إن رد الحديث الصحيح بالقياس أو غيره من القواعد التي سبق ذكرها مثل رده بمخالفة أهل المدينة له ، لهو مخالفة صريحة لتلك الآيات والأحاديث المتقدمة القاضية بوجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة عند الاختلاف والتنازع ، ومما لا شك فيه عند أهل العلم أن رد الحديث لمثل ما ذكرنا من القواعد ، ليس مما اتفق عليه أهل العلم كلهم ، بل إن جماهير العلماء يخالفون تلك القواعد ، ويقدمون عليها الحديث الصحيح اتباعاً للكتاب والسنة ، كيف لا ، مع أن الواجب العمل بالحديث ولو مع ظن الاتفاق على خلافه أو عدم العلم بمن عمل به ، قال الإمام الشافعي في "الرسالة" (ص463/464) : " ويجب أن يقبل الخبر في الوقت الذي ثبت فيه ، وإن لم يمض عمل من الأئمة بمثل الخبر " .وقد قال العلامة ابن القيم في "إعلام الموقعين" (1/32-33) : " ولم يكن الإمام أحمد رحمه الله تعالى يقدم على الحديث الصحيح ، عملا ولا رأيا ولا قياساً ولا قول صاحب ، ولا عدم علمه بالمخالف الذي يسميه كثير من الناس إجماعاً ، ويقدمونه على الحديث الصحيح وقد كذب أحمد من ادعى هذا الإجماع ، ولم يسغ تقديمه على الحديث الثابت ، وكذلك الشافعي أيضاً نص في "رسالته الجديدة" على أن ما لا يعلم فيه بخلاف لا يقال له إجماع ... ونصوص رسول الله صلى الله عليه و سلم أجل عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث من أن يقدموا عليها ما توهم إجماع ، مضمونه عدم العلم بالمخالف ، ولو ساغ لتعطلت النصوص ، وساغ لكل من لم يعلم مخالفاً في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص " . وقال ابن القيم أيضاً (3/464-465) : " وقد كان السلف الطيب يشتد نكيرهم وغضبهم على من عارض حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم برأي أو قياس ، أو استحسان ، أو قول أحد من الناس كائناً من كان ، ويهجرون فاعل ذلك وينكرون على من ضرب له الأمثال ، ولا يسوغون غير الانقياد له صلى الله عليه و سلم والتسليم ، والتلقي بالسمع والطاعة ، ولا يخطر بقلوبهم التوقف في قبوله حتى يشهد له عمل أو قياس ، أو يوافق قول فلان وفلان ن بل كانوا عاملين بقوله تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم وأمثاله ( مما تقدم ) فدفعنا إلى زمان إذا قيل لأحدهم : ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : كذا ، وكذا ، يقول : من قال بهذا ؟ دفعاً في صدر الحديث ، ويجعل جهله بالقائل حجة له في مخالفته وترك العمل به ، ولو نصح نفسه لعلم أن هذا الكلام من أعظم الباطل ن وأنه لا يحل له دفع سنن رسول الله صلى الله عليه و سلم بمثل هذا الجهل ، وأقبح من ذلك عذره في جهله ، إذ يعتقد أن الإجماع منعقد على مخالفة تلك السنة ، وهذا سوء ظن بجماعة المسلمين ، إذ ينسبهم إلى اتفاقهم على مخالفة سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وأقبح من ذلك عذره في دعوى هذه الإجماع ، وهو جهله وعدم علمه بمن قال بالحديث ، فعاد الأمر إلى تقديم جهله على السنة والله المستعان " . قلت : وإذا كان هذا حال من يخالف السنة ، وهو يظن أن العلماء اتفقوا على خلافها ، فكيف يكون حال من يخالفها ، إذا كان يعلم أن كثيراً من العلماء قد قالوا بها ، وأن من خالفها لا حجة له إلا من مثل تلك القواعد المشار إليها ، أو التقليد على ما سيأتي في الفصل الرابع . * سبب الخطأ في تقديم القياس وأصولهم على الحديث : ومنشأ الخطأ في تقديهم القواعد المشار إليها على السنة في نظري إنما هو نظرتهم إلى السنة أنها في مرتبة دون المرتبة التي أنزلها الله تبارك وتعالى فيها من جهة ، وفي شكهم في ثبوتها من جهة أخرى ، وإلا كيف جاز لهم تقديم القياس عليها ، علماً بأن القياس قائم على الرأي والاجتهاد ، وهو معرض للخطأ كما هو معلوم ، ولذلك لا يصار إليه إلا عند الضرورة كما تقدم في كلمة الشافعي رحمه الله : " لا يحل القياس والخبر موجود " ، وكيف جاز لهم تقديم عمل أهل بعض البلاد عليها ، وهم يعلمون أنهم مأمورون بالتحاكم إليها عند التنازع كما سلف ؟ وما أحسن قول الإمام السبكي في صدد المتمذهب بمذهب يجد حديثاً لم يأخذ به مذهبه ، ولا علم قائلاً به من غير مذهبه : " والأولى عندي اتباع الحديث ، وليفرض الإنسان نفسه بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم ، وقد سمع ذلك منه أيسعه التأخر عن العمل به ؟ ! لا والله ، وكل أحد مكلف بحسب فهمه " ( 3 ) . قلت : وهذا يؤيد ما ذكرنا من أن الشك في ثبوت السنة هو مما رماهم في ذلك الخطأ ، وإلا فلو كانوا على علم بها وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قالها ، لم يتفوهوا بتلك القواعد فضلا عن أن يطبقوها ، وأن يخالفوا بها مئات الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا مستند لهم في ذلك إلا الرأي والقياس واتباع عمل طائفة من الناس كما ذكرنا ، وإنما العمل الصحيح ما وافق السنة ، والزيادة على ذلك زيادة في الدين ، والنقص منه نقص في الدين ، قال ابن القيم (1/299) مفسراً للزيادة والنقص المذكورين : " فالأول القياس ، والثاني التخصيص الباطل ، وكلاهما ليس من الدين ، ومن لم يقف مع النصوص ، فإنه تارة يزيد في النص ما ليس منه ، ويقول هذا قياس ، ومرة ينقص منه بعض ما يقتضيه ، ويخرجه عن حكمه ويقول : هذا تخصيص ومرة يترك النص جملة ، ويقول : ليس العمل عليه ، أو يقول : هذا خلاف القياس ، أو خلاف الأصول . ( قال ) : ونحن نرى أنه كلما اشتد توغل الرجل في القياس إشتدت مخالفته للسنن ، ولا نرى خلاف السنن والآثار عند أصحاب الرأي والقياس ، فالله كم من سنة صحيحة صريحة قد عطلت به ، وكم من أثر درس حكمه بسببه ، فالسنن والآثار عند الآرائيين والقياسيين خاوية على عروشها ، معطلة أحكامها ، معزولة عن سلطانها وولايتها ، لها الاسم ، ولغيرها الحكم ، لها السكة والخطبة ولغيرها الأمر والنهي ، وإلا فلماذا ترك : * أمثلة من الأحاديث الصحيحة التي خولفت بتلك القواعد : 1 - حديث قسم الابتداء وأن للزوجة حق العقد سبع ليال إن كانت بكراً ، أو ثلاثا إن كانت ثيباً ، ثم يقسم بالسوية ؟ 2 – وحديث تغريب الزاني غير المحصن . 3 – وحديث الاشتراط في الحج ، وجواز التحلل بالشرط . 4 – وحديث المسح على الجوربين . 5 – وحديث أبي هريرة ومعاوية بن الحكم السلمي في أن كلام الناسي والجاهل لا يبطل الصلاة . 6 – وحديث إتمام صلاة الصبح لمن طلعت عليه الشمس وقد صلى منها ركعة . 7 – وحديث إتمام الصوم لمن أكل ناسياً . 8 – وحديث الصوم عن الميت . 9 – وحديث الحج عن المريض الميئوس من برئه . 10 – وحديث القضاء بالشاهد مع اليمين . 11 – وحديث قطع يد السارق في ربع دينار . 12 – وحديث من تزوج إمرأة أبيه ضرب عنقه ويأخذ ماله . 13 – وحديث لا يقتل مؤمن بكافر . 14 – وحديث لعن الله المحلل والمحلل له . 15 – وحديث لا نكاح إلا بولي . 16 – وحديث المطلقة ثلاثاً لا سكنى لها ولا نفقة . 17 – وحديث أصدقها ولو خاتماً من حديد . 18 – وحديث إباحة لحوم الخيل . 19 – وحديث كل مسكر حرام . 20 – وحديث : ليس فيما دون الخمس أوسق صدقة . 21 – وحديث المزارعة والمساقاة . 22 – وحديث ذكاة ( 4 ) الجنين وذكاة أمه . 23 – وحديث الرهن مركوب ومحلوب . 24 – وحديث النهي عن تخليل الخمر . 25 – وحديث لا تحرم المصة والمصتان . 26 – وحديث أنت ومالك لأبيك . 27 – وحديث الوضوء من لحوم الإبل . 28 – وأحاديث المسح على العمامة . 29 – وحديث الأمر بإعادة الصلاة لمن صلى خلف الصف وحده . 30 – وحديث من دخل والإمام يخطب يوم الجمعة يصلي تحية المسجد . 31- وحديث الصلاة على الغائب . 32 – وحديث الجهر بآمين في الصلاة . 33 – وحديث جواز رجوع الأب فيما وهب لولده ، ولا يرجع غيره . 34 – وحديث الخروج إلى العيد من الغد إذا علم بالعيد بعد الزوال . 35 – وحديث نضح بول الرضيع الذي لم يأكل الطعام . 36 – وحديث الصلاة على القبر . 37 – وحديث بيع جابر بعيره واشتراط ظهره ( 5 ) . 38 – وحديث النهي عن جلود السباع . 39 – وحديث لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره . 40 – وحديث إذا أسلم وتحته أختان يختاره أيتهما شاء . 41 – وحديث الوتر على الراحلة . 42 – وحديث كل ذي ناب من السباع حرام . 43 – وحديث : من السنة وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة ( 6 ) . 44 – وحديث لا تجزيء صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في ركوعه وسجوده . 45 – وأحاديث رفع اليدين في الصلاة عند الركوع والرفع منه . 46 – وأحاديث الاستفتاح في الصلاة . 47 – وحديث : تحريمها التكبير ، وتحلها التسليم . 48 – وحديث حمل الصبية في الصلاة . 49 – وأحاديث العقيقة . 50 – وحديث : لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذنك . 51 – وحديث أن بلالا يؤذن بليل . 52 – وحديث النهي عن صوم يوم الجمعة . 53 – وحديث صلاة الكسوف والاستسقاء . 54- وحديث عسب الفحل . 55 – وحديث المحرم إذا مات لم يخمر رأسه لم يقرب طيباً " . قلت : هذه الأحاديث كلها أو جلها إلى أضعافها تركت من أجل القياس أو القواعد التي سبق ذكرها ، بعضها أعزاها ابن حزم للتاركين للسنة من أجل عمل المدينة ، وإليكم أمثلة أخرى من مخالفة هؤلاء للسنة ، فمن ذلك مخالفتهم لـــ : 1 – حديث قراءته صلى الله عليه و سلم ( بالطور ) في المغرب و ( المرسلات ) في آخر عمره صلى الله عليه و سلم . 2 – تأمينه صلى الله عليه و سلم بعد الفاتحة . 3 – سجوده صلى الله عليه و سلم في إذا السماء انشقت . 4 – صلاته صلى الله عليه و سلم بالناس جالساً وهم جلوس وراءه . فقالوا : صلاة من صلى كذلك باطلة ! 5 – حديث أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ابتدأ بالناس الصلاة فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فدخل فجلس إلى جنب أبي بكر رضي الله عنه ، فأتم عليه السلام الصلاة بالناس . فقالوا : ليس عليه العمل ، ومن صلى هكذا بطلت صلاته ! 6 – حديث جمع بين الظهر والعصر ( يعني في المدينة ) في غير خوف ولا سفر ( 7 ) . 7 – حديث أنه أتى بصبي فبال على ثوبه فدعا بماء ، فأتبعه إياه ونضحه ولم يغسله . 8 – وحديث أنه عليه السلام كان يقرأ في صلاة العيد بسورة ( ق ) و ( اقتربت الساعة ) . 9 – حديث أنه عليه السلام صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد . 10 – حديث أنه عليه السلام رجم يهوديين زنيا . فقالوا : لا يجوز رجمهم ! 11 – حديث أنه صلى الله عليه و سلم وهو محرم . 12 – حديث تطيبه صلى الله عليه و سلم لحله قبل أن يطوف بالبيت ( 8 ) . 13 – أحاديث التسليمتين في الصلاة . إلى غير ذلك من الأحاديث التي خالفوا فيها أوامره صلى الله عليه و سلم التي لو تتبعها المتتبع لربما بلغت الألوف كما قال ابن حزم رحمه الله تعالى . وقد درسنا مسألة تقديم القياس وغيره على الحديث فيما مضى ، فلندرس الآن الأمرين الآخرين على ضوء الكتاب والسنة ، والنصوص المتقدمة لنتبين منها حقيقتها ، في فصلين اثنين . |
2 مشترك
بطلان تقديم القياس وغيره على الحديث
الجزائري عبد المعز- عضو ماسي
- تاريخ الإنضمام : 05/10/2011
الجنسية : جزائر
عدد المشاركات : 3288
مكسب العضو : 40583
نقاط تقييم مواضيع العضو : 21
المزاج : منتديات طموح الجزائر
- مساهمة رقم 1
بطلان تقديم القياس وغيره على الحديث
ahmade- عضو ماسي
- تاريخ الإنضمام : 27/11/2011
الجنسية : alg
عدد المشاركات : 2394
مكسب العضو : 14803
نقاط تقييم مواضيع العضو : 0
- مساهمة رقم 2
رد: بطلان تقديم القياس وغيره على الحديث
مششكور اخي