بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذى اختص لغة العرب بأن جعلها وعاء لكتابه ، والصلاة والسلام على أفصح من نطق بالضاد . وبعد : فهذه ورقة أولية حاولت أن تدرس غريب الحديث ، والخطوات الكفيلة بضبطه ، وتقعيده ، حيث كان هذا الفن يقوم به العلماء الجامعين للعلوم المختلفة من لغة وفقه وحديث … ، ولم يكونوا بحاجة إلى ضبطه وتقعيده . وقد أصبحت الحاجة ماسة اليوم إلى رصد هذه الفنون ، واستخراج قواعدها ، وضوابطها ، حتى تتم فى أطر محددة ومنضبطة ، خاصة فى حالة الأعمال العلمية الجماعية، التى يتعدد فيها المشاركون ويتفاوتون بينهم ، مما يوجب توحيد أطر العمل ، من خلال صياغة القواعد فى صورة إجراءات يسهل تطبيقها . وقد بدأت هذه الورقة ببيان المراد بغريب الحديث ، وبيان تعريفه عند العلماء ، وحكمه ، وأهم ما كتب فيه ، والغرض منه ، وبيان أهميته ، وصعوبته ، وأن الجهود التى تمت فيه لم تستقص غريب السنة النبوية ، وبيان سبب عدم تقعيد (كتابة قواعد) عملية شرح الغريب هذا الفن العملى ، الذى كان يكتفى فيه بالتلقى والممارسة ، وبيان مدى الحاجة الآن إلى هذا التنظير . وقد طرحت الورقة فى هذا الصدد تصورها حول كيفية هذا التقعيد والتنظير . ثم تناولت بعد ذلك ما أمكن رصده من قواعد شرح غريب الحديث ، بادئة بما نص عليه علماء الحديث ، ثم تلاها غيرها من القواعد التى أمكن رصدها ، وقد بلغ ما ذكرناه (27) قاعدة . نسأل الله تعالى أن نكون قد وفقنا فى ما طرحناه ، والله من وراء القصد . القاهرة عصام الدين الزفتاوى 1422 هـ - 2002 م غريب الحديث الشريف : غريب الحديث هو ما وقع في متن الحديث من لفظة غامضة بعيدة من الفهم لقلة استعمالها([1]) . وعرفه السخاوى بأنه ما يخفى معناه من المتون لقلة استعماله ودورانه ، بحيث يبعد فهمه ، ولا يظهر إلا بالتفتيش فى كتب اللغة([2]) . ومعرفة غريب ألفاظ الحديث من المهمات المتعلقة بفهم الحديث والعلم والعمل به ، لا بمعرفة صناعة الإسناد ، وما يتعلق به([3]) . قال الحاكم : وهذا علم قد تكلم فيه جماعة من أتباع التابعين منهم مالك والثوري وشعبة فمن بعدهم ، فأول من صنف الغريب في الإسلام : النضر بن شميل ، له فيه كتاب هو عندنا بلا سماع ، ثم صنف فيه أبو عبيد القاسم بن سلام كتابه الكبير([4]) . وقد ذهب العز بن عبد السلام في أواخر القواعد إلى أن شرح الغريب واجب ، فقال فى تقسيمه المشهور للبدع : البدعة خمسة أقسام فالواجبة كالاشتغال بالنحو الذي يفهم به كلام الله ورسوله لأن حفظ الشريعة واجب ، ولا يتأتى إلا بذلك فيكون من مقدمة الواجب ، وكذا شرح الغريب وتدوين أصول الفقه ، والتوصل إلى تمييز الصحيح والسقيم ...([5]) . ويشير الحافظ ابن حجر إلى وجه الحاجة لشرح الغريب فيقول : ولا يجوز تعمد تغيير المتن بالنقص والمرادف إلا لعالم بما يحيل المعاني ، فإن خفى المعنى احتيج إلى شرح الغريب وبيان المشكل منه([6]) . ثم يشرح الحافظ ذلك بقوله : (فإن خفى المعنى) بأن كان اللفظ مستعملا بقلة (احتيج إلى) الكتب المصنفة فى (شرح الغريب) ككتاب أبى عبيد القاسم بن سلام ، وهو غير مرتب ، وقد رتبه الشيخ موفق الدين ابن قدامة على الحروف ، وأجمع منه كتاب أبى عبيد الهروى ، وقد اعتنى به الحافظ أبو موسى المدينى فنقب عليه واستدرك ، وللزمخشرى كتاب اسمه الفائق حسن الترتيب ، ثم جمع الجميع ابن الأثير فى النهاية ، وكتابه أسهل الكتب تناولا مع إعواز قليل فيه . وإن كان اللفظ مستعملا بكثرة لكن فى مدلوله دقة احتيج إلى الكتب المصنفة فى شرح معانى الأخبار (وبيان المشكل) منها ، وقد أكثر الأئمة من التصانيف فى ذلك كالطحاوى والخطابى وابن عبد البر وغيرهم انتهى كلام الحافظ . ويوسع السخاوى الغرض منه فيقول : وهو من مهمات الفن لتوقف التلفظ ببعض الألفاظ فضلا عن فهمها عليه ، وتتأكد العناية به لمن يروى بالمعنى . ويقول ملا على القارى : وهو فن مهم يقبح جهله للمحدثين خصوصا ، وللعلماء عموما ، ويجب أن يتثبت فيه ، ويتحرى([7]) . ويؤكد الإمام النووى رحمه الله تعالى على صعوبة هذا الفن فيقول : وهو فن مهم ، والخوض فيه صعب فليتحر خائضه ، وكان السلف يتثبتون فيه أشد التثبت([8]) . قال السيوطى : فقد رُوِّينَا عن أحمد أنه سئل عن حرف منه فقال : سلوا أصحاب الغريب فإني أكره أن أتكلم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظن . وسئل الأصمعي عن معنى حديث : (الجار أحق بسبقه) فقال : أنا لا أفسر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن العرب تزعم أن السقب اللزيق([9]) . وإلى مثل هذا ذهب الشيخ أحمد شاكر فى تعليقه على ألفية السيوطى فقال : هذا الفن من أهم فنون الحديث واللغة ، ويجب على طالب الحديث إتقانه ، والخوض فيه صعب ، والاحتياط فى تفسير الألفاظ النبوية واجب ، فلا يقدمن عليه أحد برأيه ... ثم إن من أهم ما يلحق بهذا النوع البحث فى المجازات التى جاءت فى الأحاديث ، إذ هى عن أفصح العرب صلى الله عليه وسلم ، ولا يتحقق فى معناها إلا أئمة البلاغة ، ومن خير ما ألف فيها كتاب المجازات النبوية تأليف الإمام العالم الشاعر الشريف الرضى([10]) . والحق كل الحق مع الإمام ابن عبد السلام ومن وافقه فى إيجاب شرح الغريب ؛ فهذا الفن من أهم فنون الحديث ، وأصعبها أيضا ، لأنه يجمع إلى علم الرواية وقواعد ضبط الألفاظ ، وتصحيح النسخ ، ومعرفة ألفاظ الحديث ورواياته بما يعين على فهم اللفظة الغريبة الواقعة فى أحد الروايات ، علمَ الدراية بأوسع ما يكون معناه من اطلاع جزئى على معانى الحديث : حديث حديث ، إلى اطلاع كلى على أحوال النبوة ، ومعاشه الشريف صلى الله عليه وسلم ، وأحوال صحبه رضى الله عنهم ، ومجتمع العرب بدوه وحضره . ويجمع أيضا علوم العربية نحوها وصرفها وبلاغتها ، ومعرفة لغاتها ... . ولهذا تجد أنه لم يقدم على شرح غريب الحديث فى العلماء المتقدمين الذين افتتحوا هذا الفن إلا مـن بلغ رتبة الاجتهاد أو كاد كالحربى وأبى عبيد القاسم بن سلام ، وابن قتيبة ، والخطابى ، وابن الجوزى ، فإن هؤلاء وغيرهم جميعا أخذوا بأكبر الحظ من علوم الرواية والدراية ، ورحلوا ، وسمعوا ، ورووا ، وفقهوا ، مما يسر الأمر على من أتى بعدهم ممن جمع كلامهم وهذبه كابن الأثير فى نهايته ، والسيوطى فى مختصرها ، ولا ننسى الزمخشرى فى فائقه ، ولا يخفى قدر الزمخشرى فى علوم اللغة ، وإن كان لم يخل كتابه من اعتزال شأنه فى عامة مصنفاته الأخرى([11]) . ومن ثم يقول الإمام النووى : ولا يقلد منها إلا ما كان مصنفوها أئمة أجلة([12]) . قال السيوطى شارحا عليه : كمجمع الغرائب لعبد الغفار الفارسى ، وغريب الحديث لقاسم السرقسطى ، والفائق للزمخشري ، والغريبين للهروي ، وذيله للحافظ أبي موسى المديني ، ثم النهاية لابن الأثير ، وهي أحسن كتب الغريب ، وأجمعها ، وأشهرها الآن وأكثرها تداولا وقد فاته الكثير([13]) . وهؤلاء الذين افتتحوا ، وهؤلاء الذين جمعوا وهذبوا إنما كانت عنايتهم بأمهات كتب السنة المشهورة كالصحيحين والسنن ، أو الأحاديث الأكثر دورانا ، وأن ذلك أيضا لم يكن على سبيل الاستقراء والحصر ، وقد وقفنا فى عمل سابق لنا اهتممنا فيه بشرح غريب مسلم على عشرات الألفاظ لم يذكرها ابن الأثير فى نهايته ، وهو أوسع كتب الغريب وأوعبها ، وإذا كان هذا هو الحال فى غريب مسلـم ، فإننا لا نوافق الحافظ فيما قاله من أن فى النهاية إعواز قليل ، بل إعوازه فى غريب الدواوين الستة ليس بقليل ، فإذا خرجنا عنها بات الإعواز أشد ، وهو ما لقيناه فى شرح الغريب ديوان السنة النبوية : جمع الجوامع ، والذى جمع الأمهات والفروع . ويتأيد قولنا هذا بما سبق أن قاله الحافظ السيوطى فى مقدمة مختصره للنهاية : وهو (يعنى كتاب النهاية لابن الأثير) أحسن كتب الغريب وأجمعها ، وأشهرها الآن ، وأكثرها تداولا ، وقد فاته الكثير فذيل عليه الصفي الأرموي بذيل لم نقف عليه . قال السيوطى : وقد شرعت فى تلخيصها تلخيصا حسنا مع زيادات جمة والله أسأل الإعانة على إتمامها ، انتهى كلام السيوطى([14]) . وقد نبه القاسمى فى تقسيمه لطبقات كتب الحديث على أن مما يميز الطبقة العليا من كتب الحديث اهتمام العلماء بشرحه وضبط ألفاظها وغريبها ، وأنه قد وقع الإهمال فى العناية بالطبقات الأخرى من كتب الحديث ، وقد ذكرنا كلامه بتمامه عند الكلام على ترتيب كتب الحديث . فإذن ما زال فن شرح الغريب بحاجة إلى استكمال ، وتتميم ، وهو بحاجة قبل ذلك إلى تنظير وتأصيل ، فرغم أهميته لم يتم تسجيل قواعده ، حيث إنه أحد الفنون العملية التى لم يعتن أئمتنا بتسجيل قواعده ، ووضع أصول يقوم عليها ، اكتفاء بالتلقى ، والممارسة ، ونقل الخبرة من الشيخ إلى تلاميذه ، واعتبار أن ما يحتاجه من أصول تنتشر بين علوم الراوية وعلوم الدراية وعلوم اللغة . ولا يخفى على المتمرس لكلام أصحاب الغريب أنه كان لديهم مجموعة من الأسس والقواعد تحكمهم شأنه فى ذلك شأن العديد من الفنون العلمية الإسلامية ، التى لم ترصد قواعدها العلمية ، وما أشبه ذلك بعلم الفقه قبل تدوين أصوله ، فقد كانت هناك أصول للفقه غير مسجلة تتم من خلالها العملية الفقهية ، وكذلك كلام العرب بناء على قواعد النحو قبل تسجيلها وتدوينها كعلم . ولا شك أننا أصبحنا بأمس الحاجة إلى الكشف عن أسس هذه الفنون الإسلامية ، ومحاولة تنظيرهـا ، وتسجيل أصولها . وربما يبدو أن الطريق إلى ذلك هو تكوين الخبرة المناسبة بالفن المطلوب تأصيله كفن شرح الغريب بالطرق التقليدية ، عن طريق التلقى - وهو ما يكاد ينقطع فى عصورنا تلك - والمراجعة والمطالعة المستمرة لكلام الأئمة لتكوين الملكة المناسبة ، ثم الممارسة العملية لهذا الفن ، واختبار النفس بمعنى شرح غريب حديث استقلالا ثم البحث فى كلام العلماء فيه ، وهكذا مرارا ، حتى تستقيم الملكة ، ويطمأن المـرء إليها . ثم تأتى بعد ذلك عملية التأصيل ، وذلك بتأمل العمليات الذهنية ، والإجراءات التى يتخذها المـرء ، واستبطان ذلك واستكشافه ، ومحاولة تسجيل ما كان يحدث تلقائيا من خلال الملكة المدربة . ولنبدأ أولا بما وقفنا عليه من كلام أئمة هذا الشأن رحمة الله عليهم : قاعدة (1) : ومن أصول شرح الغريب المدونة ما ذكره النووى فى التقريب بقوله : وأجود تفسيره ما جاء مفسرا في رواية([1]) ، وتبعه العراقى فى ألفيته([2]) . ومثَّله الإمام السيوطى فقال : كحديث الصحيحين في قوله صلى الله عليه وسلم لابن صائد : خبأت لك خبيئا فما هو ؟ قال : الدخ . فالدخ ههنا : الدخان ، وهو لغة فيه حكاه الجوهري وغيره لما روى أبو داود والترمذي من رواية الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه في هذا الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : إني خبأت لك خبأ ، وخبأ له {يوم تأتي السماء بدخان مبين} قال المديني : والسر في كونه خبأ له الدخان أن عيسى صلى الله عليه وسلم يقتله بجبل الدخان فهذا هو الصواب في تفسير الدخ هنا ، وقد فسره غير واحد على غير ذلك فأخطأوا ، فقيل : الجماع ، وهو تخليط فاحش ، وقيل : نبت موجود بين النخيل ، وهو غير مرضى([3]) . على أن من الغريب - فيما يقول السخاوى - ما لا يعرف تفسيره إلا من الحديث([4]) .ان من الغريب قاعدة (2) : أن يكون شرح الغريب قد جاء عن صاحبى ، أو راو للقصة ، وإليه أشار السيوطى بقوله فى الألفية([5]) : عن الصحابى وراو قد حكوا وخيره ما جاء من طريق او قاعدة (3) : شرط بعضهم - كما يقول السخاوى - فيمن يقلد (فى شرح الغريب) اطلاعه على أكثر استعمالات ألفاظ الشارع حقيقة ومجازا ، فقال : ولا يجوز حمل الألفاظ الغريبة من الشارع على ما وجد فى أصل كلام العرب ، بل لا بد من تتبع كلام الشارع والمعرفة بأنه ليس مراد الشارع من هذه الألفاظ إلا ما فى لغة العرب . وأما إذا وجد فى كلام الشارع قرائن بأن مراده من هذه الألفاظ معان اخترعها هو فيحمل عليها ، ولا يحمل على الموضوعات اللغوية ، كما هو فى أكثر الألفاظ الواردة فى كلام الشارع انتهى . قال السخاوى : وهذا هو المسمى عند الأصوليين بالحقيقة الشرعية([6]) . قاعدة (4) : الاشتغال بفقه الحديث ، والتنقيب عما تضمنه من الأحكام والآداب المستنبطة منه([7]) . قاعدة (5) : ومما يتضح به المراد من الخبر معرفة سببه ، ولذا اعتنى به غير واحد من العلماء([8]) . قاعدة (6) : البحث فى المجازات التى جاءت فى الأحاديث ، إذ هى عن أفصح العرب صلى الله عليه وسلم ، ولا يتحقق فى معناها إلا أئمة البلاغة ، ومن خير ما ألف فيها كتاب المجازات النبوية تأليف للشريف الـرضى([9]) . قاعدة (7) : أن يكون فى شرح الغريب مع الاشتقاق غير المستكره ، والتصريف غير المتعسف ، والإعراب المحقق ، على ما أشار إليه الزمخشرى فى مقدمة الفائق([10]) . قاعدة ( : يجب فى شرح الغريب الإتيان بالمقصود من شرح الكلمة مع الإشارة إلى وجه التصريف والاشتقاق من غير إيغال ؛ إذ كتب اللغة أولى بذكر ذلك ، ولا ينبغى بأن يخرج بشرح الغريب عن قصده ، على ما أشار إليه ابن الجوزى([11]) . قاعدة (9) : لا ينبغى الاقتصار على شرح أصل معنى الكلمة فى اللغة ، دون بيان المراد بها فى النص ، مثاله قوله صلى الله عليه وسلم : ((أبشروا بالمهدى رجل من قريش من عترتى)) ، فالعترة فى أصل اللغة : أخص أقارب المرء . والمراد بها هنا على الراجح : نسل السيدة فاطمة وسيدنا على بن أبى طالب رضى الله عنهمـا ، وقيل ذلك . فليس المراد مطلق أخص أقارب النبى صلى الله عليه وسلم ، بل ولدهما فحسب ، ويدل على ذلك مجموع الروايات فى الباب ، والله أعلم . قاعدة (10) : دأب الشارع فى ما يتعلق بعلاقة الرجل بالمرأة على استخدام الكنايات اللطيفة ، والإشارات البديعية ، دون العبارات الفجة الصريحة ، مثل قوله تعالى {ولا تقربوهن حتى يطهرن} ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ((ائت حرثك أنى شئت)) ، إلا أن يتعلق الأمر بحكم يتلبس على الأفهام ، ويحتاج إلى شىء من إيضاح كقوله صلى الله عليه وسلم : ((إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل)) . وقد اعتاد الشراح وأصحاب الغريب على توضيح المعانى المقصودة من تلك الكنايات بعبارات صريحة ، مع التصريح بالمعنى المكنى عنه ، ولهم فى ذلك قاعدة : أنه يجوز فى محل التعليم ما لا يـجوز فـى غيره . ونرى بعد شاعت القراءة ، ولم تعد المؤلفات تكتب لطلبة العلم المتخصصين فحسب أن القاعدة التى جرى عليها الشارع فى هذا أولى بالاتباع ، فإن المستقرئ لكلامه الشارع يرى أن الغالب عليه فى هذا الشأن التزام الكنايات اللطيفة التى يقرب فهمها على أذهان العامة ، وأن الشارع قد يلجأ إلى التصريح شيئا حسب الحاجة ، حتى يذكر اللفظ الصريح جدا إذا كان الأمر يتعلق بحد من الحدود ، كما فى حديث المعترف على نفسه بالزنا ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله سؤالا صريحا لا يكنى ، حتى قال سيدنا ابن عباس رضى الله عنهما كما فى رواية البخارى (ح 6438) : لا يكنى . فانظر إلى فقه رضى الله عنه ، فقد أفاد قوله ذلك أمرين : أولهما أن الأصل فى مثل هذه الأمور الكناية ، وأن النبى صلى الله عليه وسلم ترك هذا الأصل فى تلك الواقعة . ثانيهما : أن يجوز التصريح بما يستحي من التلفظ به من أنواع الرفث في القول من أجل الحاجة الملجئة لذلك ، كما يقول الحافظ فى الفتح([12]) . قاعدة (11) : يجب مراعاة الفروق بين الألفاظ المتقاربة المعنى ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، مثاله قوله صلى الله عليه وسلم : ((ائت فلانا فانظر إلى فتاتهم فإنه أثبت للود بينكما))([13]) ، فلا يجمل شرح الود بالحب ، وإن تقاربا فى المعنى ، ولوجود الفرق بينهما فالحب يكون فيما يوجبه ميل الطباع والحكمة جميعا ، والود من جهة ميل الطباع فقط ، ألا ترى أنك تقول : أحب فلانا وأوده ، وتقول : أحب الصلاة ، ولا تقول : أود الصلاة ، وتقول : أود أن ذاك كان لى ، إذا تمنيت وداده([14]) . وأفضل سبيل إلى التوصل للفرق بين كلمة وأخرى هو تأمل استعمالات الكلمة المختلفة ، ووضع الكلمة الأخرى محلها ، فيستقيم لك هذا تارة ، ولا يستقيم أخرى وبه - حال عدم الاستقامة - يظهر الفرق بين الكلمتين ، وهذه هى الطريقة التى يلوح لنا أن أبى هلال العسكرى سار عليها فى كتابه العظيم ((الفروق)) . ومثاله أيضا قوله صلى الله عليه وسلم : ((ائتوا الصلاة وعليكم بالسكينة))([15]) ، فالسكينة هنا : الوقار ، والتأنى فى الحركة ، فالمقصود بالسكينة هنا : هيئة اجتماعية من الصفتين المذكورتين ، فقد يكون الوقار دون حركة ، وقد يكون التأنى دون وقار . قاعدة (12) : وعلى الشارح بيان العهد سواء كان ذهنيا أو ذكريا ، وبيان المشار إليه فى الحديث ، والذى يصبح مع غيابه عنا كالغريب ، مثاله قوله صلى الله عليه وسلم : ((ائتدموا بالزيت))([16]) ، وقوله فى الرواية الأخرى : ((ائتدموا من هذه الشجرة))([17]) . والمراد بالزيت هنا هو زيت الزيتون فـ ((الألف اللام)) فى قوله ((الزيت)) ، للعهد الذهنى ، الذى قد يخفى على البعض . وكذلك المشار إليه فى الراوية الأخرى هو شجرة الزيتون . قاعدة (13) : يحسن الإشارة إلى مفرد الكلمة إذا كانت مستعملة فى صيغة الجمع . قاعدة (14) : يجب مراعاة عرف كل العصر واستعمالاتهم ، حتى لا يؤدى مخالفته إلى عدم وضوح الشرح ، أو حمله على غير معناه ، بشرط ألا يخرج ذلك عن صحيح اللغة . مثاله قوله صلى الله عليه وسلم فى ذكر ما يقع من الحرب مع الروم : ((لأنتم أصغر فى عيونهم من القردان فى أعجاز الإبل)) ، فالقردان مفردها قراد ، وكتب اللغة توضحها بأنها : دويبة تعض الإبل . إلا أن كلمة دويبة هذه تصغير دابة ربما يفهم منها القارئ المعاصر أنها حشرة صغيرة نحو القملة ، ولهذا فالأفضل أن نقول : القراد : حشرة ... إلخ ، فذلك يعين القارئ على الفهم الصحيح ، كما أنه سليم من ناحية اللغة ، ومطابق للواقع من حال القراد . قاعدة (15) : يحسن بيان مأخذ الكلمة ، ولماذا سميت كذلك ، إذا دق المأخذ ، ولا يقتصر على بيان المراد فقط ، مثاله فى حديث آداب الاستنجاء : ((أعدوا النُّبَل))([18]) ، وهى : أحجار الاستنجاء مفردها نبلة . فلا يجمل الاقتصار على ذلك رغم أنه المراد ، ولكن يستحب بيان مأخذ الكلمة فنقول : سميت كذلك لتناولها من الأرض ، يقال : انتبلت حجرا من الأرض إذا أنت أخذته ، وأنبلت غيرى حجرا ونبلته : أعطيته إياه . قاعدة (16) : يجب مراعاة الشرح للمشروح جمعا وإفرادا ونحو ذلك ، مثاله فى الحديث السابق : النبل ، فلا تقـل : حجر الاستنجاء ، بل الصواب : أحجار الاستنجاء ، لأن النبل جمع كما تقدم . قاعدة (17) : لا ينبغى تقييد النص بما لم يذكر فيه ، أو تفسيره بناء على وقائع محددة حدثت بعده قد تكون هى المعنية أو لا ، مثاله حديث : ((ألا لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض))([19]) ، فقد فسره بعضهم هكذا : الكفر هنا كفر أصغر ، وهو كفر عمل لا كفر اعتقاد ، حيث إن الصحابة قد وقع منهم ذلك يوم الجمل ويوم صفين ، وكفر العمل لا يخرج صاحبه عن الإسلام . وهذه العبارة فى حق الصحابة رضى الله عنهم مستشنعة جدا ، لا يليق إطلاقها فى حقهم وإن وقع منهم ما وقع ، ولا ضرورة لارتكاب هذا ، وليس فى النص ما يساعده . ومثاله أيضا : ((أخر الكلام فى القدر لشرار هذه الأمة فى آخر الزمان))([20]) ، فقد حمل بعض العلماء هذا الحديث على الجبرية والمعتزلة([21]) ، ولا داعى لذلك ، والأفضل بيان مذهب أهل السنة فى القدر ، وبيان أنه ستخالف فى ذلك فرق تبعد فيه عن الحق . قاعدة (18) : إذا كانت الكلمة لها عدة معانى فى اللغة والمراد فى النص أحدها فينبغى تعيينه ، مثاله قول سيدنا جبريل عليه السلام فى الحديث : ((إنى رأيت لفحة من جهنم ...))([22]) ، ولفح النار : إحراقها ، وحرها ، ووهجها ، والمراد هو الوهج ، لأن الحر غير مرئى ، فخرج عن أن يكون مقصودا ، والإحراق هو فعل النار فى الشىء وليس يفزع منظره مثل شدة التوهج والتأجج . قاعدة (19) : يستحب بيان معنى المشتق ، وعدم الاقتصار على بيان معنى ما اشتق منه . مثاله : حديث ((أتانى جبريل فقال : يا محمد كن عجاجا ثجاجا))([23]) ، فالعج : رفع الصوت بالتلبيـة ، والثج : سيلان دماء الهدى . هذا هو أصل المعنى ولكن يسحن أن نزيد فنقول : فعجاجا ثجاجا : مكثرا من رفع الصوت بالتلبية ، مكثرا من ذبح الهدى . وذلك أنه قد يخفى أن عجاجا وثجاجا صيغتا مبالغة ، وأن المراد الإكثار من العج والثج . قاعدة (20) : التأسيس أولى من التأكيد ، فإذا دار اللفظ بينهما تعين حمله على التأسيس كما يقول الإمام السيوطى([24]) ، وهذه قاعدة مشهورة يكثر العلماء من ذكرها ، والمراد بها أن حمل عبارة الشارع على تأسيس معنى جديد أولى من حملها على تأكيد معنى سبق ذكره ، وعبر عنها ابن نجيم بقوله : الكلام ما أمكن حمله على التأسيس لا يحمل على التأكيد([25]) . وقال الآمدى : التأسيس أصل والتأكيد فرع وحمل اللفظ على الفائدة الأصلية أولى([26]) . وقال أيضا : الأصل في الدلالات اللفظية إنما هو التأسيـس([27]) . وهذه قاعدة عظيمة يجب العناية بها([28]) . مثاله حديث : ((أتانى جبريل فقال : من ذكرتَ عنده فلم يصل عليك دخل النار فأبعده الله وأسحقه)) ، وفى اللسان : أسحقه الله أبعده ، فالهجوم على هذه العبارة ، وشرح الحديث بها يؤدى إلى أن يكون تقدير عبارة الحديث : فأبعده الله وأبعده ، ويكون المعنى هنا هو تأكيد الإبعاد ، وحسب ، والتأسيس أولى من التأكيد ، من ثم الأولى شرح الحديث وبيان أن السحيق الشديد البعد ، وليس البعيد فحسب ، ومنه قوله تعالى {أو تهوى به الريح فى مكان سحيق} ، وقوله {فسحقا لأصحاب السعير} ، وعليه فيكون المعنى فى الحديث : فأبعده الله من رحمته ، وزاده بعدا بإبعاده إبعادا أشد من الإبعاد الأول . قاعدة (21) : يستحب ذكر القواعد التى يرجع إليها فى التفسير ، ولا يكتفى بالتفسير بناء عليها ، مثاله : قاعدة أن المصدر قد يستعمل بمعنى اسم الفاعل ، كرجل عدل ، أى : عادل ، ومنه حديث : ((أتحب يا جبير إذا خرجت سفرا أن تكون من أمثل أصحابك هيئة ...))([29]) ، فقوله : ((سفرا)) ، أى : مسافرا ، وينبغى عدم الاقتصار على ذلك بل يوضحه بأنه من استعمال المصدر بمعنى اسم الفاعل ، ليبين وجه تفسير السفر بالمسافر . قاعدة (22) : الشرح بدل من المشروح ، فلا بد أن تذكره على هيئته ، إذا كان مرفوع فمرفوع ، أو منصوبا فمنصوب ، أو مضاف إلى ضمير فكذلك ، وهكذا . مثاله حديث يوم الجمعة : ((لا يتطهر الرجل فيحسن طهوره ثم يأتى يوم الجمعة فينصت ... إلا كانت كفارة ...)) . فطُهوره : تطهره ، ولا تقل : طُهوره : التطهر . ومثاله أيضا الحديث فى القاعدة السابقة : سفرا : مسافرا ، ولا تقل : المسافر ، أو مسافر . قاعدة (23) : لا يأول النص بلا ضرورة ، خاصة إذا وجد فى النص ما يؤكد حمل اللفظ على حقيقته ، مثاله : ((أتسمعون ما أسمع إنى لأسمع أطيط السماء ، وما تلام أن تئط))([30]) ، فأطيط : صوتها المرتفع من الزحام ، وتئط : تصيح وتئن ، وتصوت من ثقل ما عليها من ازدحام الملائكة وكثرة الساجدين . قال الطيبي رحمـه الله : أي أن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطت ، وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة وإن لم يكن ثمة أطيط وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله تعالى . وهذا التأويل الذى ذهب إليه الطيبى لا داعى له ، خاصة ما قوله صلى الله عليه وسلم ((أسمع)) ، فهذا اللفظ يؤكد أن المراد الحقيقة ، دون المجاز ، ولهذا قال القارى : ما المحوج عن عدول كلامه صلى الله عليه وسلم من الحقيقة إلى المجاز مع إمكانه عقلا ونقلا حيث صرح بقوله وأسمع مالا تسمعون([31]) . قاعدة (24) : لا يكفى فى شرح الغريب أن تنقل المعانى التى تحتملها الكلمة فى أصل اللغة ، دون توضيح أى معنى مراد فى النص . مثاله حديث : ((اجعل صديعها قميصا ، وأعط صاحبتك صديعا منها))([32]) ، فالصديع : الرقعة الجديدة فى الثوب الخلق . والصديع : الثوب المشقق . فلا يكفى ذكر المعنيين والسكوت على ذلك ، بل لا بد من بيان أن المراد المعنى الثانى . قاعدة (25) : ينبغى عدم نقل كل ما تعنيه الكلمة فى أصل اللغة مما لا يتعلق بالنص الذى نحن بصدده . مثاله حديث : ((هذا عير يبغضنا ونبغضه))([33]) . فعير : جبل مشهور فى المدينة . هذا هو المراد فى الحديث . والعير أيضا الحمار ، وهذا المعنى لا علاقة له بالنص هنا ، فينبغى إغفاله . قاعدة (26) : وجوب القراءة الدقيقة والمتأنية للنص وضبطه قبل الهجوم على بيان غريبه . مثاله حديث : ((أجهدوا أيمانهم أنهم ذبحوها ثم اذكروا اسم الله وكلوا))([34]) ، فقد شرح بعضهم قوله ((أجهدوا أيمانهم)) : حلفوا بأغلظ الأيمان . وهذا تفسير خطأ مبنى على قراءة ((أجهدوا)) على أنه ماض مبنى للفاعل ((أَجْهَدُوا)) ، والصواب أنه فعل أمر فيقرأ هكذا ((أَجْهِدُوا)) ، والمعنى : حلفوهم بأغلظ الأيمـان . ومثـاله أيضا حديث : ((أخسر الناس صفقة رجل أخلق يديه فى آماله ولم تساعده الأيام على أمنيته)) ، فالأخلق : الحجر الأملس لا شىء عليه . والأخلق : الفقير . وهذا لا علاقة بما نحن فيه ، بل أخلق فعل بمعنى أبلى وأتعب . قاعدة (27) : مراعاة شرح أجزاء المركب ، وعدم شرح بعضها وإهمال الآخر . مثاله حديث : ((اخفضى ولا تنهكى)) ، فهذا جملة فعلية ، فلا تشرح الضمير مثلا وأن المخاطب به أم عطية ، دون أن تشرح معنى الفعلين ، وهو المقصود أصلا بالعبارة . فهذه بعض القواعد التى تتعلق بشرح غريب الحديث ، ولا يخفى أنها محاولة أولية ، تحتاج إلى تعديل ومناقشة ، وتحتمل الزيادة عليها كثيرا ، وأرجو من الله أن تكون هذه المحاولة قد نالت حظا من التوفيق والصواب . المصدر : لطائف المنن |
+2
مرتاح بهجرك
الجزائري عبد المعز
6 مشترك
بحث فى علم غريب الحديث
الجزائري عبد المعز- عضو ماسي
- تاريخ الإنضمام : 05/10/2011
الجنسية : جزائر
عدد المشاركات : 3288
مكسب العضو : 40583
نقاط تقييم مواضيع العضو : 21
المزاج : منتديات طموح الجزائر
- مساهمة رقم 1
بحث فى علم غريب الحديث
مرتاح بهجرك- عضو ماسي
- تاريخ الإنضمام : 22/09/2011
الجنسية : العراق
عدد المشاركات : 1082
مكسب العضو : 4717
نقاط تقييم مواضيع العضو : 21
- مساهمة رقم 2
رد: بحث فى علم غريب الحديث
رررررررروعه
يسلمووووووو
يسلمووووووو
خليل إبراهيم- صاحب الموقع
- تاريخ الإنضمام : 02/12/2009
الجنسية : أردني وافتخر
عدد المشاركات : 9177
مكسب العضو : 122149
نقاط تقييم مواضيع العضو : 118
العمر : 34
المزاج : رايق
- مساهمة رقم 3
رد: بحث فى علم غريب الحديث
مشكوووووووووووووووووور على الموضوع الرائع
المخلص الموعود- المراقب العام
- تاريخ الإنضمام : 26/03/2012
الجنسية : ذكر
عدد المشاركات : 1045
مكسب العضو : 2044
نقاط تقييم مواضيع العضو : 19
- مساهمة رقم 4
رد: بحث فى علم غريب الحديث
شكرا
بارك الله فيك
ننتظر منك كل جديد
مشكور
بارك الله فيك
ننتظر منك كل جديد
مشكور
هيرودوت- عضو ماسي
- تاريخ الإنضمام : 10/04/2012
الجنسية : يمنية
عدد المشاركات : 878
مكسب العضو : 1010
نقاط تقييم مواضيع العضو : 20
- مساهمة رقم 5
رد: بحث فى علم غريب الحديث
بارك الله فيك
شكرا لمحهودك
جزاك الله الجنه
شكرا لمحهودك
جزاك الله الجنه
eddirasa-dz.com- الــمــديــر الــعــام
- تاريخ الإنضمام : 27/07/2011
الجنسية : ذكر
عدد المشاركات : 2239
مكسب العضو : 8070
نقاط تقييم مواضيع العضو : 6
العمر : 27
المزاج : ^_^
- مساهمة رقم 6
رد: بحث فى علم غريب الحديث
بارك الله فيك يا الاخ الكريم
و جزاك الله كل الخير
و جزاك الله كل الخير