بسم الله الرحمن الرحيم هذا مقتطف من كلام ابن القيم رحمه الله في معرض ذكره لأوجه ترجيح التائب على الطائع من ناحية الفضل، لا من ناحية الحسنات . الوجه السادس : وهو قوله تعالى إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما e]ص: 310 ] وهذا من أعظم البشارة للتائبين إذا اقترن بتوبتهم إيمان وعمل صالح ، وهو حقيقة التوبة ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فرح بشيء قط فرحه بهذه الآية لما أنزلت ، وفرحه بنزول إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر . واختلفوا في صفة هذا التبديل ، وهل هو في الدنيا ، أو في الآخرة ؟ على قولين : فقال ابن عباس وأصحابه : هو تبديلهم بقبائح أعمالهم محاسنها ، فبدلهم بالشرك إيمانا ، وبالزنا عفة وإحصانا ، وبالكذب صدقا ، وبالخيانة أمانة . فعلى هذا معنى الآية أن صفاتهم القبيحة ، وأعمالهم السيئة ، بدلوا عوضها صفات جميلة ، وأعمالا صالحة ، كما يبدل المريض بالمرض صحة ، والمبتلى ببلائه عافية . وقال سعيد بن المسيب ، وغيره من التابعين : هو تبديل الله سيئاتهم التي عملوها بحسنات يوم القيامة ، فيعطيهم مكان كل سيئة حسنة . واحتج أصحاب هذا القول بما روى الترمذي في جامعه : حدثنا الحسين بن حريث قال : حدثنا وكيع قال : حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إني لأعلم آخر رجل يخرج من النار ، يؤتى بالرجل يوم القيامة ، فيقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه ، ويخبأ عنه كبارها ، فيقال : عملت يوم كذا كذا وكذا ، وهو مقر لا ينكر ، وهو مشفق من كبارها ، فيقال : أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة ، فيقول : إن لي ذنوبا ما أراها هاهنا ، قال أبو ذر : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه )) . فهذا حديث صحيح ، ولكن في الاستدلال به على صحة هذا القول نظر ، فإن هذا قد عذب بسيئاته ودخل بها النار ، ثم بعد ذلك أخرج منها ، وأعطي مكان كل سيئة حسنة ، صدقة تصدق الله بها عليه ابتداء بعدد ذنوبه ، وليس في هذا تبديل تلك الذنوب بحسنات ، إذ لو كان كذلك لما عوقب عليها كما لم يعاقب التائب ، والكلام إنما هو في e]ص: 311 ] تائب أثبت له مكان كل سيئة حسنة ، فزادت حسناته ، فأين في هذا الحديث ما يدل على ذلك ؟ والناس استقبلوا هذا الحديث مستدلين به في تفسير هذه الآية على هذا القول ، وقد علمت ما فيه ، لكن للسلف غور ودقة فهم لا يدركها كثير من المتأخرين . فالاستدلال به صحيح ، بعد تمهيد قاعدة ، إذا عرفت عرف لطف الاستدلال به ودقته ، وهي أن الذنب لا بد له من أثر ، وأثره يرتفع بالتوبة تارة ، وبالحسنات الماحية تارة ، وبالمصائب المكفرة تارة ، وبدخول النار ليتخلص من أثره تارة ، وكذلك إذا اشتد أثره ، ولم تقو تلك الأمور على محوه ، فلا بد إذا من دخول النار لأن الجنة لا يكون فيها ذرة من الخبيث ، ولا يدخلها إلا من طاب من كل وجه ، فإذا بقي عليه شيء من خبث الذنوب أدخل كير الامتحان ، ليخلص ذهب إيمانه من خبثه ، فيصلح حينئذ لدار الملك . إذا علم هذا فزوال موجب الذنب وأثره تارة يكون بالتوبة النصوح ، وهي أقوى الأسباب ، وتارة يكون باستيفاء الحق منه وتطهيره في النار ، فإذا تطهر بالنار ، وزال أثر الوسخ والخبث عنه ، أعطي مكان كل سيئة حسنة ، فإذا تطهر بالتوبة النصوح ، وزال عنها بها أثر وسخ الذنوب وخبثها ، كان أولى بأن يعطى مكان كل سيئة حسنة ، لأن إزالة التوبة لهذا الوسخ والخبث أعظم من إزالة النار ، وأحب إلى الله ، وإزالة النار بدل منها ، وهي الأصل ، فهي أولى بالتبديل مما بعد الدخول ، يوضحه : الوجه التاسع : وهو أن التائب قد بدل كل سيئة بندمه عليها حسنة ، إذ هو توبة تلك السيئة ، والندم توبة ، والتوبة من كل ذنب حسنة ، فصار كل ذنب عمله زائلا بالتوبة التي حلت محله وهي حسنة ، فصار له مكان كل سيئة حسنة بهذا الاعتبار ، فتأمله فإنه من ألطف الوجوه . وعلى هذا فقد تكون هذه الحسنة مساوية في القدر لتلك السيئة ، وقد تكون دونها ، وقد تكون فوقها ، وهذا بحسب نصح هذه التوبة ، وصدق التائب فيها ، وما يقترن بها من عمل القلب الذي تزيد مصلحته ونفعه على مفسدة تلك السيئة ، وهذا من أسرار مسائل التوبة ولطائفها ، يوضحه : الوجه العاشر : أن ذنب العارف بالله وبأمره قد يترتب عليه حسنات أكبر منه وأكثر ، وأعظم نفعا ، وأحب إلى الله من عصمته من ذلك الذنب من ذل وانكسار وخشية ، وإنابة وندم ، وتدارك بمراغمة العدو بحسنة أو حسنات أعظم منه ، حتى يقول الشيطان : يا ليتني لم أوقعه فيما أوقعته فيه ، ويندم الشيطان على إيقاعه في الذنب ، كندامة e]ص: 312 ] فاعله على ارتكابه ، لكن شتان ما بين الندمين ، والله تعالى يحب من عبده مراغمة عدوه وغيظه ، كما تقدم أن هذا من العبودية من أسرار التوبة ، فيحصل من العبد مراغمة العدو بالتوبة والتدارك ، وحصول محبوب الله من التوبة ، وما يتبعها من زيادة الأعمال هنا ، ما يوجب جعل مكان السيئة حسنة بل حسنات . وتأمل قوله : يبدل الله سيئاتهم حسنات ولم يقل مكان كل واحدة واحدة فهذا يجوز أن يبدل السيئة الواحدة بعدة حسنات بحسب حال المبدل . وأما في الحديث فإن الذي عذب على ذنوبه لم يبدلها في الدنيا بحسنات من التوبة النصوح وتوابعها ، فلم يكن له ما يجعل مكان السيئة حسنات ، فأعطي مكان كل سيئة حسنة واحدة ، وسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن كبار ذنوبه ، ولما انتهى إليها ضحك ، ولم يبين ما يفعل الله بها ، وأخبر أن الله يبدل مكان كل صغيرة حسنة ، ولكن في الحديث إشارة لطيفة إلى أن هذا التبديل يعم كبارها وصغارها من وجهين : أحدهما : قوله : أخبئوا عنه كبارها ، فهذا إشعار بأنه إذا رأى تبديل الصغائر ذكرها وطمع في تبديلها ، فيكون تبديلها أعظم موقعا عنده من تبديل الصغائر ، وهو به أشد فرحا واغتباطا . والثاني : ضحك النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكر ذلك ، وهذا الضحك مشعر بالتعجب مما يفعل به من الإحسان ، وما يقر به على نفسه من الذنوب ، من غير أن يقرر عليها ولا يسأل عنها ، وإنما عرضت عليه الصغائر . فتبارك الله رب العالمين ، وأجود الأجودين ، وأكرم الأكرمين ، البر اللطيف ، المتودد إلى عباده بأنواع الإحسان ، وإيصاله إليهم من كل طريق بكل نوع ، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم . من كتاب مدارج السالكين فصل : الخلاف في اشتراط عدم العود إلى الذنب لابن القيم الجوزية رحمه الله |
|
|
2 مشترك
ذكر أوجه ترجيح التائب على الطائع من ناحية الفضل لا من ناحية الحسنات
الجزائري عبد المعز- عضو ماسي
- تاريخ الإنضمام : 05/10/2011
الجنسية : جزائر
عدد المشاركات : 3288
مكسب العضو : 40583
نقاط تقييم مواضيع العضو : 21
المزاج : منتديات طموح الجزائر
طيف الاستشهاد- عضو ماسي
- تاريخ الإنضمام : 17/11/2011
الجنسية : مغربي
عدد المشاركات : 1271
مكسب العضو : 11883
نقاط تقييم مواضيع العضو : 10
بارك الله فيك جزاك الله خيرا
طيف الاستشهاد- عضو ماسي
- تاريخ الإنضمام : 17/11/2011
الجنسية : مغربي
عدد المشاركات : 1271
مكسب العضو : 11883
نقاط تقييم مواضيع العضو : 10
بارك الله فيك جزاك الله خيرا