ بِمَن يُهْدَى إليه جارية شلاَّء، أو عوراء، أو عمياء، أو مقطوعة اليد والرِّجْل، أو مريضة، أو دميمة، أو قبيحة، حتى يُهدَى إليه جارية ميِّتة بلا رُوح وجارية قبيحة، فكيف بالصلاة التي يُهديها العبد ويتقرَّب بها إلى ربِّه - تعالى؟ والله طيِّب لا يقبل إلاَّ طيبًا، وليس من العمل الطيِّب صلاة لا رُوح فيها، كما أنه ليس من العِتق الطيب عِتقُ عبدٍ لا رُوح فيه"[9]. وإذا نقص من الخشوع قليلاً، نَقَص من الصلاة بقدر ما نقَص من الخشوع، فعن عن عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - قال: سَمِعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ الرجل لينصرف وما كُتِب له إلا عُشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سُدسها، خُمسها، رُبعها، ثُلُثها، نِصفها))[10]. وصدَق حَبْر الأُمَّة وتُرجمان القرآن ابن عباس - رضي الله عنهما - حينما قال: "ليس لك من صلاتك إلاَّ ما عَقَلت منها"[11]. فليس للعبد من أجْر صلاته إلاَّ ما عَقَل منها، وخَشَع لله فيها. النوع الثاني: خشوع مُستحَب،وهو: العناية بإكمال الصلاة، وأداء ما يُستحب فيها من أفعال وأقوال، كما سيأتي ذِكر ذلك في الأسباب الجالبة للخشوع في الصلاة. إذا خشع الملك خشعت الجنود: الخشوع محلُّه القلب، ولا يُمكن لأحدٍ أن يطَّلِع عليه إلاَّ الله، ولكنَّ آثاره تظهر على جوارح العبد، وعلى حركاته في صلاته، فإذا خشَع الملك - القلب - خشَعَت الجنود - الجوارح - وسكَنَت، فعن رجل قال: "رأى سعيد بن المسيَّب رجلاً وهو يعبث بلحْيَته في الصلاة، فقال: "لو خشَع قلبُ هذا، لخشَعَت جوارحُه"[12]. فإذا خشَع القلب خشَعت الجوارح تبعًا له، وهذا هو خشوع الإيمان، وهو المطلوب شرعًا، وأمَّا خشوع التكلُّف والتصنُّع - وهو الذي يكون في الجوارح فقط - فذلك خشوع النِّفاق، وهو مذموم شرعًا؛ قال حذيفة - رضي الله عنه -: "إيَّاكم وخشوعَ النفاق، فقيل له: وما خشوع النفاق؟" قال: أن ترى الجسدَ خاشعًا والقلب ليس بخاشعٍ". ورأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رجلاً طأْطَأ رقبته في الصلاة، فقال: "يا صاحب الرقبة، ارفْع رقبتك، ليس الخشوع في الرِّقاب، إنما الخشوع في القلوب". وقال حذيفة - رضي الله عنه -: "أوَّل ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخِر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ورُبَّ مُصَلٍّ لا خيْرَ فيه، ويُوشك أن تدخلَ مسجد الجماعة، فلا ترى فيهم خاشعًا"، وقال سهل: "مَن خشَع قلبه، لَم يقرب منه الشيطان"[13]. الأسباب الجالبة للخشوع: لكلِّ شيء سببٌ، فإذا وُجِد السبب وُجِد الأثر لذلك السبب، فإذا أردتَ شيئًا فلا بدَّ لك من أن تبذُل الأسباب الموجِبة لذلك، فإذا أردت طعامًا فلا بدَّ لك من أن تبذُل الأسباب المحصِّلة لذلك، وإذا أردت ولدًا فلا بدَّ لك من أن تبحثَ عن امرأة تتزوَّجها، ثم تجامِعُها، فيرزقك الله منها ولدًا، وهكذا إذا أردت الخشوعَ في الصلاة والطمأنينة فيها فلا بدَّ لك من فعْل الأسباب الجالبة لذلك، ومن هذه الأسباب ما يأتي: أولاً: الاستعداد النفسي للصلاة، والتهيُّؤ لها، وحضورها مبكرًا؛ فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا على نفسيَّة المصلِّي، وخشوع قلبه، وسكون جوارحه. ثانيًا: استشعار العبد أنه يقِف بين يدي الله، وأنه يُخاطبه في صلاته،فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سَمِعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((قال الله تعالى: قسَمْت الصلاة بيني وبين عبدي نِصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الفاتحة: 2]، قال الله تعالى: حَمَدني عبدي، وإذا قال: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 3]، قال الله تعالى: أثْنَى عليّ عبدي، وإذا قال: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 4]، قال: مَجَّدني عبدي -وقال مرَّة: فوَّض إليّ عبدي - فإذا قال: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 6 - 7]، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل))[14]. وإذا استشَعر العبد أنه يُناجي ربَّه، وأنَّه واقف بين يديه، كان ذلك داعيًا له للخضوع بين يديه، والتذلُّل له، ومِن ثَمَّ إحسانه لصلاته وإتقانه لها. ثالثًا: مُجاهدة النفس على الخشوع وسؤال الله ذلك،فمَن جاهَد نفسه على شيء، هدَاه الله إليه، وسهَّله عليه؛ قال - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]. رابعًا: إقامة الصلاة وتأْدِيتها وَفْق السُّنة النبويَّة الصحيحة، فقد أمَر - صلَّى الله عليه وسلَّم - بذلك، فقال: ((صلُّوا كما رأيتموني أُصَلِّي))[15]. ولن نذكر هنا شروط الصلاة، أو أركانها، أو واجباتها، فذلك مما هو معلوم لدى الجميع، وإنما سنذكر سُنن الصلاة القوليَّة والفعليَّة؛ فإنَّ الناس غالبًا ما يتساهلون فيها، ولا يُطَبِّقونها في صلاتهم، مع أنها مُهمة؛ لتحصيل الخشوع في الصلاة، والطمأنينة فيها، ومُكملة من مُكَملاتها، ومن هذه السُّنن ما يأتي: 1- دعاء الاستفتاح، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا استفتَح الصلاة، قال: ((سبحانك اللهمَّ وبحمدك، وتبارَك اسمُك، وتعالَى جَدُّك، ولا إله غيرُك))[16]. أو ما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتةً، قال: أحسبُه قال: هُنَيَّة - زمنًا يسيرًا - فقلتُ: بأبي وأُمي يا رسول الله، إسكاتُك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: ((أقول: اللهمَّ باعدْ بيني وبين خطاياي كما باعدتَ بين المشرق والمغرب، اللهم نَقِّني من الخطايا كما يُنَقَّى الثوب الأبيض من الدَّنس، اللهمَّ اغْسِل خطاياي بالماء والثلج والبَرَد))[17]. 2- الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم؛ لقوله - تعالى -: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [النحل: 98]. وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا قام إلى الصلاة بالليل كبَّر، ثم يقول: ((سبحانك اللهمَّ وبحمدك، وتبارَك اسمُك، وتعالَى جَدُّك، ولا إله غيرُك، ثم يقول: الله أكبر كبيرًا، ثم يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من هَمْزه: وسوسته، ونفْخِه: كِبْره، ونفَثِه؛ أي: سِحْره))[18]. 3- الإسرار بالبسملة، وله أن يَجهر بها أحيانًا؛ فعن أُمِّ سَلَمة - رضي الله عنها - أنها سُئِلت عن قراءة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالت: "كان يقطع قراءته آيةً، آيةً: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 1-4]" [19]. 4- التأمين، وهو قول: آمين بعد قول الإمام ولا الضالين، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا، فإنه من وافَق تأمينُه تأمين الملائكة، غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه))[20]. 5- القراءة بعد الفاتحة بما تيسَّر من القرآن في صلاة الفجر، وصلاة المغرب، والعشاء، والظهر، والعصر، فعن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يصلِّي بنا، فيقرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأُولَيين بفاتحة الكتاب وسورتَيْن، ويُسْمِعنا الآية أحيانًا، وكان يُطوِّل الركعة الأولى من الظهر ويُقصر الثانية، وكذلك في الصُّبح"[21]. 6- الجهر بالقراءة بالنسبة للإمام وسائر التكبيرات، وكذا الجهر بـ"سَمِع الله لِمَن حَمِده" والتسليم، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنما جُعِل الإمام ليُؤْتَمَّ به، فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قرأ فأنْصِتوا، وإذا قال: سَمِع الله لِمَن حَمِده فقولوا: اللهمَّ ربَّنا لك الحمد))[22]. 7- قول: "مِلء السماء وملء الأرض، ومِلء ما شِئْت من شيء بعد..."، بعد قوله: "ربَّنا ولك الحمد"، وغير ذلك مما ورَد، فعن أبى سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا رفَع رأسه من الركوع، قال: ((ربَّنا لك الحمد، مِلء السموات والأرض، ومِلء ما شِئْت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما قال العبد وكلُّنا لك عبد، اللهم لا مانع لِمَا أعْطيتَ، ولا مُعطي لِمَا منَعت، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ))[23]. 8- ما زاد على المرة الواحدة في تسبيح الركوع والسجود؛ لأنَّ الواجب أن يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم"، وفي سجوده: "سبحان ربي الأعلى"، وما زاد فهو سُنَّة؛ فعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: لَمَّا نزلت: ﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ [الواقعة: 74]، قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اجعلوها في ركوعكم))، فلمَّا نزلَت: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ﴾ [الأعلى: 1]، قال: ((اجعلوها في سجودكم))[24]، ولَم يذكر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عددًا. 9- الزيادة على المرة في قول: "ربِّ اغفرْ لي" بين السجدَتَيْن، وغير ذلك مما ورَد، فعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقول بين السجدتين: ((ربِّ اغفرْ لي، ربِّ اغفرْ لي))[25]. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقول بين السجدتين: ((اللهمَّ اغفرْ لي وارحمني وعافني، واهْدِني وارْزُقني))[26]. 10- قول: "اللهمَّ إني أعوذ بك من عذاب جهنَّم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدَّجال"، وما زاد على ذلك من الدُّعاء في التشهُّد الأخير، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا فرَغ أحدكم من التشهُّد الآخر، فليتعوَّذ بالله من أربع: من عذاب جهنَّم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شرِّ المسيح الدَّجال))[27]. 11- رفْع اليدين عند تكبيرة الإحرام، وعند الهُوِي إلى الركوع، وعند الرفْع منه، وعند الرفع من التشهُّد الأول؛ فعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "رأيتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا قام في الصلاة رفَع يديه؛ حتى تكونا حَذو مَنْكِبيه، وكان يفعل ذلك حين يكبِّر للركوع، ويفعل ذلك إذا رفَع رأسه من الركوع"[28]. وعن نافع أنَّ ابن عمر - رضي الله عنهما - "كان إذا دخَل في الصلاة كبَّر ورفَع يديه، وإذا ركَع رفَع يديه، وإذا قال: سَمِع الله لِمَن حَمِده رفَع يديه، وإذا قام من الركعتين رفَع يديه، ورفَع ذلك ابن عمر إلى نبيِّ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"[29]. 12- وضْع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر في حال القيام، فعن وائل بن حجر - رضي الله عنه - أنه: "رأى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - رفَع يديه حين دخَل في الصلاة كبَّر - وصَف هَمَّامٌ حِيال أُذُنيه - ثم الْتَحَف بثوبه، ثم وضَع يده اليمنى على اليسرى، فلمَّا أرادَ أن يركع، أخرَج يديه من الثوب، ثم رفَعهما، ثم كبَّر فركَع"[30]. وعنه قال: "صلَّيت مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ووضَع يده اليمنى على يده اليسرى على صدْره"[31]. وعن طاوس قال: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يضع يده اليمنى على يده اليسرى، ثم يشدُّ بينهما على صدره وهو في الصلاة"[32]. 13- النظر إلى موضع السجود؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "دخَل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الكعبة ما خلَف بصرُه موضِعَ سجوده، حتى خرَج منها"[33]. 14- وضْع اليدين على الرُّكبتين في الركوع مُفَرَّجَتي الأصابع، ومَد الظهر، وجعْل الرأْس حِياله؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله ربِّ العالمين، وكان إذا ركَع لَم يُشَخِّص رأسه، ولَم يُصَوِّبه، ولكن بين ذلك"[34]. وعن أبي حُمَيدٍ الساعدي - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا ركَع اعتَدَل، فلم يَنْصِب رأسه ولَم يُقْنِعه، ووضَع يديه على رُكبتيه"[35]. وعن عقبة بن عمرو - رضي الله عنه - قال: "ألاَ أُريكم صلاة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: فقام وكبَّر، ثم ركَع وجافَى يديه، ووضَع يديه على رُكبتيه، وفرَّج بين أصابعه من وراء رُكبتيه؛ حتى استقرَّ كلُّ شيء منه، ثم رفَع رأسه، فقام حتى استقرَّ كلُّ شيءٍ منه، ثم سجَد فجافَى حتى استقرَّ كلُّ شيء منه، قال: فصلَّى أربعَ ركعات، ثم قال: هكذا رأيتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يصلِّي، أو هكذا كان يصلِّي بنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"[36]. 15- تقديم الرُّكبتين ثم اليدين ثم الجَبْهة والأنف عند السجود، فعن وائل بن حجر قال: "رأيت النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا سجَد وضَع رُكبتيه قبل يديه، وإذا نهَض رفَع يديه قبل رُكبتيه"[37]. 16- مُجافاة البطن عن الفَخِذين، والفَخِذين عن الساقين في السجود، ومُجافاة العَضُدين عن الجَنبين، والتفريق بين الرُّكبتين، وإقامة القَدَمين، وجعْل بطون أصابعهما على الأرض مُفَرَّقة، ووضْع اليدين حَذْو المَنْكِبين مَبسوطة مضمومة الأصابع؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((اعتدلوا في السجود، ولا يَبسط أحدكم ذِرَاعيْه انبساطَ الكلب))[38]. وعن أبي حُمَيدٍ الساعدي - رضي الله عنه - "أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان إذا سجَد أمْكَن أنفَه وجَبهته من الأرض، ونحَّى يديه عن جَنبيه، ووضَع كَفَّيه حَذْو مَنْكِبَيْه"[39]. 17- تمكين الجَبهة والأنف وبقيَّة الأعضاء من مواضع السجود؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أُمِرت أن أسجُدَ على سبعة أعظم على الجبهة - وأشار بيده على أنْفه - واليدين والرُّكبتين، وأطراف القَدَمين، ولا نَكْفِت الثِّياب والشَّعر))[40]. 18- الافتراش في الجلوس بين السجدتين، وفي التشهُّد الأوَّل، والتشهُّد الأخير من الفجر والجمعة، ونحوهما؛ فعن أبي حُمَيدٍ الساعدي مرفوعًا، وفيه: "فإذا جلَس في الركعتين جلَس على رِجْله اليسرى، ونصَب اليُمنى"[41]. 19- التورُّك في التشهُّد الأخير إذا كانت الصلاة فيها تشهُّدان؛ فعن أبي حُمَيدٍ، وفيه: "فإذا جلَس في الركعتين جلَس على رِجْله اليسرى، ونصَب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة، قدَّم رِجْله اليسرى، ونصَب الأخرى، وقعَد على مَقْعَدته"[42]. 20- وضْع اليدين على الفَخِذين مبسوطتين مضمومَتي الأصابع بين السجدتين، وكذا في التشهُّد، إلا أنَّه يقبض من اليد اليُمنى الخِنْصر والبِنْصر، ويُحَلِّق إبهامهما مع الوسطى، ويُشير بسبَّابتها عند ذِكْر الله - تعالى - فعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان إذا جلَس في الصلاة وضَع يديه على رُكبتيه، ورفَع إصبعه اليُمنى التي تَلي الإبهام، فدعا بها، ويده اليسرى على رُكبته اليسرى باسِطها عليها"[43]. 21- الالتفات يمينًا وشمالاً عند التسليم؛ فعن عامر بن سعد عن أبيه - رضي الله عنه - قال: "كنت أرى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يسلِّم عن يمينه وعن يساره، حتى أرى بياض خدِّه"[44]. 22- الصلاة إلى سترة، والدُّنو منها؛ فعن سهل بن أبي حَثْمَة - رضي الله عنه - يبلغ به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا صلَّى أحدكم إلى سُتْرة، فليُدْنِ منها؛ لا يقطع الشيطان عليه صلاته))[45]. خامسًا: الاستعاذة بالله من الشيطان في الصلاة؛ والتَّفْل ثلاثَ مرات جهة اليسار؛ فعن أبي العاص - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله، إنَّ الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يَلْبِسها عليّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ذاك شيطان يُقال له: خِنْزَب، فإذا أحسسْته فتعوَّذ بالله منه، واتْفُل على يسارك ثلاثًا))، قال: ففعلتُ ذلك، فأذْهَبه الله عنِّي"[46]. قال النووي - رحمه الله -: "وفي هذا الحديث: استحباب التعوُّذ من الشيطان عند وسوسته، مع التَّفْل عن اليسار ثلاثًا، ومعنى "يَلْبِسها"؛ أي: يَخلطها ويُشكِّكني فيها..، ومعنى: "حال بيني وبينها"؛ أي: نكَّدني فيها، ومنعَني لذَّتها، والفراغ للخشوع فيها"[47]. سادسًا: تذكَّر الموت في الصلاة؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اذْكر الموت في صلاتك، فإنَّ الرجل إذا ذكَر الموت في صلاته لحَرِيٌّ أنْ يُحسن صلاته، وصلِّ صلاة رجلٍ لا يظنُّ أنه يصلِّي غيرها))[48]. وعن أبي أيوب - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله علِّمني، وأوْجِزْ، قال: ((إذا قُمت في صلاتك؛ فصلِّ صلاة مودِّعٍ...))[49]. فهذه وصيَّة نافعة من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - تتضمَّن تكميل الصلاة، والاجتهاد في إيقاعها على أحسن الأحوال؛ قال ابن سعدي - رحمه الله -: "وذلك بأن يُحاسب نفسه على كلِّ صلاة يصلِّيها، وأنه سيُتم جميع ما فيها؛ من واجب، وفرض، وسُنَّة، وأن يتحقَّق بمقام الإحسان الذي هو أعلى المقامات، وذلك بأنْ يقوم إليها مستحضرًا وقوفه بين يدي ربِّه، وأنه يُناجيه بما يقوله؛ من قراءة، وذِكْرٍ، ودعاء، ويَخضع له في قيامه وركوعه، وسجوده وخَفْضه ورَفْعه. ويُعينه على هذا المقصد الجليل: توطينُ نفسه على ذلك من غير تردُّد ولا كسلٍ قلبي، ويَستحضر في كلِّ صلاة أنها صلاة مُودِّع، كأنَّه لا يصلِّي غيرها. ومعلوم أن المودِّع يجتهد اجتهادًا يبذُل فيه كلَّ وُسْعه، وما يزال مستصحبًا لهذه المعاني النافعة والأسباب القوية؛ حتى يَسهلَ عليه الأمر، ويتعوَّد ذلك"[50]. سابعًا: التنويع في الأدعية والأذكار التي تُقال في الصلاة، والآيات والسور التي تُقرأ فيها، فذلك سُنة نبويَّة، وهو مما يَجلِب الخشوع؛ ولذلك نجد أنَّ أدعية وأذكار الصلاة جاءتْ بأكثر من صيغة؛ فمثلاً أدعية الاستفتاح جاءتْ بأكثر من صيغة، فمِن ذلك: الصيغة الأولى: ما جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا استفتَح الصلاة، قال: ((سبحانك اللهمَّ وبحمدك، وتبارَك اسمُك، وتعالَى جَدُّك، ولا إله غيرُك))[51]. الصيغة الثانية: ما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يسكت بين التكبير وبين القراءة إسكاتةً، قال: أحسبُه قال: هُنَيَّة - زمنًا يسيرًا - فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، إسكاتُك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: ((أقول: اللهمَّ باعِدْ بيني وبين خطاياي كما باعدْتَ بين المشرق والمغرب، اللهمَّ نقِّني من الخطايا كما يُنَقَّى الثوب الأبيض من الدَّنس، اللهم اغسلْ خطاياي بالماء والثلج والبَرَد))[52]. الصيغة الثالثة: ما جاء في حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه كان إذا قام إلى الصلاة، قال: ((وجَّهت وجهي للذي فطَر السماوات والأرض حنيفًا، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونُسُكي، ومَحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريكَ له، وبذلك أُمِرت وأنا من المسلمين...))[53]. وهكذا نجد أنَّ سُنَّته - عليه الصلاة والسلام - في الصلاة التنويعُ في القراءة فيها، وكذلك التنويع في أذكار الصلاة، وكذلك التشهُّد له أكثرُ من صيغة، فيُسْتَحب للمسلم أن ينوِّع في ذلك، فيقول صيغة في مرَّة، وفي مرة صيغة أخرى. ثامنًا: التأمُّل في قَصص الخاشعين في الصلاة، فذلك مما يُعلي هِمَّة المسلم، ويدفعه إلى الاقتداء بهم؛ يقول مجاهد - رحمه الله -: "كان إذا قام أحدُهم يُصلي يَهاب الرحمن أن يَشُدَّ بصرَه إلى شيءٍ، أو يَلتفت أو يُقَلِّب الحَصَى، أو يَعبث بشيءٍ، أو يُحَدِّث نفسه من شأْن الدنيا إلاَّ ناسيًا ما دام في صلاته"[54]. وقال أيضًا: "كان ابن الزبير - رضي الله عنه - إذا قام في الصلاة كأنَّه عُود من الخشوع"[55]. ويُروى عن مسلم بن يسار: "أنه كان يصلي يومًا في جامع البصرة، فسقطَت ناحية من المسجد، فاجتمَع الناس لذلك فلم يَشعرْ به، حتى انصرَف من الصلاة". وكان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "إذا حضَر وقت الصلاة يتزلْزَل ويتلوَّن وجْهه، فقيل له: ما لك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: جاء وقت أمانة عرَضها الله على السموات والأرض والجبال، فأَبَيْنَ أن يَحْملنها وأشْفَقْنَ منها وحَمَلتها". ويُروى عن علي بن الحسين: "أنه كان إذا توضَّأ اصفَرَّ لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يَعتريك عند الوضوء؟ فيقول: أتدرون بين يدي مَن أريد أن أقوم؟"[56]. تاسعًا: معرفة فوائد وثمرات الخشوع في الصلاة، وهي كثيرة جدًّا، ومنها: 1- تكفير صغائر الذنوب؛ فعن سعيد بن العاص - رضي الله عنه - قال: كنتُ عند عثمان فدعا بطهور، فقال سَمِعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((ما مِن امرئ مسلم تحضُره صلاة مكتوبة، فيُحسن وضوءَها وخشوعها وركوعها، إلاَّ كانت كفَّارة لِمَا قبلها من الذنوب، ما لَم يُؤْتِ كبيرة، وذلك الدَّهرَ كلَّه))[57]. 2- أن الأجْرَ على حسَب الخشوع؛ فعن عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: سَمِعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ الرجل لينصرف وما كُتِب له إلاَّ عُشر صلاته، تُسعها، ثُمنها، سُبعها، سُدسها، خُمسها، رُبُعها، ثُلُثها، نِصفها))[58]. فكلَّما زاد الخشوع زادَ الأجْر، وكلَّما نقص الخشوع نقص من الأجْر بقدر ما نقص من الخشوع. 3- أنَّ العبد ليس له من صلاته إلاَّ ما خشَع فيها؛ كما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "ليس لك من صلاتك إلاَّ ما عَقَلْتَ منها"[59]. 4- أنَّ الأوزار والآثام تتساقط عنه إذا صلَّى بتمامٍ وخشوع؛ فعن جُبير بن نُفَير أنَّ عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - رأى فتًى وهو يصلِّي، قد أطال صلاته، وأطْنَب فيها، فقال: "مَن يعرف هذا؟" فقال رجل: أنا، فقال عبدالله: "لو كنتُ أعرفه، لأمرْتُه أن يُطيل الركوع والسجود؛ فإني سَمِعت النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ العبد إذا قام يصلي، أُتِي بذنوبه، فوُضِعت على رأْسه أو عاتقه؛ فكلَّما ركَع أو سجَد، تساقطَت عنه))[60]. 5- أنَّ الخاشع في صلاته: "إذا انْصرف منها وجَد خِفَّة من نفسه، وأحسَّ بأثقال قد وُضِعت عنه، فوجد نشاطًا وراحةً ورَوحًا؛ حتى يتمنَّى أنه لَم يكن خرَج منها؛ لأنها قُرَّة عينه ونعيم رُوحه، وجنة قلْبه، ومُستراحه في الدنيا، فما يزال كأنه في سجنٍ وضِيق، حتى يدخل فيها، فيستريح بها، لا منها"[61]. عاشرًا: العلم بمفاسد التساهُل في الخشوع، والتهاون فيه، ومن ذلك ما يأتي: 1- بُطلان الصلاة، فقد أمَر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - المسيء في صلاته بإعادتها؛ لأنه أخلَّ بلُبِّها ورُوحها، ولَم يتمَّ ركوعها ولا سجودها، فقال له النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ارْجع فصلِّ؛ فإنَّك لَم تُصَلِّ))[62]. 2- أسوء الناس سرقة، فعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ أسوأ الناس سرقة الذي يَسرق من صلاته))، قالوا: يا رسول الله، وكيف يسرق من صلاته؟ قال: ((لا يتمُّ ركوعَها ولا سجودها))[63]. 3- لو مات على حاله مِن ترْك الخشوع في الصلاة، فإنه يموت على غير ملَّة الإسلام - والعياذ بالله، فعن أبي عبدالله الأشعري - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رأى رجلاً لا يتمُّ ركوعه يَنقر في سجوده وهو يصلِّي، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو ماتَ هذا على حاله هذه، مات على غير ملَّة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم))، ثم قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَثَلُ الذي لا يتمُّ ركوعه ويَنقُر في سجوده، مثل الجائع يأكل التمرة والتمرتَيْن لا يغنيان عنه شيئًا))[64]. فإذا عَلِم العبد هذه المفاسد وغيرها في ترْك الخشوع في الصلاة، دعاه ذلك إلى مجاهدة نفسه على الخشوع فيها، وعمل الأسباب الجالبة لذلك، وتوقِّيه لِمَا يفسد ذلك الخشوع، أو ينقصه! الحادي عشر: اجتناب الأسباب المذهبة للخشوع، ومن ذلك: 1- الصلاة في المكان الذي فيه ما يُشغل المصلي في صلاته، فعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - صلَّى في خميصة لها أعلام، فنظَر إلى أعلامها نظرة، فلمَّا انصرَف قال: ((اذهبوا بخَمِيصتي[65] هذه إلى أبي جهم، وأتوني بأنْبِجانيَّة[66] أبي جَهْم، فإنها ألْهَتْني آنفًا عن صلاتي))[67]. ففي هذا الحديث: مشروعيَّة الخشوع في الصلاة، وفعْل الأسباب الجالبة له، والابتعاد عن كل ما يشغل في الصلاة؛ قال ابن رجب - رحمه الله -: "في الحديث دليل على استحباب التباعُد عن الأسباب الملهية عن الصلاة؛ ولهذا أخرَج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - تلك الخَمِيصة عنه بالكليَّة، فينبغي لِمَن ألْهَاه شيءٌ من الدنيا عن صلاته أن يخرجَه عن ملكه"[68]. وقال العيني - رحمه الله -: "وفيه طلب الخشوع في الصلاة والإقبال عليها، ونفْي كل ما يشغل القلب ويُلهي عنه..، وفيه: المبادرة إلى ترْك كلِّ ما يُلهي ويشغل القلب عن الطاعة والإعراض عن زينة الدنيا والفتنة بها"[69]. 2- الدخول في الصلاة والفكر مُشوَّش، بسبب وجود شيء يُضايقه، كاحتباس بَوْل، أو غائط، أو حضور طعام يَشتهيه، أو ما أشبه ذلك، فعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا صلاة بحَضْرة الطعام، ولا هو يُدافعه الأخْبَثان))[70]، والأخبثان: البول والغائط. في هذا الحديث: "كراهة الصلاة بحَضْرة الطعام الذي يريد أكْلَه؛ لِمَا فيه من اشتغال القلب به، وذهاب كمال الخشوع، وكراهتها مع مُدافعة الأخْبَثَين، وهما: البوْل والغائط، ويلحق بهذا ما كان في معناه مما يشغل القلب، ويذهب كمال الخشوع"[71]. مراتب الناس في الخشوع: يتفاوت الناس في خشوعهم في صلاتهم تفاوتًا عظيمًا، فمنهم مَن إذا دخل فيها، نَسِي كلَّ شيءٍ، وصار يَسبح في عالَم آخرَ، ومنهم مَن إذا دخَل فيها أتتْه الدنيا بما فيها، فصار يُعدِّد كلَّ شيءٍ لَم يكن يذكره من قبل، ولرُبَّما أنهى صلاته ولَم يَنته من عدِّه لتلك الأشياء، ولرُبَّما فرَغ من صلاته ولَم يَدْرِ كم صلَّى، ومنهم مَن يكون بين هذين الصِّنفين، فمرَّة يخشع، ومرَّة يغفل ويسهو، فصلاته لِمَا غلَب منهما. وقد قسَّم العلاَّمة ابن القَيِّم الناس في الصلاة إلى خمسة أقسام، فقال - رحمه الله -: "والناس في الصلاة على مراتب خمسة: إحداها: مَرتبة الظالِم لنفسه المفرِّط، وهو الذي انتقَص من وضوئها ومواقيتها، وحدودها وأركانها. الثاني: مَن يحافظ على مواقيتها وحدودها، وأركانها الظاهرة ووضوئها، لكن قد ضيَّع مُجاهدة نفسه بالوسوسة، فذهَب مع الوساوس والأفكار. الثالث: مَن حافَظ على حدودها وأركانها، وجاهَد نفسه في دفْع الوساوس والأفكار، فهو مشغول في مُجاهدة عدوِّه؛ لئلاَّ يسرق من صلاته، فهو في صلاة وجهادٍ. الرابع: مَن إذا قام إلى الصلاة، أكمَل حقوقها وأركانها وحدودها، واستغرَق قلبه مراعاة حدودها؛ لئلاَّ يَضيع منها شيءٌ، بل همُّه كلُّه مصروفٌ إلى إقامتها كما ينبغي. الخامس: مَن إذا قام إلى الصلاة، قام إليها كذلك، ولكن مع هذا قد أخَذ قلبه ووضَعه بين يدي ربِّه - سبحانه وتعالى - ناظرًا بقلبه إليه، مراقبًا له، ممتلئًا من محبَّته وتعظيمه، كأنه يراه ويشاهده، فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أفضلُ وأعظم مما بين السماء والأرض. فالقسم الأول: معاقَب، والثاني: محاسَب، والثالث: مُكَّفر عنه، والرابع: مُثاب، والخامس: مقرَّب من ربِّه؛ لأن له نصيبًا ممن جُعِلَت قُرَّة عينه في الصلاة، فاستراحَ بها، ومَن قرَّت عينُه بالله، قرَّت به كلُّ عين، ومَن لَم تَقَرَّ عينُه بالله، تقطَّعت نفسه على الدنيا حسرات. وإنما يقوى العبد على حضوره في الصلاة واشتغاله فيها بربِّه، إذا قهَر شهوْته وهواه، وإلاَّ فقلْبٌ قد قهرتْه الشهوة، وأَسَره الهوى، ووجَد الشيطان فيه مقعدًا تمكَّن فيه كيف يخلص من الوساوس والأفكار"[72]. فيجب على المسلم أن يحرص على أداء صلاته كما أمَر الله، وعلى وَفْق هدْي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأن يطمئنَّ فيها، ويتمَّ ركوعها وسجودها، ويخشعَ قلبه فيها، وتسكن جوارحه عند أدائها، فإذا كانت صلاتُه كذلك فقد أقامَها كما أمَر الله، ومن ثَمَّ ستنهاه عن كل فعْلٍ وقوْل قبيحٍ؛ قال - تبارك وتعالى -: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45]. قال ابن سعدي - رحمه الله -: "والصلاة على هذا الوجْه: تَنهى صاحبها عن كلِّ خُلقٍ رذيل، وتحثُّه على كلِّ خُلق جميل؛ لِمَا تؤْثِره في نفسه من زيادة الإيمان، ونور القلب وسروره، ورغْبته التامَّة في الخير"[73]. والحمد الله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، وصلى الله وسلم على خير البريَّات نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أُولِي المناقب الزاكِيَات، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الوقوف في العَرَصات. [1] رواه مسلم (16). [2] تفسير القرآن العظيم (1/ 78)؛ لابن كثير. [3] الصلاة وأحكام تاركها، ص (140). [4] شرح رياض الصالحين (2/400)؛ لابن عثيمين. [5] رواه البخاري (6667)، ومسلم (397). [6] مجموع الفتاوى (22/ 601 - 602). [7] رواه أبو داود (855)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (801)، وفي صحيح الترغيب والترهيب (522). [8] رواه مسلم (622). [9] مدارج السالكين (1/ 523). [10] رواه أبو داود (796)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (761)، وفي صحيح الترغيب والترهيب (537). [11] مجموع الفتاوى (7/31). [12] مصنف ابن أبي شيبة (2/ 86)، رقْم (6787). [13]ينظر: مدارج السالكين (1/ 517). [14] رواه مسلم (395). [15] رواه البخاري (631)، ومسلم (674). [16] رواه أبو داود (776)، والترمذي (243)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (749). [17] رواه البخاري (744)، ومسلم (598). [18] رواه الترمذي (242)، وأبو داود (775)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (748). [19] رواه أبو داود (4001)، وأحمد (26625)، وصحَّحه الألباني في "إرواء الغليل" (2/ 60)، رقْم (343). [20] رواه أبو داود (936)، والترمذي (250)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (866)، وفي صحيح الجامع (395). [21] رواه البخاري (776)، ومسلم (451). [22] رواه النسائي (921)، وصحَّحه الألباني في صحيح النسائي (921)، وفي مشكاة المصابيح (879). [23] رواه مسلم (477). [24] رواه أبو داود (869)، وابن ماجه (887)، وحسَّنه الألباني في مشكاة المصابيح (879). [25] رواه ابن ماجه (897)، وصحَّحه الألباني في إرواء الغليل (2/41)، (335). [26] رواه أبو داود (850)، والترمذي (284)، وصحَّحه الألباني في مشكاة المصابيح (900). [27] رواه مسلم (588). [28] رواه البخاري (736)، ومسلم (390). [29] رواه البخاري (739). [30] رواه مسلم (401). [31] رواه ابن خزيمة (479). [32] رواه أبو داود (759)، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود (759). [33] رواه الحاكم (1761)، وصحَّحه الألباني في صفة صلاة النبي ص (232). [34] رواه مسلم (498). [35] رواه النسائي (1039)، وصحَّحه الألباني في صحيح سُنن النسائي (1039). [36] رواه أحمد (17122)، وقال محقِّقو المسند: حسن. [37] رواه أبو داود (838)، وابن ماجه (882). [38] رواه البخاري (82
رد: لب الصلاة وروحهاشكرا على الموضوع الرائع
|
2 مشترك
لب الصلاة وروحها
الجزائري عبد المعز- عضو ماسي
- تاريخ الإنضمام : 05/10/2011
الجنسية : جزائر
عدد المشاركات : 3288
مكسب العضو : 40583
نقاط تقييم مواضيع العضو : 21
المزاج : منتديات طموح الجزائر
- مساهمة رقم 1