( ( ( الشعر في موكب الحج ) ) )
للشيخ الشاعر : عبدالمجيد بن محمد بن سليمان العُمري
* اهتم الشعر الجاهليّ بقدسية مكة والحج
* ونافس العلماء الشعراء في التعبير عن شوقهم وحنينهم إلى مكة
* والشعر العربي المعاصر لم يتأخر عن ركب الشعراء السابقين
الحج رحلة قدسية مباركة يتحقق بها شرف الزمان وشرف المكان ، وهو ركن من أركان الإسلام ،
يجتمع فيه المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها متجددين من متع الحياة وزخارفها وشهواتها ،
مقبلين على الله - عزوجل - امتثالاَ لأمره، وتصديقاً بكتابه ، وإتباعاً لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم
وهو باب أبواب الجنة ، وسبب عظيم من أسباب المغفرة والرحمة وقبول الدعاء؛
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما, والحج المبرور ليس جزاء إلا الجنة)).
وفي كل عام يفد الحجاج إلى بيت الله الحرام من كل فج عميق، ويشدون رحالهم إلى أقدس بقعة في الأرض ، وهذا اللقاء يؤثر في النفوس ويهز المشاعر,ولوعة الشوق في نفس المسلم لأداء هذا الركن العظيم الذي يتم به العبد أركان دينه، واستشعاره القرب من ربه، والدعاء والضراعة إلى الله في تلك الأوقات العظيمة الجليلة لا يمكن أن يؤدي وصف اللسان حقها، فهي أعظم من أن يُشار بلسان أو قلم، ولكنه شعور عميق يفيض بالشوق واللهفة في القلوب ويظهر جليًّا على الدموع حين تسيل على الخدين فرحًا واستبشارًا وقربًا ورضًا بالله وعنه - عزوجل - وعلى لسان الشاعر.
ويزخر الشعر العربي بقصائد سجلتها كتب الأدب لقصائد نظمها الشعراء ؛ عبروا فيها عن حنينهم وشوقهم إلى مكة ولهفتهم إليها, وإذا كان للحج مكانته الروحية السامية في نفوس كل المسلمين، وقد حظي باهتمام العديد من الشعراء ، سواء القدماء أو المحدثين، فإن الشعر الجاهلي قبل الإسلام هو الآخر تناول هذا الأمر ووردت عدة قصائد لشعراء جاهليين بينوا شوقهم ومشاعرهم تجاه مكة وأحياناً فخرهم واعتزازهم .
وكان للحج وما يتّصل به من مشاعر ، ومواطن ، ومعان ، مكانة رفيعة في شعر قريش ، و كان في مكّة البيت الحرام ، والمشاعر المقدّسة ، ولقريش تبعة حماية الكعبة وحرماتها والسقاية والرفادة ، وكان كلّ ذلك مصدر اعتزاز قريش .
وكانت قريش في أشعارها تفتخر بمكانتها من البيت وتعتزّ بحمايته وخدمته ، وكذلك فعلت قبيلة جرهم من قبل ، التي تحسّرت حينما فقدت هذه المكانة ، يقول شاعرهم فضاض بن عمرو بن الحارث الجُرهمي :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا *** أنيس ولــم يسمر بمكّة سامر
بلى نحــن كنــا أهلها فأزالنا *** صروف الليالي والجدود العواثر
وكنّا ولاة البيت من بعــد نابت *** نطوف بذاك البيت والخير ظاهر
فسحّت دموع العـين تبكي لبلدة *** بها حـــرم آمن وفيها المشاعر
وتبكي لبيت ليس يوذى حمــامُه *** يظــــلّ به أمناً وفيه العصافر
وهناك قصيدة لأبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين مكانة الكعبة وحرمتها عند قريش وقد أوردها ابن هشام في السيرة النبويّة ، واحتوت على ذكر البيت والحجر الأسود والصفا والمروة وحجّاج البيت والمشاعر ، كعرفة والمزدلفة ومنى والجمرة الكُبرى . ومن أبياتها :
أعوذ بربّ الناس من كــلّ طاعن *** علينا بسوء أو مُلـــــحّ باطلِ
وبالبيت ، حق البيت ، من بطن مكّة *** وبالله إنّ الله ليس بغــافـــل
وبالحجـر المُسود إذ يمسحونـــه *** إذا اكتنفوه بالضحى والأصـائل
وموطي إبراهيم فــي الصخر رطبه *** على قدميه حافياً غـــير ناعل
وأشواط بين المروتـــين إلى الصفا *** وما فيهما من صورة وتمـــاثل
ومن حجّ بيت الله من كــل راكب *** ومن كل ذي نذر ومن كل راجل
وبالمشعر الأقصــى والمنازل من منى *** وهل فوقها من حُــرمة ومنازل
أما في سوق عكاظ فكان الشعراء يتبارون لتأخذ قصائدهم طريقها إلى جوف الكعبة، بل إن النابغة الذبياني حين تعرض لفتنة إحدى النساء عفّ عن اللهو معها بسبب قدسية أشهر الحج وقال:
قالت أراك أخا رحلٍ وراحلةٍ *** تغشى متــآلف لن ينظرنك الهرما
حياكِ ربــي فإنا لا يحـــلّ لنا *** لهو النساء وإن الدين قد عزما
وإذا كانت مكة المكرمة والحج قديماً قد حظيا باهتمام شعراء الجاهلية فلا غرو أن يكون شعراء الإسلام وهم يدركون عظمة البيت وحرمته وفضله مهتمين بهذا الجانب في شعرهم ؛ فهذا الصحابي "قيس بن الأسلت" رضي الله عنه بعد إسلامه ، يقول :
ولكــــنا خُلقنا إذ خُلقنا **** حنيفاً ديننا عن كـل جيل
نسوق الهَدْيَ ترسف مذعنات **** مكشفة المناكب في الحلول
ولم يكن الشعراء هم الذين تفردوا بنقل مشاعرهم وأحاسيسهم شعراً ، فقد سبقهم العلماء في هذا الجانب وقل أن تجد عالماً قرض الشعر أو كتبه ولا تجد له قصيدة في الحج ؛ فمكة المكرمة وقدسيتها متأصلة في نفوس المسلمين ، والحج وهو الركن الخامس أمل يتطلع له كل مسلم ومن الشواهد الحية على ذلك ما قاله ابن القيم - رحمه الله في وصف عرفات:
فَلِلَّهِ ذَاكَ الْمَوْقِفُ الأَعْظَمُ الَّذِي *** كَمَوْقِفِ يَوْمِ الْعَرْضِ بَلْ ذَاكَ أَعْظَمُ
وَيَدْنُو بِهِ الْجَبَّارُ جَلَّ جَلالُهُ *** يُبَاهِي بِهِمْ أَمْلاكَهُ فَهْوَ أَكْرَمُ
يَقُولُ عِبَادِي قَدْ أَتَوْنِي مَحَبَّةً *** وَإِنِّي بِهِمْ بَرٌّ أَجُودُ وَأُكْرِمُ
فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي غَفَرْتُ ذُنُوبَهُمْ *** وَأُعْطِيهِمُ مَا أَمَّلُوهُ وَأُنْعِمُ
فَبُشْرَاكُمُ يَا أَهْلَ ذَا الْمَوْقِفِ الَّذِي *** بِهِ يَغْفِرُ اللَّهُ الذُّنُوبَ وَيَرْحَمُ
فَكَمْ مِنْ عَتِيقٍ فِيهِ كَمَّلَ عِتْقَهُ *** وَآخَرُ يَسْتَسْعِي وَرَبُّكَ أَكْرَمُ
أما المحدث المشهور ابن حجر العسقلاني رحمه الله قصيدةٌ تبلغ أربعة وأربعين بيتًا، بدأها بدايةً غزليةً ثم تطرَّق إلى تفاصيل كثيرة، يختلط فيها الشوق بالدموع والرجاء والرغبة بالخضوع، مصوِّرًا الكثير من أمور الحج ورحلته المقدسة، يقول ابن حجر:
معذبتي بالصـــد مالي ومالها *** وما مال قلبي عن هواها وما لَهَا
نأت فدنا الهــم القوي مسلما *** وأنْكَرَتِ النفسُ الضعيفةُ حَالَهَا
وقالوا صُغت نحـو الوشاة ملالة *** ومن لـي بأن تدنو وتبقى ملالها
وقيل لها مضناك مغناك قـد سلا *** فيـا صاحبيَّ استعذرا واحلفا لها
إلى أن يقول
ولبُّوا فبلُّوا بالنسيــم غليلهم *** وحيوا فأحيــوا للنفوس كمالها
فكـــم تائب مستغفر متيقن *** بمغفرة تهمي بفيض سجـــالها
وذي علة قـد طال عمر مطالها *** فقصر عفــــو الله عنه مطالها
وإذ نفروا فازوا فهـم نفر التقى *** سقتهم سحاب العفو صفوا زلالها
وزمزم حاديهم بزمزم كـم صد *** تروى وذي صــد جبته وصالها
وبــل غليلاً في طواف وداعه *** فأحسن لكــن كم دموع أسالها
وقد رفعوا أيدي الدعا بانكسارها *** وجزم الرجـا حتى أتى الفتح حالها
وما استكثروا من أدمع مستهلة *** نهـــار استقلوا للرحيل انهمالها
وقد سجلت كتب الأدب قصصاً وأشعاراً لشعراء فاض بهم الوجد وزاد شوقاً إلى مكة، وماتوا وهم في طريفهم إلليها، ومع سكرات الموت أنشأوا قصائدهم التي تبين وجدهم وشوقهم حتى وهم في الرمق الأخير.
ومن المرويات في هذه الكتب أن البرعي في حجه الأخير، أُخِذَ محمولاً على جمل، فلما قطع الصحراء مع الحج الشامي، وأصبح على بعد خمسين ميلاً من المدينة، هبَّ النسيم رطبًا عليلاً معطرًا برائحة الأماكن المقدسة، فازداد شوقه للوصول؛ لكن المرض أعاقه عن المأمول، فأنشأ قصيدة لَفَظَ مع آخر بيت منها نَفَسَه الأخير.. يقول فيها:
يَا رَاحِلِينَ إِلَى مِنًى بِقِيَادِي *** هَيَّجْتُمُو يَوْمَ الرَّحِيلِ فُؤَادِي
سِرْتُمْ وَسَارَ دَلِيلُكُمْ يَا وَحْشَتِي *** الشَّوْقُ أَقْلَقَنِي وَصَوْتُ الْحَادِي
وَحَرَمْتُمُو جَفْنِي الْمَنَامَ بِبُعْدِكُمْ *** يَا سَـاكِنِينَ الْمُنْحَنَى وَالْوَادِي
وَيَلُوحُ لِي مَا بَيْنَ زَمْزَمَ وَالصَّفَا *** عِنْدَ الْمَقَامِ سَمِعْتُ صَوْتَ مُنَادِ
وَيَقُولُ لِي يَا نَائِمًا جِدَّ السُّرَى *** عَرَفَاتُ تَجْلُو كُلَّ قَلْبٍ صَادِ
مَنْ نَالَ مِنْ عَرَفَاتِ نَظْرَةَ سَاعَةٍ *** نَالَ السُّرُورَ وَنَالَ كُلَّ مُرَادِ
تَاللَّهِ مَا أَحْلَى الْمَبِيتَ عَلَى مِنًى *** فِي لَيْلِ عِيدٍ أَبْرَكِ الأَعْيَادِ
ضَحَّوْا ضَحَايَا ثُمَّ سَالَ دِمَاؤُهَا *** وَأَنَا الْمُتَيَّمُ قَدْ نَحَرْتُ فُؤَادِي
لَبِسُوا ثِيَابَ الْبِيضِ شَارَاتِ اللِّقَاءِ *** وَأَنَا الْمُلَوَّعُ قَدْ لَبِسْتُ سَوَادِي
يَا رَبِّ أَنْتَ وَصَلْتَهُمْ صِلْنِي *** بِهِمْ فَبِحَقِّهِمْ يَا رَبِّ فُكَّ قِيَادِي
فَإِذَا وَصَلْتُمْ سَالِمِينَ فَبَلِّغُوا *** مِنِّي السَّلامَ أُهَيْلَ ذَاكَ الْوَادِي
قُولُـوا لَهُـمْ عَبْدُالرَّحِيمِ مُتَيَّمٌ *** وَمُفَــارِقُ الأَحْبَـابِ َالأَوْلادِ
صَلَّى عَلَيْكَ اللَّهُ يَا عَلَمَ الْهُدَى*** مَا سَارَ رَكْبٌ أَوْ تَرَنَّمَ حَادِ
وقد دونت كتب الأدب هذه المشاعر بل صدرت كتب عديدة عن الحج في الشعر العربي ، وقامت دراسات أكاديمية عليا وبحوث في هذا المجال, والشعر العربي المعاصر لم يـتأخر عن ركب الشعراء السابقين فقد تطرق الشعراء المتأخرون لمكة المكرمة بيت الله الحرام وللحج في أشعارهم ، وتجلت مشاعر الحب الدافق، والحنين نحو الحج وزيارة المناسك وأدائها والطواف وعرفات ، ولم تخل قصائدهم من شحنات عاطفية ثرَّة، وانفعالات روحية جمَّة، وأشواقًا نحو مكة المكرمة.