عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا قَالَ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ قَالَ فَضَالَّةُ الْإِبِلِ قَالَ مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا
رواه البخاري في صحيحه ومالك في الموطأ واللفظ له
شرح الحديث الشريف
قوله جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة يحتمل أن يكون سأله عن جواز أخذها ويحتمل أن يكون سأله عن حكمها وما يلزم فيها وما يجوز لمن أخذها ، فأما جواز أخذها فقد روى نافع عن ابن عمر أنه كان يمر باللقطة فلا يأخذها وفي العتبية من سماع ابن القاسم عن مالك أنه قال لا أحب أن يأخذها من وجدها إلا أن يكون لها قدر ، وقال في موضع آخر ، أو لذي رحمه وأما الشيء الذي له بال فأرى له أخذه وروى عنه أشهب أما الدنانير وشيء له بال فأحب إلي أن يأخذه وليس كالدرهم وما لا بال له لا أحب له أن يأخذ الدرهم ومعنى ذلك أن الشيء الكثير الذي له بال يخاف عليه الضياع إن تركه فأخذه له على وجه التعريف به والحفظ له إلى أن يجده صاحبه من أعمال البر . وأما الشيء اليسير فإنه في الأغلب يؤمن عليه فإن من يجده لا يسرع إليه وبقاؤه مكانه أقرب إلى أن يعود صاحبه فيجده ، ولو أخذه الملتقط لتكلف من تعريفه ما عليه فيه مشقة وربما ضيع ذلك لقلة اللقطة وتفاهتها وإن العادة جارية بأن من سمع خبرها لا يكاد أن يبلغه ولا يتحدث بخبره بخلاف اللقطة التي لها بال فإن العادة جارية بأن من سمع خبرها غفلة تحدث به حتى يصل خبرها إلى صاحبها ، وأما من التقط مثل المخلاة ، أو الدلو ، أو الحبل أو شبه ذلك فقد قال مالك في العتبية : إن كان في طريق وضع ذلك في أقرب الأماكن إليه يعرف به ، وإن كان في مدينة فلينتفع به ويعرفه وأحب إلي لو تصدق به فإن جاء صاحبه أداه إليه . وفي سماع أشهب فيمن وجد العصا ، أو السوط قال لا يأخذه فإن أخذه عرفه فإن لم يعرفه أرجو أن يكون خفيفا ، ولو وجد بقرية عرف بها فإن عرفت وإلا تصدق بها وضمن قيمتها لربها ومعنى ذلك أنه إذا كان بطريق وضع ذلك في أقرب الأماكن إليه يعرف به ؛ لأن ذلك هو الموضع الذي يمكن صاحبه أن يطلبه فيه بنفسه أو بوصيته وعليه يسلك من يسمع التعريف ممن يمضي إلى موضع صاحب اللقطة في الأغلب فيكون أقرب إلى معرفة صاحبه به ، وأما إن كان بمدينة فلا يخرج اللقطة عنها ؛ لأن صاحبها بها يطلبها كان منها ، أو غيرها وأباح له الانتفاع بها إن كان ذلك لا يتلفها ولا ينقصها قبل الحول ، وأما بعد الحول فعلى وجه الضمان لها ، وقد روى سويد بن غفلة قال كنت مع سليمان بن ربيعة وزيد بن صوحان في غزوة فوجدت سوطا فقالا لي : ألقه قلت : لا ولكني إن وجدت صاحبه وإلا استمتعت به فلما رجعنا حججنا فمررنا بالمدينة فسألت أبي بن كعب فقال وجدت صرة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيها مائة دينار فأتيت بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال : عرفها حولا فعرفتها حولا ثم أتيت إليه فقال : عرفها حولا ، ثم عرفتها حولا ثم أتيته فقال : عرفها حولا ، ثم أتيته الرابعة فقال : اعرف عدتها ووكاءها ووعاءها فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها وقال بعد ذلك سويد بن غفلة لا أدري ثلاثة أحوال ، أو حولا واحدا .
( مسألة ) فإن أخذ اللقطة فإن ذلك لا يخلو من أحد وجهين : أحدهما : أن يأخذها ولا يريد التقاطها ، والثاني : أن يأخذها ملتقطا لها ، فأما الأول فأن يجد ثوبا فيظنه لقوم بين يديه فيأخذه فيسألهم عنه فلا يدعونه فهذا الذي له رده حيث وجده ولا ضمان عليه فيه قاله ابن القاسم ورواه ابن وهب عن مالك ؛ لأنه لم يصر في يده ولا تعدى عليه ، وإنما أعلم به من ظن أنه له ولم يلتزم فيه حكم اللقطة والوجه الثاني أن يأخذها ملتقطا لها وبذا قد لزمه عند ابن القاسم حفظها وتعريفها فإن ردها بعد أن أخذها قال ابن القاسم يضمنها ، وقال أشهب لا يضمنها إن ردها في موضعها بقرب ذلك أو بعده فلا إشهاد عليه في ردها وعليه اليمين لردها في موضعها فإن ردها في غير موضعها ضمن . وجه القول الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم عليه بالتعريف بها فإن جاء صاحبها أداها إليه ولم يقل له اتركها في موضعها كما قال في ضالة الإبل مالك ولها ولأنه لما قبضها ملتقطا لها ، وقد أزالها عن الغرر إلى حالة يؤمن عليها فيها فإن ردها إلى موضعها فقد أعادها إلى الغرر فعليه ضمانها كمن أخرج صبيا لغيره من بئر يخاف عليه فيها الهلاك ثم رده فيها فهلك فإنه يضمن ، أو أخرج ثوبا من النار قبل أن يحترق ثم رده في النار فاحترق ، ووجه قول أشهب أنه لم يأخذها على وجه التعدي والضمان فإذا أعادها إلى موضعها فتلفت فيه فذلك بمنزلة أن يتركها فيه أولا فتلفت فيه فلا ضمان عليه كضالة الإبل ..
( مسألة ) ولو دفع الملتقط اللقطة إلى غيره يعرفها فضاعت فلا شيء على الملتقط قاله ابن القاسم قال ابن كنانة ، وكذلك لو قال له اعمل بها ما شئت ، ووجه ذلك أن يكون دفعها إلى مثله في الثقة والأمانة ، وقد روي ذلك عن ابن القاسم وإذا قال له اصنع بها ما شئت ، وذلك أن يكون دفعها إلى مثله فهو قد أعلمه بأصلها فلا يؤثر قوله له اعمل بها ما شئت ؛ لأنه ليس للثاني أن يعمل بها إلا ما للأول ، وإنما جاز في اللقطة أن يخرجها عن يده لغير ضرورة ولم يجز ذلك في الوديعة ؛ لأن المودع دفع إليه الوديعة صاحبها ولم يرض إلا بأمانته فهو متعد إن دفعها إلى غيره ، وأما اللقطة فلم يأخذها باختيار صاحبها فكانت حاله وحال من هو مثله في الأمانة سواء ؛ لأن صاحبها لم يعينه لحفظها .
( مسألة ) ولو ادعى الملتقط ضياع اللقطة فقد قال ابن القاسم : لا شيء عليه قال أشهب وابن نافع : عليه اليمين قال أشهب : وإن ادعى صاحبها فيها أنه التقطها ليذهب بها فهو مصدق في قوله التقطتها لأعرف بها فلا يمين ، ووجه ذلك أن يده يد أمانة فلا ضمان عليه في الضياع ولا طريق إلى معرفة ما في نفسه من التعريف بها ، أو غيره فلو ألزمناه اليمين لارتفع أهل العدالة والخير عن حفظ لقطة ليدفع عن نفسه اليمين إذ لا طريق إلى دفع ذلك عن نفسه والاطلاع على ضميره فلم يجب عليه يمين ..
( فصل ) وقوله صلى الله عليه وسلم اعرف عفاصها ووكاءها قال ابن القاسم العفاص الخرقة والخريطة والوكاء الخيط الذي تربط به ، وقال عمر بن عيسى الأعشى وعن أشهب في النوادر العفاص والرباط والوكاء ما فيه اللقطة من خرقة ، أو غيرها والذي قاله ابن القاسم أصح ؛ لأن الوكاء في كلام العرب ما يربط به ، وكذلك روي في حديث أبي المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له اعرف عدتها ووعاءها ووكاءها فجعل مكان العفاص الوعاء وأثبت الوكاء الذي يوكأ به الوعاء فصح أنه الخيط الذي يربط به .
( فصل ) وقوله : اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة معناه عندي - والله أعلم - أن يحفظ صفة العفاص والوكاء ويكتم ذلك لينفرد بحفظه وفي النوادر لابن نافع عن مالك أنه قال ينبغي للذي يعرف اللقطة أن لا يريها أحدا ولا يسميها بعينها ولا يقول من يعرف دنانير ، أو دراهم ، أو حليا ، أو عرضا لكن يعمي ذلك لئلا يأتي مستحل فيصفها بصفة المعرف فيأخذها ويبين ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها ولم يقل ثم عرف بذلك ولا أبرزها وأظهرها ، ولو جاز له أن يذكر صفتها لما احتاج إلى حفظ العفاص والوكاء ولأغنى عن ذلك إظهارها والله أعلم وأحكم ..
( فصل ) وقوله ثم عرفها سنة قدر في حديث زيد بن خالد مدة التعريف بالسنة وفي حديث أبي أنه أمره بذلك ثلاث مرات ثم شك في ثلاثة ، أو واحدة فإن ثبتت الأعوام الثلاثة في حديث أبي دون شك فلم يأمره كل مرة إلا بالتعريف سنة ومعنى ذلك أن يكون الأصل حديث زيد بن خالد الجهني ؛ لأنه سالم من الشك وحديث أبي شك فيه الراوي ، والثاني : أن يجمع بين الحديثين فإن السائل في حديث زيد بن خالد هو أعرابي ، وكذلك رواه سفيان الثوري عن ربيعة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالحق الواجب الذي لا يستبيح اللقطة دونه وأبي بن كعب من فقهاء الصحابة وفضلائهم ومن أهل الورع والزهد فندبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوقيف عنها أعواما ، وإن كانت مباحة له بعد أول عام لكن مثل أبي من أهل العلم والورع لا يسرع إلى أكل ما هو مباح بل يتوقف عنه ويستظهر فيه ومن جهة المعنى أن الحول قد جعل في الشريعة مدة للاختبار كاختبار العين وما جرى مجرى ذلك ، وهذا في الأغلب مما تتصل فيه الأنباء وترد فيه الأخبار والله أعلم وأحكم ..
( مسألة ) وصفة التعريف قال ابن نافع عن مالك يعرفها كل يومين ، أو ثلاثة وكلما يتفرغ ولا يجب عليه أن يدع التصرف في حوائجه ويعرفها .
( مسألة ) وقوله فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها يريد والله أعلم من تعلم أنه صاحبها ، أو يغلب على ظنك أنه صاحبها ببينة ، أو بإخباره عما أمرت بحفظه من صفاتها فتدفعها إليه ، وقال الشافعي لا يدفع إلا إلى من يقيم بينة بها والدليل على ما نقوله قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه البخاري عن سفيان عن ربيعة عرفها سنة ثم اعرف عفاصها ووكاءها فإن جاء أحد يخبرك بعفاصها ووكائها وإلا فاستنفق بها ، وهذا نص في موضع الخلاف وهذه فائدة حفظ صفة العفاص والوكاء أن يكون من أتى فأخبر عنها بذلك أنه صاحبها ودفعت إليه أن الأغلب من حالها أنه لا يأتي بصفتها إلا صاحبها ومن جهة المعنى أنه لا يقدر أحد أن يشهد على كل ما معه من ماله وما يخرج به من نفقته فلم ترد لقطة إلا على من يقيم بها بينة لذهب أكثر ذلك بل جميعه فلا يكاد أن يقوم شيء منه ببينة .
( مسألة ) والمراعى فيما يصف من ذلك صفة العفاص والوكاء والعدد إن كانت دراهم أو دنانير قاله ابن القاسم وأشهب وعند أصبغ العفاص والوكاء وأصل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب اعرف عدتها ووكاءها ووعاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها فأمر باعتبار هذه الثلاثة فمن وصفها استحق اللقطة ومن جهة المعنى أن الغالب من أحوال الناس معرفة صاحبها صفة وعاء الدراهم وصفة الوكاء وكثير من الناس يعرف العدد إن كانت معدودة أو الوزن إن كانت موزونة وظاهر قول أصبغ مبني على التعلق بحديث زيد بن خالد وليس فيه ذكر العدد .
( فرع ) وهل يلزم مع هذا يمين أم لا ؟ المشهور من المذهب وهو الظاهر من قول ابن القاسم أن لا يمين عليه ، وقال أشهب : إن وصف ذلك كله لم يأخذها إلا بيمينه أنها له ، وجه قول ابن القاسم أنه ليس هناك من ينازعه فيها ولا من ينازع عنه فلا معنى لهذه اليمين ولأنها لو كانت اليمين تجب لغائب لم يصح إلا بأمر حاكم ، ووجه قول أشهب أن هذا نوع من الاستحقاق من يد مدع .
( فرع ) وهل من شرط دفعها إليه أن يأتي بهذه الصفات الثلاث قال محمد بن عبد الحكم : لو أصاب تسعة أعشار الصفة وأخطأ العشر لم يعطها إلا في معنى واحد أن يصف عددا فيوجد أقل ، وقال أشهب إن عرف منها وصفين ولم يعرف الثالث دفعت إليه ، وقال أصبغ إن عرف العفاص وحده فليستبرأ فإن جاء أحد وإلا أعطيها ، وما ذكر في الحديث اعرف العفاص والوكاء ليس على أن يستحقها إلا بمعرفتها كما جاز في شرط الخليطين أصناف تجرى وإن انخرم بعضها فالظاهر من قول أشهب أنه لا يعطاها بأقل من وصفين أنه أقل ما يعتبر في الحديث قال الشيخ أبو محمد ، وقد رأيت لبعض أصحابنا لا يأخذها إلا بمعرفة العفاص والوكاء وقول أصبغ ظاهر في أنه يعطاها من أتى بالصفة الواحدة من الصفتين المتقدمتين ولا يبعد أن يكون مذهب ابن عبد الحكم موافقا له ؛ لأنه إنما امتنع من دفعها إليه إذا أخطأ في الصفة بأن وصف شيئا من ذلك بغير صفته . وقد اختلف في هذا قول أصبغ فقال إن قال في خرقة حمراء وخيط أصفر فوجدت الخرقة حمراء والخيط أسود فقال يستبرأ أيضا أمرها ثم رجع ثم قال هذا كذب نفسه في ادعائه المعرفة فلا يصدق ، وإنما يصدق لو أصاب في بعض وادعى الجهالة في بعض ، وهذا الذي قال أشهب يدفع إليه ؛ لأنه قد سمى بعض الصفات ، وقد قال أشهب لو أخطأ في صفتها لم يعطها فإن وصفها مرة أخرى فأصابها لم يعطها ، ووجه ذلك أن هذا خارج إلى حد التخمين والحزر ؛ لأنه إذا وصف صفة فأخطأ فلا بد أن يصادف فيأخذ ما ليس له فذلك يؤخذ بأول قوله ، ووجه قول أصبغ أنها صفات ورد الشرع باعتبارها فجاز أن يقتصر على بعضها كصفات الخلطاء ..
( مسألة ) ولو عرف رجل عفاصها ووكاءها ، أو وكاءها وحده وعرف آخر عدد الدنانير ووزنها كانت لمن عرف العفاص والوكاء ، أو الوكاء وحده قاله في العتبية أصبغ وزاد ابن حبيب عنه أنه قال ولكني أستحسن أن يقسم بينهما كما لو اجتمعا على معرفة العفاص والوكاء ويتحالفان فإن نكل واحد منهما دفعت إلى الحالف ، وهذا جنوح منه إلى إلحاق معرفة العدد بمعرفة العفاص والوكاء .
( مسألة ) ، وأما معرفة سكة الدنانير ، أو الدراهم فقد قال سحنون في كتاب ابنه إذا وصف سكة دنانير اللقطة طالبها لم يستحقها بذلك حتى يذكر علامة فيها غير السكة ، وقال يحيى بن عمر ما يتبين لي قول سحنون وأرى إذا وصف السكة في الدينار وذكر نقص الدنانير إن كان فيها نقص فأجاب بذلك أنه يأخذها ، وجه قول سحنون أن السكة إذا كانت واحدة بالبلد فهو بمنزلة أن يقول هي دنانير فهذا لا يستحق به شيئا ؛ لأن الغالب إذا كانت دنانير أن تكون من سكة البلد الذي لا يجري فيها غيرها ، وإنما يكون ذلك لو كانت سكة شاذة ليست بمعروفة فيها ، ولذلك اشترط سحنون زيادة علامة في دينار من الدنانير مما لا يكون معتادا ولعله هذا الذي أراد يحيى بن عمر ، أو يكون ببلد فيه سكك مختلفة على أنه اشترط مع ذلك أن يعرف نقص بعض الدنانير وهذه علامة زائدة على معرفة السكة كالتي شرط سحنون والله أعلم وأحكم ..
( فصل ) وقوله فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها معناه والله أعلم فإن جاء صاحبها وهو الذي يصفها أخذها على حسب ما تقدم ، وهذا إذا كان الذي وصفها واحدا فإن وصفها رجلان وتساويا في صفتها حلفا وتقاسماها ، ومن نكل منهما فهي للآخر فإن وصفها أحدهما فأخذها ثم آتى آخر فوصفها قال ابن القاسم لا يدفع الدافع إليه شيئا وقاله أشهب وزاد أنه إن كان الثاني وصفها فلا شيء له ، وإن أتى ببينة والأول واصف فصاحب البينة أحق بها ومعنى ذلك أن الأول قد صارت له يد فإذا تساويا كان أحق بها لليد المتقدمة ، وإن أقام الثاني بينة بالملك فبينة الملك أقوى من اليد والله أعلم وأحكم ..
( فصل ) وقوله فشأنك بها إباحة التصرف فيها لما رآه من إنفاق ، أو صدقة أو التمادي على الحفظ ، وقد روى البخاري من طريق إسماعيل بن جعفر عن ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عرفها سنة ثم اعرف وكاءها وعفاصها ثم استنفق بها ، وإن جاء ربها فأدها إليه ، وروى سويد بن غفلة في حديث أبي أنه أمره بتعريفها حولا بعد حول فدل ذلك على جواز الاستنفاق على معنى الاستسلاف لها وأنه متى أتى صاحبها كان له أخذها ورأى مالك وابن القاسم أن أفضل ذلك أن يتصدق بها فإن جاء صاحبها أداها إليه ، وإن لم يأت كان له أخذها ؛ لأن ذلك أنزه وأبرأ من التسرع إليها وترك الاجتهاد في تعريفها ، ومن استنفقها بعد الاجتهاد في التعريف على ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فلا إثم عليه ومتى أتى صاحبها أداها إليه قال صلى الله عليه وسلم فإن جاء صاحبها فأدها إليه قال ابن وهب فإن مات ولا شيء له فهو في سعة إن شاء الله ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له في أكلها .
( مسألة ) وهذا في الشيء الذي له مقدار فأما الشيء التافه الذي لا قدر له ويعلم أن صاحبه لا يتبعه فلا تعريف فيه ، وقد قال أشهب في الذي يجد العصا والسوط يعرفانه فإن لم يعرف به فأرجو أن يكون خفيفا ومعنى ذلك أن لا ثمن له إلا بعض الدرهم ، وقال أشهب في الدرهم وما أشبهه : لا بأس أن يتصدق به قبل السنة وأصل هذا ما روى طلحة بن مطرف عن أنس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق فقال : لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه إنما امتنع من أكلها مخافة أن تكون من الصدقة ولا تحل له الصدقة ولم يذكر تعريفها .
( مسألة ) قال القاضي أبو الوليد رضي الله عنه : وهذا عندي حكم لقطة كل بلد إلا مكة فإن لقطتها لا تستباح بعد التعريف سنة وعلى صاحبها أن يعرف أبدا والدليل على ذلك ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إنها لا تحل لأحد بعدي لا ينفر صيدها ولا يختلى خلاها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد فخص مكة بهذا الحكم وحرم ساقطتها على منتفع بها ، أو متصدق بها وجعلها لمن ينشدها خاصة ومن جهة المعنى أن مكة يردها الناس من كل أفق بعيد فهو في تعريفها أبدا يرجو أن يصل الخبر إلى البلاد النائية ويتمكن لمن وصل إليه الخبر أن يرد الخبر لطلبها ، أو يستنيب في ذلك فأما في سائر البلاد فإنه إذا طال أمدها ولم يأت من يتعرفها فإن الظاهر أن صاحبها قد انقطع خبره بموت ، أو بعد لا يرجى والله أعلم وأحكم .
( فصل ) وقوله فضالة الغنم قال صلى الله عليه وسلم هي لك ، أو لأخيك ، أو للذئب قال عيسى بن دينار : إن ذلك في القفار ، أو البعيد من القرى وحيث إن تركها أكلها السبع وهي معنى قوله هي لك ، أو لأخيك ، أو للذئب يريد والله أعلم أن صاحبها لا يرجى رجوعه إليها إن أخذتها أنت وإلا أخذها أخوك من المسلمين ، أو أكلها السبع ومعنى ذلك والله أعلم إباحة أخذها وأكلها .
( مسألة ) إذا ثبت ذلك فإن اللقطة على ثلاثة أضرب : ضرب يبقى في يد من يحفظه ويخاف عليه الضياع مع الترك كالثياب والدنانير والدراهم والعروض ، وضرب لا يبقى في يد من يحفظه ويخاف عليه الضياع مع الترك كالشاة في الفلاة فإن كانت في خربة ، أو موضع يجد من يحفظها في غنمه فإن لها حكم اللقطة التي تبقى يعرفها سنة وضرب ثالث لا يخاف عليها الضياع كالإبل فهذا سيأتي ذكره إن شاء الله .
( مسألة ) ومن وجد شاة بفلاة فنقلها إلى عمران فإن كان نقلها حية كان حكمها حكم اللقطة يلزمه التعريف ، وإن ذبحها ونقلها فقد قال أصبغ في العتبية له أكلها غنيا كان عنها ، أو فقيرا ويصير لحمها وجلدها مالا من ماله فإن جاء صاحبها بعد ذلك فلا ضمان عليه إلا أن يجد في يده ذلك فيكون أحق به ، ووجه ذلك أنه قد حازها بالذبح كما لو طبخها وصيرها طعاما قبل أن ينقلها .
( مسألة ) ومما لا يبقى بيد من يحفظه الطعام الذي لا يبقى من الفواكه والأدم فهذا إن كان في فلاة ، أو في غير موضع عمارة فحكمه حكم الشاة توجد بالفلاة ؛ لأن الشاة ، وإن كانت تبقى فلا يمكن من وجدها أن يقيم عليها ولا أن يحملها وهذا الطعام ، وإن كان خفيفا يمكن من حملها فإنه لا يبقى بيد من حمله ، وكذلك روى ابن حبيب عن مطرف قال وأكله أفضل من طرحه فيضيع ، وأما إن كان في الحضر وحيث الناس فيتصدق به أحب إلي من أكله فإن تصدق به لم يضمنه ، وإن أكله ضمنه ، وقال أشهب أما في غير الفيافي فيبيعه ويعرف به فإن جاء صاحبه دفع إليه ثمنه ليس له غير ذلك ، وروى ابن مزين عن عيسى فيمن وجد ما لا يبقى من الطعام في فلاة ، أو حاضرة فعرفه ثم أكله ، أو تصدق به ثم جاء صاحبه فلا شيء له عليه ، ووجه ذلك ما قدمناه أنه إذا كان بفلاة فلا صنع له فيه إلا أكله ، وذلك خير من تضييع نعمة من نعم الله تعالى ، وأما إن كان بغير فلاة فإنه على قول مطرف يتصدق به ولا يلزمه بيعه ؛ لأن البيع مما لا يلزم الملتقط ، وإنما يلزمه الحفظ ما أمكنه وعلى قول أشهب يبيعه ؛ لأنه لما تعذر عليه حفظ عين اللقطة عاد إلى حفظ ثمنها ؛ لأنه بدل منها .
( فصل ) وقوله للذي سأله عن ضالة الإبل : ما لك ولها ؟ يحتمل أن يكون معناه المنع من أخذها وضمانها فإن اللقطة إنما تؤخذ على معنى الحفظ لصاحبها وهي مما لا يسرع التلف إليها ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم معها سقاؤها قال عيسى معناه أنها تصبر عن الماء ثلاثة أيام وأكثر حتى تجد سبيلا إلى الورود فجعل صبرها عن الماء بمعنى السقاء وحذاؤها قال عيسى معناه أخفافها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها بها نبهه على أنها تمتنع من عوادي السباع في الأغلب وأنها مع وردها الماء وأكلها من الشجر الذي لا يعدمها ستبقى بامتناعها إلى أن يلقاها ربها فيأخذها والتقاطها يمنع صاحبها من وجودها ويضربه في طلبها ؛ لأنه قد يطلبها في الجبال ومواضع الماء والشجر فإن منعت من تلك المواضع لم يجدها ربها ويحتمل أن يكون معنى قوله : ما لك ولها ؟ المنع من التصرف فيها بعد تعريفها ؛ لأن من التقط ثوبا أو دنانير تكلف حفظها مدة سنة مع خوف الضياع عليها إن لم يأخذها من وجدها فلذلك كان له الانتفاع بها بعد تكلف تعريفها . وأما من وجد ضالة الإبل فتكلف حفظها فقد تكلف ما يستغنى عنه فيه بل ربما استضربه ، وإن كانت فيه منفعة فنادرة ويسيرة غير مخلصة من مضرة الإنفاق عليها فلذلك لم يكن له الانتفاع بعد تعريفها ويحتمل عندي أن يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم في ضالة الغنم هي لك ، أو لأخيك ، أو للذئب فنهى عن أخذها على هذا الوجه وهو ممنوع باتفاق .
( فرع ) فإذا قلنا بالوجه الأول فمعناه أنه إذا أبيح للناس أخذها تسرع إلى أكلها في ذلك بالأمراض والخوف عليها ، ومن أخذها احتاج إلى الإنفاق عليها وهي إذا كانت في مواضعها لم يخف عليها التسرع إلى أكلها ولا احتيج إلى الإنفاق عليها والحفظ لها ، وهذا كان حكم ضوال الإبل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لما كان يؤمن عليها ، فلما كان في زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما ولم يؤمن عليهما لما كثر في المسلمين ممن لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم وكثر تعديهم عليها أباحوا أخذها لمن التقطها ورفعها إليهم ولم يروا ردها إلى موضعها ، وقد كان عمر بن الخطاب أمر ثابت بن الضحاك بتعريفها ثم أباح له ردها إلى موضعها ، وإنما اختلفت الأحكام في ذلك لاختلاف الأحوال . وقد قال مالك فيمن وجد بعيرا فليأت به الإمام يبيعه يجعل ثمنه في بيت المال قال أشهب إذا كان الإمام عدلا ومعنى ذلك أنه أمن عليها من يتعدى فيها فيتركها في موضعها أفضل ؛ لأنه يؤمن عليها ضياعها من غير هذا الوجه ويستغنى عن الإنفاق عليها والتمون لها وقصد صاحبها إلى ذلك الموضع وتتبع أثرها منه أيسر عليه من طلبها في الآفاق البعيدة ؛ لأنه لا يدري من أواها قريب الدار ، أو بعيدها فإن خاف عليها متعديا يتلف عينها كان أخذها ورفعها إلى الإمام ينظر فيها لصاحبها أفضل له وآمن عليه والله أعلم وأحكم ، وهذا معنى ما روي عن عمر بن عبد العزيز يحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور .
( مسألة ) وأما الخيل والبغال والحمير فقد سئل عنها ابن القاسم لا تؤكل فمن التقطها عرفها فإن جاء ربها أخذها ، وإن لم يجئ ربها فأرى أن يتصدق بها ، وقال أشهب في كتبه لا تؤخذ الخيل ولا البغال ولا الحمر فإن أخذها عرفها سنة ثم تصدق بها فقال ابن كنانة لا ينبغي لأحد أن يأخذ الدابة الضالة ولا يتعرض لها فالظاهر من قول ابن القاسم إباحة أخذها ؛ لأنها لا تؤكل ولا تسرع الأيدي إلى أكلها إذا أمن حفظها كما يخاف ذلك في الإبل ، ووجه قول أشهب وابن كنانة أنه حيوان يمتنع بنفسه ويبقى دون من يحفظه فلا تلتقط كالإبل .
( مسألة ) وأما البقر ففي المدونة إن كانت بموضع يخاف عليها فهي بمنزلة الغنم ، وإن كانت بموضع لا يخاف عليها السباع ولا الذئاب فهي بمنزلة الإبل ونحو ذلك قال أشهب ، وقال ابن حبيب عن مطرف عن مالك في ضالة البقر والغنم إذا وجدها بالفلاة فله أكلها ولا يضمنها لربها ، وإن كانت بقرب العمران ضمنها إليه وعرفها فجعلها ابن القاسم بمنزلة الإبل إذا لم يخف عليها وألحقها مالك بالغنم في ضعفها عن الامتناع عند انفرادها ، وإنما يكون فيها بعض المنفعة عند اجتماعها إلا أن يكون إيصالها إلى العمران أيسر من إيصال الغنم ففي مثل هذا يخالف حكمها حكم الغنم .
والله أعلم
رواه البخاري في صحيحه ومالك في الموطأ واللفظ له
شرح الحديث الشريف
قوله جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة يحتمل أن يكون سأله عن جواز أخذها ويحتمل أن يكون سأله عن حكمها وما يلزم فيها وما يجوز لمن أخذها ، فأما جواز أخذها فقد روى نافع عن ابن عمر أنه كان يمر باللقطة فلا يأخذها وفي العتبية من سماع ابن القاسم عن مالك أنه قال لا أحب أن يأخذها من وجدها إلا أن يكون لها قدر ، وقال في موضع آخر ، أو لذي رحمه وأما الشيء الذي له بال فأرى له أخذه وروى عنه أشهب أما الدنانير وشيء له بال فأحب إلي أن يأخذه وليس كالدرهم وما لا بال له لا أحب له أن يأخذ الدرهم ومعنى ذلك أن الشيء الكثير الذي له بال يخاف عليه الضياع إن تركه فأخذه له على وجه التعريف به والحفظ له إلى أن يجده صاحبه من أعمال البر . وأما الشيء اليسير فإنه في الأغلب يؤمن عليه فإن من يجده لا يسرع إليه وبقاؤه مكانه أقرب إلى أن يعود صاحبه فيجده ، ولو أخذه الملتقط لتكلف من تعريفه ما عليه فيه مشقة وربما ضيع ذلك لقلة اللقطة وتفاهتها وإن العادة جارية بأن من سمع خبرها لا يكاد أن يبلغه ولا يتحدث بخبره بخلاف اللقطة التي لها بال فإن العادة جارية بأن من سمع خبرها غفلة تحدث به حتى يصل خبرها إلى صاحبها ، وأما من التقط مثل المخلاة ، أو الدلو ، أو الحبل أو شبه ذلك فقد قال مالك في العتبية : إن كان في طريق وضع ذلك في أقرب الأماكن إليه يعرف به ، وإن كان في مدينة فلينتفع به ويعرفه وأحب إلي لو تصدق به فإن جاء صاحبه أداه إليه . وفي سماع أشهب فيمن وجد العصا ، أو السوط قال لا يأخذه فإن أخذه عرفه فإن لم يعرفه أرجو أن يكون خفيفا ، ولو وجد بقرية عرف بها فإن عرفت وإلا تصدق بها وضمن قيمتها لربها ومعنى ذلك أنه إذا كان بطريق وضع ذلك في أقرب الأماكن إليه يعرف به ؛ لأن ذلك هو الموضع الذي يمكن صاحبه أن يطلبه فيه بنفسه أو بوصيته وعليه يسلك من يسمع التعريف ممن يمضي إلى موضع صاحب اللقطة في الأغلب فيكون أقرب إلى معرفة صاحبه به ، وأما إن كان بمدينة فلا يخرج اللقطة عنها ؛ لأن صاحبها بها يطلبها كان منها ، أو غيرها وأباح له الانتفاع بها إن كان ذلك لا يتلفها ولا ينقصها قبل الحول ، وأما بعد الحول فعلى وجه الضمان لها ، وقد روى سويد بن غفلة قال كنت مع سليمان بن ربيعة وزيد بن صوحان في غزوة فوجدت سوطا فقالا لي : ألقه قلت : لا ولكني إن وجدت صاحبه وإلا استمتعت به فلما رجعنا حججنا فمررنا بالمدينة فسألت أبي بن كعب فقال وجدت صرة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيها مائة دينار فأتيت بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال : عرفها حولا فعرفتها حولا ثم أتيت إليه فقال : عرفها حولا ، ثم عرفتها حولا ثم أتيته فقال : عرفها حولا ، ثم أتيته الرابعة فقال : اعرف عدتها ووكاءها ووعاءها فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها وقال بعد ذلك سويد بن غفلة لا أدري ثلاثة أحوال ، أو حولا واحدا .
( مسألة ) فإن أخذ اللقطة فإن ذلك لا يخلو من أحد وجهين : أحدهما : أن يأخذها ولا يريد التقاطها ، والثاني : أن يأخذها ملتقطا لها ، فأما الأول فأن يجد ثوبا فيظنه لقوم بين يديه فيأخذه فيسألهم عنه فلا يدعونه فهذا الذي له رده حيث وجده ولا ضمان عليه فيه قاله ابن القاسم ورواه ابن وهب عن مالك ؛ لأنه لم يصر في يده ولا تعدى عليه ، وإنما أعلم به من ظن أنه له ولم يلتزم فيه حكم اللقطة والوجه الثاني أن يأخذها ملتقطا لها وبذا قد لزمه عند ابن القاسم حفظها وتعريفها فإن ردها بعد أن أخذها قال ابن القاسم يضمنها ، وقال أشهب لا يضمنها إن ردها في موضعها بقرب ذلك أو بعده فلا إشهاد عليه في ردها وعليه اليمين لردها في موضعها فإن ردها في غير موضعها ضمن . وجه القول الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم عليه بالتعريف بها فإن جاء صاحبها أداها إليه ولم يقل له اتركها في موضعها كما قال في ضالة الإبل مالك ولها ولأنه لما قبضها ملتقطا لها ، وقد أزالها عن الغرر إلى حالة يؤمن عليها فيها فإن ردها إلى موضعها فقد أعادها إلى الغرر فعليه ضمانها كمن أخرج صبيا لغيره من بئر يخاف عليه فيها الهلاك ثم رده فيها فهلك فإنه يضمن ، أو أخرج ثوبا من النار قبل أن يحترق ثم رده في النار فاحترق ، ووجه قول أشهب أنه لم يأخذها على وجه التعدي والضمان فإذا أعادها إلى موضعها فتلفت فيه فذلك بمنزلة أن يتركها فيه أولا فتلفت فيه فلا ضمان عليه كضالة الإبل ..
( مسألة ) ولو دفع الملتقط اللقطة إلى غيره يعرفها فضاعت فلا شيء على الملتقط قاله ابن القاسم قال ابن كنانة ، وكذلك لو قال له اعمل بها ما شئت ، ووجه ذلك أن يكون دفعها إلى مثله في الثقة والأمانة ، وقد روي ذلك عن ابن القاسم وإذا قال له اصنع بها ما شئت ، وذلك أن يكون دفعها إلى مثله فهو قد أعلمه بأصلها فلا يؤثر قوله له اعمل بها ما شئت ؛ لأنه ليس للثاني أن يعمل بها إلا ما للأول ، وإنما جاز في اللقطة أن يخرجها عن يده لغير ضرورة ولم يجز ذلك في الوديعة ؛ لأن المودع دفع إليه الوديعة صاحبها ولم يرض إلا بأمانته فهو متعد إن دفعها إلى غيره ، وأما اللقطة فلم يأخذها باختيار صاحبها فكانت حاله وحال من هو مثله في الأمانة سواء ؛ لأن صاحبها لم يعينه لحفظها .
( مسألة ) ولو ادعى الملتقط ضياع اللقطة فقد قال ابن القاسم : لا شيء عليه قال أشهب وابن نافع : عليه اليمين قال أشهب : وإن ادعى صاحبها فيها أنه التقطها ليذهب بها فهو مصدق في قوله التقطتها لأعرف بها فلا يمين ، ووجه ذلك أن يده يد أمانة فلا ضمان عليه في الضياع ولا طريق إلى معرفة ما في نفسه من التعريف بها ، أو غيره فلو ألزمناه اليمين لارتفع أهل العدالة والخير عن حفظ لقطة ليدفع عن نفسه اليمين إذ لا طريق إلى دفع ذلك عن نفسه والاطلاع على ضميره فلم يجب عليه يمين ..
( فصل ) وقوله صلى الله عليه وسلم اعرف عفاصها ووكاءها قال ابن القاسم العفاص الخرقة والخريطة والوكاء الخيط الذي تربط به ، وقال عمر بن عيسى الأعشى وعن أشهب في النوادر العفاص والرباط والوكاء ما فيه اللقطة من خرقة ، أو غيرها والذي قاله ابن القاسم أصح ؛ لأن الوكاء في كلام العرب ما يربط به ، وكذلك روي في حديث أبي المتقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له اعرف عدتها ووعاءها ووكاءها فجعل مكان العفاص الوعاء وأثبت الوكاء الذي يوكأ به الوعاء فصح أنه الخيط الذي يربط به .
( فصل ) وقوله : اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة معناه عندي - والله أعلم - أن يحفظ صفة العفاص والوكاء ويكتم ذلك لينفرد بحفظه وفي النوادر لابن نافع عن مالك أنه قال ينبغي للذي يعرف اللقطة أن لا يريها أحدا ولا يسميها بعينها ولا يقول من يعرف دنانير ، أو دراهم ، أو حليا ، أو عرضا لكن يعمي ذلك لئلا يأتي مستحل فيصفها بصفة المعرف فيأخذها ويبين ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها ولم يقل ثم عرف بذلك ولا أبرزها وأظهرها ، ولو جاز له أن يذكر صفتها لما احتاج إلى حفظ العفاص والوكاء ولأغنى عن ذلك إظهارها والله أعلم وأحكم ..
( فصل ) وقوله ثم عرفها سنة قدر في حديث زيد بن خالد مدة التعريف بالسنة وفي حديث أبي أنه أمره بذلك ثلاث مرات ثم شك في ثلاثة ، أو واحدة فإن ثبتت الأعوام الثلاثة في حديث أبي دون شك فلم يأمره كل مرة إلا بالتعريف سنة ومعنى ذلك أن يكون الأصل حديث زيد بن خالد الجهني ؛ لأنه سالم من الشك وحديث أبي شك فيه الراوي ، والثاني : أن يجمع بين الحديثين فإن السائل في حديث زيد بن خالد هو أعرابي ، وكذلك رواه سفيان الثوري عن ربيعة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالحق الواجب الذي لا يستبيح اللقطة دونه وأبي بن كعب من فقهاء الصحابة وفضلائهم ومن أهل الورع والزهد فندبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوقيف عنها أعواما ، وإن كانت مباحة له بعد أول عام لكن مثل أبي من أهل العلم والورع لا يسرع إلى أكل ما هو مباح بل يتوقف عنه ويستظهر فيه ومن جهة المعنى أن الحول قد جعل في الشريعة مدة للاختبار كاختبار العين وما جرى مجرى ذلك ، وهذا في الأغلب مما تتصل فيه الأنباء وترد فيه الأخبار والله أعلم وأحكم ..
( مسألة ) وصفة التعريف قال ابن نافع عن مالك يعرفها كل يومين ، أو ثلاثة وكلما يتفرغ ولا يجب عليه أن يدع التصرف في حوائجه ويعرفها .
( مسألة ) وقوله فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها يريد والله أعلم من تعلم أنه صاحبها ، أو يغلب على ظنك أنه صاحبها ببينة ، أو بإخباره عما أمرت بحفظه من صفاتها فتدفعها إليه ، وقال الشافعي لا يدفع إلا إلى من يقيم بينة بها والدليل على ما نقوله قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه البخاري عن سفيان عن ربيعة عرفها سنة ثم اعرف عفاصها ووكاءها فإن جاء أحد يخبرك بعفاصها ووكائها وإلا فاستنفق بها ، وهذا نص في موضع الخلاف وهذه فائدة حفظ صفة العفاص والوكاء أن يكون من أتى فأخبر عنها بذلك أنه صاحبها ودفعت إليه أن الأغلب من حالها أنه لا يأتي بصفتها إلا صاحبها ومن جهة المعنى أنه لا يقدر أحد أن يشهد على كل ما معه من ماله وما يخرج به من نفقته فلم ترد لقطة إلا على من يقيم بها بينة لذهب أكثر ذلك بل جميعه فلا يكاد أن يقوم شيء منه ببينة .
( مسألة ) والمراعى فيما يصف من ذلك صفة العفاص والوكاء والعدد إن كانت دراهم أو دنانير قاله ابن القاسم وأشهب وعند أصبغ العفاص والوكاء وأصل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب اعرف عدتها ووكاءها ووعاءها فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها فأمر باعتبار هذه الثلاثة فمن وصفها استحق اللقطة ومن جهة المعنى أن الغالب من أحوال الناس معرفة صاحبها صفة وعاء الدراهم وصفة الوكاء وكثير من الناس يعرف العدد إن كانت معدودة أو الوزن إن كانت موزونة وظاهر قول أصبغ مبني على التعلق بحديث زيد بن خالد وليس فيه ذكر العدد .
( فرع ) وهل يلزم مع هذا يمين أم لا ؟ المشهور من المذهب وهو الظاهر من قول ابن القاسم أن لا يمين عليه ، وقال أشهب : إن وصف ذلك كله لم يأخذها إلا بيمينه أنها له ، وجه قول ابن القاسم أنه ليس هناك من ينازعه فيها ولا من ينازع عنه فلا معنى لهذه اليمين ولأنها لو كانت اليمين تجب لغائب لم يصح إلا بأمر حاكم ، ووجه قول أشهب أن هذا نوع من الاستحقاق من يد مدع .
( فرع ) وهل من شرط دفعها إليه أن يأتي بهذه الصفات الثلاث قال محمد بن عبد الحكم : لو أصاب تسعة أعشار الصفة وأخطأ العشر لم يعطها إلا في معنى واحد أن يصف عددا فيوجد أقل ، وقال أشهب إن عرف منها وصفين ولم يعرف الثالث دفعت إليه ، وقال أصبغ إن عرف العفاص وحده فليستبرأ فإن جاء أحد وإلا أعطيها ، وما ذكر في الحديث اعرف العفاص والوكاء ليس على أن يستحقها إلا بمعرفتها كما جاز في شرط الخليطين أصناف تجرى وإن انخرم بعضها فالظاهر من قول أشهب أنه لا يعطاها بأقل من وصفين أنه أقل ما يعتبر في الحديث قال الشيخ أبو محمد ، وقد رأيت لبعض أصحابنا لا يأخذها إلا بمعرفة العفاص والوكاء وقول أصبغ ظاهر في أنه يعطاها من أتى بالصفة الواحدة من الصفتين المتقدمتين ولا يبعد أن يكون مذهب ابن عبد الحكم موافقا له ؛ لأنه إنما امتنع من دفعها إليه إذا أخطأ في الصفة بأن وصف شيئا من ذلك بغير صفته . وقد اختلف في هذا قول أصبغ فقال إن قال في خرقة حمراء وخيط أصفر فوجدت الخرقة حمراء والخيط أسود فقال يستبرأ أيضا أمرها ثم رجع ثم قال هذا كذب نفسه في ادعائه المعرفة فلا يصدق ، وإنما يصدق لو أصاب في بعض وادعى الجهالة في بعض ، وهذا الذي قال أشهب يدفع إليه ؛ لأنه قد سمى بعض الصفات ، وقد قال أشهب لو أخطأ في صفتها لم يعطها فإن وصفها مرة أخرى فأصابها لم يعطها ، ووجه ذلك أن هذا خارج إلى حد التخمين والحزر ؛ لأنه إذا وصف صفة فأخطأ فلا بد أن يصادف فيأخذ ما ليس له فذلك يؤخذ بأول قوله ، ووجه قول أصبغ أنها صفات ورد الشرع باعتبارها فجاز أن يقتصر على بعضها كصفات الخلطاء ..
( مسألة ) ولو عرف رجل عفاصها ووكاءها ، أو وكاءها وحده وعرف آخر عدد الدنانير ووزنها كانت لمن عرف العفاص والوكاء ، أو الوكاء وحده قاله في العتبية أصبغ وزاد ابن حبيب عنه أنه قال ولكني أستحسن أن يقسم بينهما كما لو اجتمعا على معرفة العفاص والوكاء ويتحالفان فإن نكل واحد منهما دفعت إلى الحالف ، وهذا جنوح منه إلى إلحاق معرفة العدد بمعرفة العفاص والوكاء .
( مسألة ) ، وأما معرفة سكة الدنانير ، أو الدراهم فقد قال سحنون في كتاب ابنه إذا وصف سكة دنانير اللقطة طالبها لم يستحقها بذلك حتى يذكر علامة فيها غير السكة ، وقال يحيى بن عمر ما يتبين لي قول سحنون وأرى إذا وصف السكة في الدينار وذكر نقص الدنانير إن كان فيها نقص فأجاب بذلك أنه يأخذها ، وجه قول سحنون أن السكة إذا كانت واحدة بالبلد فهو بمنزلة أن يقول هي دنانير فهذا لا يستحق به شيئا ؛ لأن الغالب إذا كانت دنانير أن تكون من سكة البلد الذي لا يجري فيها غيرها ، وإنما يكون ذلك لو كانت سكة شاذة ليست بمعروفة فيها ، ولذلك اشترط سحنون زيادة علامة في دينار من الدنانير مما لا يكون معتادا ولعله هذا الذي أراد يحيى بن عمر ، أو يكون ببلد فيه سكك مختلفة على أنه اشترط مع ذلك أن يعرف نقص بعض الدنانير وهذه علامة زائدة على معرفة السكة كالتي شرط سحنون والله أعلم وأحكم ..
( فصل ) وقوله فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها معناه والله أعلم فإن جاء صاحبها وهو الذي يصفها أخذها على حسب ما تقدم ، وهذا إذا كان الذي وصفها واحدا فإن وصفها رجلان وتساويا في صفتها حلفا وتقاسماها ، ومن نكل منهما فهي للآخر فإن وصفها أحدهما فأخذها ثم آتى آخر فوصفها قال ابن القاسم لا يدفع الدافع إليه شيئا وقاله أشهب وزاد أنه إن كان الثاني وصفها فلا شيء له ، وإن أتى ببينة والأول واصف فصاحب البينة أحق بها ومعنى ذلك أن الأول قد صارت له يد فإذا تساويا كان أحق بها لليد المتقدمة ، وإن أقام الثاني بينة بالملك فبينة الملك أقوى من اليد والله أعلم وأحكم ..
( فصل ) وقوله فشأنك بها إباحة التصرف فيها لما رآه من إنفاق ، أو صدقة أو التمادي على الحفظ ، وقد روى البخاري من طريق إسماعيل بن جعفر عن ربيعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عرفها سنة ثم اعرف وكاءها وعفاصها ثم استنفق بها ، وإن جاء ربها فأدها إليه ، وروى سويد بن غفلة في حديث أبي أنه أمره بتعريفها حولا بعد حول فدل ذلك على جواز الاستنفاق على معنى الاستسلاف لها وأنه متى أتى صاحبها كان له أخذها ورأى مالك وابن القاسم أن أفضل ذلك أن يتصدق بها فإن جاء صاحبها أداها إليه ، وإن لم يأت كان له أخذها ؛ لأن ذلك أنزه وأبرأ من التسرع إليها وترك الاجتهاد في تعريفها ، ومن استنفقها بعد الاجتهاد في التعريف على ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فلا إثم عليه ومتى أتى صاحبها أداها إليه قال صلى الله عليه وسلم فإن جاء صاحبها فأدها إليه قال ابن وهب فإن مات ولا شيء له فهو في سعة إن شاء الله ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له في أكلها .
( مسألة ) وهذا في الشيء الذي له مقدار فأما الشيء التافه الذي لا قدر له ويعلم أن صاحبه لا يتبعه فلا تعريف فيه ، وقد قال أشهب في الذي يجد العصا والسوط يعرفانه فإن لم يعرف به فأرجو أن يكون خفيفا ومعنى ذلك أن لا ثمن له إلا بعض الدرهم ، وقال أشهب في الدرهم وما أشبهه : لا بأس أن يتصدق به قبل السنة وأصل هذا ما روى طلحة بن مطرف عن أنس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق فقال : لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه إنما امتنع من أكلها مخافة أن تكون من الصدقة ولا تحل له الصدقة ولم يذكر تعريفها .
( مسألة ) قال القاضي أبو الوليد رضي الله عنه : وهذا عندي حكم لقطة كل بلد إلا مكة فإن لقطتها لا تستباح بعد التعريف سنة وعلى صاحبها أن يعرف أبدا والدليل على ذلك ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إنها لا تحل لأحد بعدي لا ينفر صيدها ولا يختلى خلاها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد فخص مكة بهذا الحكم وحرم ساقطتها على منتفع بها ، أو متصدق بها وجعلها لمن ينشدها خاصة ومن جهة المعنى أن مكة يردها الناس من كل أفق بعيد فهو في تعريفها أبدا يرجو أن يصل الخبر إلى البلاد النائية ويتمكن لمن وصل إليه الخبر أن يرد الخبر لطلبها ، أو يستنيب في ذلك فأما في سائر البلاد فإنه إذا طال أمدها ولم يأت من يتعرفها فإن الظاهر أن صاحبها قد انقطع خبره بموت ، أو بعد لا يرجى والله أعلم وأحكم .
( فصل ) وقوله فضالة الغنم قال صلى الله عليه وسلم هي لك ، أو لأخيك ، أو للذئب قال عيسى بن دينار : إن ذلك في القفار ، أو البعيد من القرى وحيث إن تركها أكلها السبع وهي معنى قوله هي لك ، أو لأخيك ، أو للذئب يريد والله أعلم أن صاحبها لا يرجى رجوعه إليها إن أخذتها أنت وإلا أخذها أخوك من المسلمين ، أو أكلها السبع ومعنى ذلك والله أعلم إباحة أخذها وأكلها .
( مسألة ) إذا ثبت ذلك فإن اللقطة على ثلاثة أضرب : ضرب يبقى في يد من يحفظه ويخاف عليه الضياع مع الترك كالثياب والدنانير والدراهم والعروض ، وضرب لا يبقى في يد من يحفظه ويخاف عليه الضياع مع الترك كالشاة في الفلاة فإن كانت في خربة ، أو موضع يجد من يحفظها في غنمه فإن لها حكم اللقطة التي تبقى يعرفها سنة وضرب ثالث لا يخاف عليها الضياع كالإبل فهذا سيأتي ذكره إن شاء الله .
( مسألة ) ومن وجد شاة بفلاة فنقلها إلى عمران فإن كان نقلها حية كان حكمها حكم اللقطة يلزمه التعريف ، وإن ذبحها ونقلها فقد قال أصبغ في العتبية له أكلها غنيا كان عنها ، أو فقيرا ويصير لحمها وجلدها مالا من ماله فإن جاء صاحبها بعد ذلك فلا ضمان عليه إلا أن يجد في يده ذلك فيكون أحق به ، ووجه ذلك أنه قد حازها بالذبح كما لو طبخها وصيرها طعاما قبل أن ينقلها .
( مسألة ) ومما لا يبقى بيد من يحفظه الطعام الذي لا يبقى من الفواكه والأدم فهذا إن كان في فلاة ، أو في غير موضع عمارة فحكمه حكم الشاة توجد بالفلاة ؛ لأن الشاة ، وإن كانت تبقى فلا يمكن من وجدها أن يقيم عليها ولا أن يحملها وهذا الطعام ، وإن كان خفيفا يمكن من حملها فإنه لا يبقى بيد من حمله ، وكذلك روى ابن حبيب عن مطرف قال وأكله أفضل من طرحه فيضيع ، وأما إن كان في الحضر وحيث الناس فيتصدق به أحب إلي من أكله فإن تصدق به لم يضمنه ، وإن أكله ضمنه ، وقال أشهب أما في غير الفيافي فيبيعه ويعرف به فإن جاء صاحبه دفع إليه ثمنه ليس له غير ذلك ، وروى ابن مزين عن عيسى فيمن وجد ما لا يبقى من الطعام في فلاة ، أو حاضرة فعرفه ثم أكله ، أو تصدق به ثم جاء صاحبه فلا شيء له عليه ، ووجه ذلك ما قدمناه أنه إذا كان بفلاة فلا صنع له فيه إلا أكله ، وذلك خير من تضييع نعمة من نعم الله تعالى ، وأما إن كان بغير فلاة فإنه على قول مطرف يتصدق به ولا يلزمه بيعه ؛ لأن البيع مما لا يلزم الملتقط ، وإنما يلزمه الحفظ ما أمكنه وعلى قول أشهب يبيعه ؛ لأنه لما تعذر عليه حفظ عين اللقطة عاد إلى حفظ ثمنها ؛ لأنه بدل منها .
( فصل ) وقوله للذي سأله عن ضالة الإبل : ما لك ولها ؟ يحتمل أن يكون معناه المنع من أخذها وضمانها فإن اللقطة إنما تؤخذ على معنى الحفظ لصاحبها وهي مما لا يسرع التلف إليها ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم معها سقاؤها قال عيسى معناه أنها تصبر عن الماء ثلاثة أيام وأكثر حتى تجد سبيلا إلى الورود فجعل صبرها عن الماء بمعنى السقاء وحذاؤها قال عيسى معناه أخفافها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها بها نبهه على أنها تمتنع من عوادي السباع في الأغلب وأنها مع وردها الماء وأكلها من الشجر الذي لا يعدمها ستبقى بامتناعها إلى أن يلقاها ربها فيأخذها والتقاطها يمنع صاحبها من وجودها ويضربه في طلبها ؛ لأنه قد يطلبها في الجبال ومواضع الماء والشجر فإن منعت من تلك المواضع لم يجدها ربها ويحتمل أن يكون معنى قوله : ما لك ولها ؟ المنع من التصرف فيها بعد تعريفها ؛ لأن من التقط ثوبا أو دنانير تكلف حفظها مدة سنة مع خوف الضياع عليها إن لم يأخذها من وجدها فلذلك كان له الانتفاع بها بعد تكلف تعريفها . وأما من وجد ضالة الإبل فتكلف حفظها فقد تكلف ما يستغنى عنه فيه بل ربما استضربه ، وإن كانت فيه منفعة فنادرة ويسيرة غير مخلصة من مضرة الإنفاق عليها فلذلك لم يكن له الانتفاع بعد تعريفها ويحتمل عندي أن يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم في ضالة الغنم هي لك ، أو لأخيك ، أو للذئب فنهى عن أخذها على هذا الوجه وهو ممنوع باتفاق .
( فرع ) فإذا قلنا بالوجه الأول فمعناه أنه إذا أبيح للناس أخذها تسرع إلى أكلها في ذلك بالأمراض والخوف عليها ، ومن أخذها احتاج إلى الإنفاق عليها وهي إذا كانت في مواضعها لم يخف عليها التسرع إلى أكلها ولا احتيج إلى الإنفاق عليها والحفظ لها ، وهذا كان حكم ضوال الإبل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لما كان يؤمن عليها ، فلما كان في زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما ولم يؤمن عليهما لما كثر في المسلمين ممن لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم وكثر تعديهم عليها أباحوا أخذها لمن التقطها ورفعها إليهم ولم يروا ردها إلى موضعها ، وقد كان عمر بن الخطاب أمر ثابت بن الضحاك بتعريفها ثم أباح له ردها إلى موضعها ، وإنما اختلفت الأحكام في ذلك لاختلاف الأحوال . وقد قال مالك فيمن وجد بعيرا فليأت به الإمام يبيعه يجعل ثمنه في بيت المال قال أشهب إذا كان الإمام عدلا ومعنى ذلك أنه أمن عليها من يتعدى فيها فيتركها في موضعها أفضل ؛ لأنه يؤمن عليها ضياعها من غير هذا الوجه ويستغنى عن الإنفاق عليها والتمون لها وقصد صاحبها إلى ذلك الموضع وتتبع أثرها منه أيسر عليه من طلبها في الآفاق البعيدة ؛ لأنه لا يدري من أواها قريب الدار ، أو بعيدها فإن خاف عليها متعديا يتلف عينها كان أخذها ورفعها إلى الإمام ينظر فيها لصاحبها أفضل له وآمن عليه والله أعلم وأحكم ، وهذا معنى ما روي عن عمر بن عبد العزيز يحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور .
( مسألة ) وأما الخيل والبغال والحمير فقد سئل عنها ابن القاسم لا تؤكل فمن التقطها عرفها فإن جاء ربها أخذها ، وإن لم يجئ ربها فأرى أن يتصدق بها ، وقال أشهب في كتبه لا تؤخذ الخيل ولا البغال ولا الحمر فإن أخذها عرفها سنة ثم تصدق بها فقال ابن كنانة لا ينبغي لأحد أن يأخذ الدابة الضالة ولا يتعرض لها فالظاهر من قول ابن القاسم إباحة أخذها ؛ لأنها لا تؤكل ولا تسرع الأيدي إلى أكلها إذا أمن حفظها كما يخاف ذلك في الإبل ، ووجه قول أشهب وابن كنانة أنه حيوان يمتنع بنفسه ويبقى دون من يحفظه فلا تلتقط كالإبل .
( مسألة ) وأما البقر ففي المدونة إن كانت بموضع يخاف عليها فهي بمنزلة الغنم ، وإن كانت بموضع لا يخاف عليها السباع ولا الذئاب فهي بمنزلة الإبل ونحو ذلك قال أشهب ، وقال ابن حبيب عن مطرف عن مالك في ضالة البقر والغنم إذا وجدها بالفلاة فله أكلها ولا يضمنها لربها ، وإن كانت بقرب العمران ضمنها إليه وعرفها فجعلها ابن القاسم بمنزلة الإبل إذا لم يخف عليها وألحقها مالك بالغنم في ضعفها عن الامتناع عند انفرادها ، وإنما يكون فيها بعض المنفعة عند اجتماعها إلا أن يكون إيصالها إلى العمران أيسر من إيصال الغنم ففي مثل هذا يخالف حكمها حكم الغنم .
والله أعلم