هو: إبراهيم بن موسى بن محمد، كنيته: أبو إسحاق، نسبته: الغرناطي، والشاطبي، أما الغرناطي: فنسبة إلى مملكة غرناطة التي عاش فيها الشاطبي -رحمه الله- وأما الشاطبي: فنسبة إلى شاطبة، مدينة في شرقي الأندلس، وشرقي قرطبة، وهي مدينة كبيرة قديمة.
عاش هذا الإمام -رحمه الله- في القرن الثامن الهجري، في منطقة غرناطة التي تحكم من قبل بني نصر، وفي هذا القرن –أي: القرن الثامن- عاش أيضاً فيه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلامذته المشهورون، منهم ابن القيم.
والأمة كما نعلم تحتاج في كل قرن إلى التجديد، فالشاطبي في هذا القرن بدأ في تجديد الدين؛ لأنه وَجَد في عصره أن الناس بحاجة إلى ذلك، ثم بدأ ليدخل في طلب العلم -كما سأعرضه عليكم- ولا يزال صابراً في ذلك حتى نفع الله به.
غرناطة هذه دخلها الإسلام على يد طارق بن زياد في سنة 92هـ، في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك، لكن في القرن الثامن حصل ما حصل، فكان هناك حاجة إلى التجديد، ومعلوم أنه إذا استمر الإسلام فهو كالنهر في أول ما يجرى يكون صافياً، ثم تدخل الشوائب في أحوال المكلفين والبدع والأهواء فيحتاج إلى تجديد وتصفية في كل عصر من العصور.
مملكة غرناطة هذه الدولة دامت ما يقارب القرنين والنصف تقريباً، وازدهرت في القرن الثامن الهجري، وهو القرن الذي عاش فيه الشاطبي -رحمه الله- وقد امتاز هذا القرن بالاستقرار السياسي، وظهرت فيه وارتفعت راية الجهاد، لكن أخذ المسلمون في الضعف والترف، فبدأ في مملكة غرناطة تنتشر البدع وأنغمس المسلمون في الملذات الدنيوية المباحة، والاهتمام بالزينة والمآكل والمشارب والأعياد غير المباحة، ودخلوا في كثيرٍ من المحرمات، فاحتاج الإمام الشاطبي وغيره في هذا القرن في البدء بتوعية الناس إلى المخاطر التي تنتظرهم، وتذكيرهم بأحكام دينهم الحنيف، وظهر ذلك في كتاب الاعتصام كما سندرسه -إن شاء الله- كما ظهر ذلك في كتاب اسمه الفتاوى له، فإنه عالج فيه كثيراً من المشاكل التي كانت في عصره، كان هذا العصر من الحالة الثقافية محل اهتمام من الأمراء بالعلم والعلماء، وبلغت الحركة الثقافية ذروته في عهد السلطان أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل المصري عام 733هـ إلى عام 755هـ، وكان في هذا العصر من اهتمام الأمير أبي الوليد إسماعيل بن سلطان يوسف الثاني بحبه للأدباء والعلماء، وكانت لهم أيضاً هؤلاء الأمراء كتب في العلم، وكان هناك علماء مشهورون في هذه الفترة، وكان المذهب السائد في ذلك العصر في غرناطة هو المذهب المالكي.
قدر سنة ولادته بـ: 720هـ، ونشأ الإمام الشاطبي -رحمه الله- بغرناطة، وبقي في هذا الجو العلمي الناضج، ولم يقم بالرحلة خارج الأندلس التي قام بها غيره من الغرناطيين، بل لازم غرناطة إلى أن توفي بها رحمه الله.
نشأ عفيفاً ورعاً متصفاً بصفات طيبة، وأخلاق سامية نبيلة، كان ثبتاً صالحاً زاهداً سنيًّا إماماً، وكان -رحمه الله- أصوليًّا مفسراً، وفقيهاً محدثاً، ولغويًّا بيانيًّا، من أفراد العلماء المحققين الأثبات، وأكابر الأئمة الثقات، على قدم راسخ من الصلاح والعفة والتحري والورع.
أقبل الإمام الشاطبي -رحمه الله- على طلب العلم منذ نعومة أظفاره، فقد كان شغوفاً بالعلم منذ صغره. يحدثنا عن نفسه فيقول: "لم أزل منذ فتق للفهم عقلي، ووجه شطر العلم طلبي، أنظر في عقلياته وشرعياته، وأصوله وفروعه، لم أقتصر على علم دون علم، ولا أفردت عن أنواعه نوعاً دون آخر، حسبما اقتضاه الزمان والإمكان، وأعطته المنة المخلوقة في أصل فطرتي، بل خضت في لججه خوض المحسن للسباحة، وأقدمت في ميادينه إقدام الجري، حتى كدت أتلف في بعض أعماقه، وأنقطع في رفقتي التي بالأنس بها تجاسرت على ما قدر لي، غائباً عن مقال القائل، وعذل العاذل، ومعرضاً عن صد الصاد، ولوم اللائم، إلى أن منّ عليّ الرب الكريم الرؤوف الرحيم، فشرح لي من معاني الشريعة ما لم يكن في حسباني، وألقى في نفسي القاصرة أن كتاب الله وسنة نبيه لم يتركا في سبيل الهداية لقائل ما يقول، ولا أبقيا لغيرهما مجالاً يعتد فيه، وإن الدين قد كمل، والسعادة الكبرى فيما وضع، والطلبة فيما شرع، وما سوى ذلك فضلال وبهتان، وإفك وخسران، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون، والحمد لله والشكر كثيراً كما هو أهله، فمن هنالك قويت نفسي على المشي في طريق بمقدار ما يسر الله فيه، فابتدأت بأصول الدين عملاً واعتقاداً، ثم بفروعه المبنية على تلك الأصول". انتهى..
تلقى الإمام الشاطبي -رحمه الله- عن كثير من العلماء الكبار الذين كانوا من خيرة العلماء بالأندلس في ذلك العصر، وكان لهم الأثر البالغ في تكوين شخصيته وتثقيفه بقسط كبير من المعارف العقلية والنقلية، حتى تمكن -رحمه الله- من الوقوف بفضل الله على جانب كبير من مقاصد الشريعة، فأخذ عن الشيخ الزيات، والشيخ أبو عبد الله العبدري والشيخ أبو سعيد بن لب، شيخ الشيوخ في غرناطة، وقل من لم يأخذ عنه في الأندلس في وقته، وأيضاً من شيوخه أبو عبد الله محمد بن علي الفخار المتوفى سنة 754هـ بغرناطة، وكان من أحسن قراء الأندلس تلاوة وأداءً، وهو مفتوح عليه في علم العربية، وقد استفاد منه الشاطبي كما ذكر استفادة كبيرة، ومنهم الإمام الشريف رئيس العلوم اللسانية أبو القاسم محمد بن أحمد الشريف الحسني قاضي الجماعة المتوفى سنة 761هـ بغرناطة، ومنهم أيضاً إمام وقته أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري المعروف بالمقري الكبير المتوفى سنة 758هـ.
الموافقات للشاطبيالإمام الشاطبي -رحمه الله- كان من العلماء العاملين المجاهدين في إظهار الدين وإبطال البدع وإماتتها، وله مؤلفات مفيدة على قلتها.
ويبدو أن الإمام الشاطبي لم يكن معروفاً إلا بعد تأليفه كتابيه الموافقات والاعتصام، لذلك فإن المترجمين له لم يتعرضوا لذكر شيء من حياته ونشأته وأسرته بالتفصيل، وخاصة ما قبل التأليف، وهكذا كثير من العلماء لا يعرف إلا بعد أن يؤلف، أو يكون له مواقف يظهر بها علمه.
وقد أثنى كثير من العلماء على الإمام الشاطبي، وحق له أن يثنى عليه؛ فقد كان -رحمه الله- متفنناً في أنواع من الفنون، وعلى جانب كبير من مقاصد الشريعة.
كان -رحمه الله- مشهوراً بمقاومة البدع وأهلها، وكان يبين للناس السنن، ويحذر من البدع، وكان قد تولى الخطابة في الجامع الأعظم، فلما حاول أن يبين للناس ما دخل على الخطابة والإمامة من البدع، وجد مقاومة شديدة من أرباب البدع؛ حيث نسبوه إلى البدعة والضلالة والغباوة والجهل، وفي ذلك يقول: "فابتدأت بأصول الدين عملاً واعتقاداً، ثم بفروعه المبنية على تلك الأصول، وفي خلال ذلك أبين ما هو من السنن، أو من البدع، ثم أطالب نفسي بالمشي مع الجماعة التي سماها بالسواد الأعظم، في الوصف الذي كان عليه هو وأصحابه، وترك البدع التي نص عليها العلماء أنها بدع وأعمال مختلفة، وكنت في أثناء ذلك قد دخلت في بعض خطط الجمهور، من الخطابة والإمامة ونحوها، فلما أردت الاستقامة على الطريق وجدت نفسي غريباً، في جمهور أهل الوقت؛ لكون خططهم قد غلبت عليها العوائد، ودخلت على سننها الأصلية شوائب من المحدثات الزوائد، فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئاً، فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت عليّ القيامة، وتواترت عليّ الملامة، وفَوّق إليّ العتاب سهامه، ونسبت إلى البدعة والضلالة، وأنزلت منـزلة أهل الغباوة والجهالة، شهادة تكتب، ويسألون عنها يوم القيامة". انتهى.
مؤلفات الإمام الشاطبي :
مؤلفاته ليست كثيرة، وقد أحسن من قال:
قليل منك يكفيني ولكن *** قليلك لا يقال له قليل
الاعتصام للشاطبيفمؤلفاته -رحمه الله- على قلتها لكن الكتاب الواحد منه يعدّ بعشرة كتب من غيره، فمن ذلك كتاب الاعتصام الذي بين أيدينا الآن، وكتاب الموافقات في أصول الفقه، وسماه (عنوان التعريف بأصول التكليف)، وله أيضاً كتاب في الفتاوى، عالج فيه مشاكل عصره، وله أيضاً شعر، وإن كان شعره محدوداً، وأيضاً من مؤلفاته (شرح رجز ابن مالك في النحو الألفية)، و(شرح جلي على الخلاصة) في النحو في أربعة أسفار كبار، لم يؤلف مثله، وله كتاب المجالس، شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري، وله كتاب الإفادات والإنشادات فهو محقق وموجود.
وله بعض كتب أتلفها في حياته لم يقتنع بها منها عنوان (الاتفاق في علم الاشتقاق) و(أصول النحو) وقد أتلفها في حياته، ومن أشهر كتبه كتاب (الاعتصام) وكتاب (الموافقات).
وقد نسب له رحمه الله عدة أمور من ذلك:
أن الدعاء لا ينفع، فإنه -رحمه الله- لم يقل بذلك، وإنما كان ينكر ما انتشر في ربوع مجتمع غرناطة في عصره من دعاء الإمام, والمأمومون يؤمنون على أدبار الصلوات المفروضة على هيئة الاجتماع، ويرى أنه بدعة؛ إذ لم يرد ذلك عن السلف الصالح.
قال رحمه الله: "فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه، كما يعزى إلى بعض الناس، بسبب أنني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة".
ونسب له -رحمه الله- رفضه للصحابة وبغضه لهم، ولم يقل أيضاً بذلك، وحاشاه أن يقول ذلك، وإنما يرى أن ما انتشر في ربوع الأندلس من أدعية أئمة المساجد للخلفاء الراشدين فوق المنابر يوم الجمعة على وجه الالتزام أمر لم يأتِ به الشرع، فلم يكن يلتزم به في خطبته يوم الجمعة، مما أدى إلى اتهامه بالرفض، وفي هذا يقول رحمه الله: "وتارة نسبت إلى الرفض، وبغض الصحابة y بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين في الخطبة على وجه الخصوص؛ إذ لم يكن ذلك شأن السلف في خطبهم، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب".
ورمي أيضاً -رحمه الله- بأنه يجيز الخروج على الأئمة والسلاطين؛ لأنه يرى أن الدعاء للأئمة والسلاطين على وجه الالتزام بدعة، كما هو منتشر في الأندلس، بحيث يُعتبر التارك لذلك مبتدعاً، فكان -رحمه الله- لا يلتزم بذلك في خطبته، وإنما يدعو للمسلمين عامة.
ونسب له أنه يعادي أولياء الله ولا يحبهم ولا يتولاهم، مع أنه بريء من ذلك كله، وإنما كان -رحمه الله- مقاوماً للبدع وأهلها حريصاً على إحياء السنة وإماتة البدعة.
ظهرت طائفة مبتدعة في الأندلس تزعم أنها من الصوفية، وأن هداية الخلق بأيديهم، فكانوا يجتمعون في بعض الليالي على الذكر بأصوات مرتفعة، ثم يغنون ويضربون بالأكف، ولهم أحوال وشطحات إلى آخر الليل، فتصدى الشاطبي لبيان زيفهم وزيغهم وضلالاتهم، وأنهم ليسوا من الصوفية المتقدمين، مما أدى إلى اتهامه بمعاداة أولياء الله، وليسوا من أولياء الله في شيء، وإنما أحوالهم أحوال شيطانية، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "وتارة نسبت إلى معاداة أولياء الله، وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية، ولم يتشبهوا بهم".
عقيدة الشاطبي رحمه الله :
الشاطبي من علماء الأمة الكبار، لكنه -رحمه الله- كغيره بشر يصيب ويخطئ، ولذا فقد ظهرت منه بعض الأخطاء العقدية التي خالف فيها ما عليه أهل السنة والجماعة، وبالتأمل في كتب الشاطبي -رحمه الله- واستقراء مقالاته يتبين أنه -رحمه الله- يميل إلى قول الأشاعرة في بعض المسائل:
فيرى أن خبر الواحد لا يفيد العلم اليقيني، وإنما يفيد الظن فقط، وهذا مستفاد من تقسيماته -رحمه الله- لخبر الواحد إلى الثلاثة وكلها ظنية، ولم يحكم لأي نوع منها على أنه قطعي، بل ويتضح هذا المعنى في أنه يرى أن خبر الواحد لا يقطع به ولو صح سنده، إلا إذا استند إلى آية قرآنية قطعية.
إلا أنه -رحمه الله- يرى أن العقيدة تثبت بخبر الواحد إذا شهد له أصل قطعي كآية قرآنية أو سنة متواترة، فيكون خبر الواحد حينئذٍ كجزئي تحت معنى قرآني كلي.
موقف الشاطبي من التأويل :
موقف الإمام الشاطبي -رحمه الله- من التأويل لا يختلف عن موقف الأشاعرة، بل هو تقرير له من غير تعصب؛ لأنه -رحمه الله- يرى أن مسألة التأويل مسألة اجتهادية، لذلك يرى -رحمه الله- أن الدليل إذا عارضه قطعي كظهور تشبيه الخالق بالمخلوق فليس بدليل، فلابد من أن يحتاج له إلى دليل آخر، فهذا أصل مقرر عند كل من سلك مسلك التأويل في صفات البارئ، وإن كانت تتفاوت درجاتهم في ذلك.
بل يذهب -رحمه الله- إلى أبعد من ذلك، حيث يرى أن المرء إذا وجد خبراً يقتضي في الظاهر خرق العادة، كظهور تشبيه أو غيره فهو مخير بين أمرين، وله في أحدهما سعة، إما التفويض المطلق، وإما التأويل.
ومما يؤكد ما سبق أنه -رحمه الله- يرى أن التأويل يحتاج إليه في بعض المواطن، بل يرى أنه من طريقة السلف؛ لأن الأصل عنده التصديق والتسليم المحض لا الإنكار.
بعض آرائه المنهجية في المسائل العقدية والاختلافات المنهجية، ويتلخص ذلك في النقاط التالية:
1- أنه -رحمه الله- يرى أن الخلاف الواقع بين أهل السنة والجماعة وبين أصحاب البدع في صفات الله تعالى خلاف في الفروع لا في الأصول، ولا سيما إذا كان ذلك منهم على قصد حسن.
2- يعتبر مذهب السلف أحياناً هو الأصل في إثبات الصفات، وأن التأويل أيضاً غير خارج عن مذهبهم، بل ويرى أنه قد يحتاج إليه في بعض المواضع، وأن من هذا حاله خير ممن جعل أصله في تلك الأمور التكذيب بها.
3- بل يرى -رحمه الله- أن التسليم المحض والتأويل سيان، بكل منهما قال السلف لكن التسليم أسلم.
4- لم يكتب عقيدته بصورة مستقلة كما فعل غيره ممن كتبوا في العقائد، وإنما يعقد فصلاً غير مخصص لمسألة العقيدة، يقرر فيه قاعدة في فن ما، فيشير إلى عقيدته إشارة خفيفة، وأحياناً يذكر أثناء مناقشته لأهل البدع، فيورد أمثلة توضيحية يكون نصيب العقيدة منها قليلاً.
5- مناقشته -رحمه الله- في العقيدة كانت مع المعتزلة كثيراً، ومع الجهمية قليلاً، ونادراً ما يشير إلى أهل السنة والجماعة، وإن أشار فمراده بذلك الأشعرية فقط.
عقيدة الشاطبي في:
كلام الله تعالى: ينكر أن يكون كلام الله بالصوت والحرف، ويثبت كلاماً نفيساً وهو قول الأشاعرة.
رؤية الله يوم القيامة: يذهب إلى مذهب الأشاعرة في مسألة الرؤية، فالأشاعرة يثبتون الرؤية بدون إثبات جهة ولا مقابلة.
صفة الاستواء لله: اضطربت أقوال الأشعرية في الاستواء ما بين تأويل وتفويض، فحكى بعضهم أن التفويض مذهب مال إليه المتقدمون من الأشعرية، مما جعل كثيراً من المتأخرين يختارونه بحجة أنه أسلم في زعمهم، وهو الذي ذهب إليه الإمام الشاطبي -رحمه الله- فقد سلك مسلك التفويض، ويرى أن ذلك مذهب السلف، مع أن الحقيقة ليس ذلك بمذهب السلف، وإنما مذهبهم تفويض الكيف والحقيقة لا المعنى.
بقية الصفات السمعية: الوجه، اليدان، العين، الرجل، القدم، الضحك، النـزول: قوله -رحمه الله- في هذه الصفات كقوله في الاستواء، بل صرح -رحمه الله- في موطن آخر أن هذه الصفات جوارح محسوسات لا يجوز إثباتها لله.
قال رحمه الله: "ومثاله في ملة الإسلام: مذهب الظاهرية في إثبات الجوارح للرب المنـزه عن النقائص، من العين، واليد، والرجل، والوجه، المحسوسات، والجهة، وغير ذلك من الثابت للمحدثات".
وكلامه هذا لا شك أنه يدل على أن عقيدته في هذه الصفات عدم الإثبات، إذ سمى إثبات هذه الصفات أنها إثبات جوارح، ولم يقيد ذلك بأن إثباتها مع التنـزيه أن ذلك عقيدة صحيحة.
تعريف الإيمان: كان يقول -رحمه الله- بقول الأشعرية في تعريف الإيمان: إن الإيمان هو التصديق في اللغة والشريعة جميعاً، وإن الأفعال والأعمال من شرائع الإيمان لا من نفس الإيمان.
الكبيرة: يقول بقول أهل السنة والجماعة في مصير مرتكب الكبيرة في الآخرة، حيث يرى أنه تحت المشيئة، إن شاء ربه عذبه، وإن شاء غفر له، وأنه لا يخلد في النار كالكافر إن دخلها.
عذاب القبر ونعيمه: قال: "ولا نكير في كون الميت يعذب برد الروح إليه، ثم تعذيبه على وجه لا يقدر البشر على رؤيته لذلك ولا سماعه".
ومنهج الإمام الشاطبي -رحمه الله- في إثبات الغيبيات والرد على طوائف المبتدعة هو بعينه ما ذكره علماء أهل السنة والجماعة.
ويقول بقول أهل السنة والجماعة في مسألة الميزان، حيث أثبت أنه ميزان صحيح يوزن به الأعمال، وأن حقيقته وكيفية الوزن به غير معلومة لدينا، بل نؤمن به كما يليق بالدار الآخرة.
وسلك مسلك أهل السنة والجماعة في إثبات الصراط يوم القيامة.
كان الإمام الشاطبي -رحمه الله- حريصاً على إحياء السنة وإماتة البدعة، ولما كان المجتمع الغرناطي قد فشت فيه بدع منكرة، فقد تصدى -رحمه الله- لمقاومتها، مما جعله من المشهورين في المجتمع الغرناطي بمقاومة البدع وأهلها.
وفاة الإمام الشاطبي :
وتوفى يوم الثلاثاء الثامن من شهر شعبان سنة790هـ بغرناطة، وبذلك يكون قد عاش أكثر من سبعين عاماً قضاها -رحمه الله- في رحاب العلم الشرعي مكافحاً صابراً في طلب العلم، ونشر الحق وإحياء السنة وإماتة البدعة.
كيف ندرس كتاب عالم بهذه العقيدة؟ وألا يوجد كتاب آخر لعالم سلفي المعتقد؟
الجواب: هناك الكثير من علماء الإسلام الكبار، ولهم مؤلفات كثيرة نفع الله بها، تجد أن هناك ملاحظات إما عليهم أو على كتبهم كابن حجر والنووي وابن الجوزي وغيرهم، ولم يقل أحد بترك كتبهم بل الأمة على مدار تاريخها تَدرس وتُدرّس كتبهم وتنبه على أخطائهم، ولا حرج في ذلك، وطالب العلم يدرك ويميز الخطأ من الصواب، والشاطبي -رحمه الله- أحد هؤلاء العلماء.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- بعد أن ذكر مجموعة من العلماء ممن هم مثل الإمام الشاطبي لهم علم وفضل، ولكنهم شاركوا المبتدعة في بعض أصولهم فقال: "ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعٍ مشكورة وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء من المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء، احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك منهم من يعظمهم؛ لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم؛ لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها، وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [سورة الحشر:10]، ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه؛ تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه والمؤمنين حيث قالوا: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [سورة البقرة:286]" انتهى.
أما جواب السؤال الثاني: ألا يوجد كتاب آخر لعالم سلفي المعتقد؟
فسيأتي الجواب عليه بعد قليل.
كتاب الاعتصام :
من أعظم ما ألف هذا الإمام كتابيه (الموافقات) في أصول الشريعة، و(الاعتصام) في لزوم السنة والتحذير من البدع، وقد كان طرحه في الكتابين طرحاً لم يسبق إليه، فقد قيل: إنه أول من تكلم في مقاصد الشريعة كعلم مستقل، وذلك في كتاب الموافقات، وأول من قعّد علم أصول معرفة البدع في كتاب الاعتصام.
لماذا اخترنا كتاب الاعتصام ليكون هو مادة دراستنا لهذا العام؟
من المتفق عليه عند علماء الاجتماع والسياسة والمؤرخون من الأمم المختلفة غير العرب ومن غير المسلمين على أن العرب لم يكن لهم قيمة ولا وزن، وما نهضوا هذه النهضة التي حيرت العالم في وقتهم من النهضة العلمية والعمرانية والجهادية والأخلاقية وغيرها إلا بتأثير الدين فيهم وهو الإسلام، وما كان يمكن أن يجمع ذلك التفرق والتشتت والقتال بينهم لأتفه الأسباب إلا بالدين، وما أصلح شؤونهم الداخلية والخارجية إلا الإسلام.
وأيضاً من المتفق عليه عند المسلمين وغيرهم وأمر مشاهد للعيان أنه حصل ضعف شديد للمسلمين بعد قوة، وحصل لهم ذل بعد عز، وفقر بعد غنى، وخور وخوف بعد شدة وبأس، وصاروا يطلبون من غيرهم أن يدافع عنهم، في حين أن قوى الأرض كلها كانت في أيديهم، وذهب ملكهم وصاروا دولاً ضعيفة متفرقة، فما سبب ذلك؟
العلمانيون والحداثيون وأصحاب الأقلام المريضة ينسبون هذا الضعف والذل الآن إلى الدين، ويقولون: لنلحق بركب أوربا، إذا أردنا الحضارة فلننبذ ديننا كما نبذت أوربا دينها.
وهذا الكلام فاسد عقلاً وشرعاً ومنطقاً لماذا؟ لأنه لا يمكن أن يكون السبب الواحد هو سبب إصلاح وفساد في وقت واحد، وكما قالوا العلة الواحدة لا يصدر عنها معلولات متناقضة، فكيف يكون الدين سبب لإصلاح من سلف، وهو سبب في إفساد من خلف؟
هذا لا يمكن، إذن فلنبحث عن سبب آخر غير السبب الذي أصلح الأول، فالسبب في سوء من خلف وما أحدثه من بدع ومحدثات في دينه وخلقه وسلوكه وعاداته هي التي فرقت الجماعة، ومزقت الكلمة، وزحزحت عن الصراط المستقيم، وكانت السبب في واقع الأمة اليوم.
من أجل ذلك كان تحرير مسائل البدع والابتداع من أهم ما ينفع المسلمين في أمر دينهم ودنياهم، ويكون أعظم عون للدعاة والمصلحين في هداية الخلق بإذن الله .
وقد كتب كثير من العلماء في البدع، وكان أكثر ما كتبوا في الترهيب والتنفير منها والرد على المبتدعين، وما رأينا أحداً هدُي إلى ما هدي إليه الشاطبي من البحث العلمي الأصولي في هذا الموضوع، وتقسيمه إلى أبواب يدخل في كل باب منها فصول كثيرة، وهذا هو جواب السؤال الثاني.
فقال الباب الأول: في تعريف البدع ومعناها.
الثاني: في ذم البدع وسوء منقلب أهلها.
الثالث: في أن ذم البدع عام وفيه الكلام على شبه المبتدعة، ومن جعل البدع حسنة وسيئة.
الرابع: في مأخذ أهل البدع في الاستدلال.
الخامس: في البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما.
السادس: في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة.
السابع: في الابتداع هل يخص العبادات أن تدخل فيه العادات.
الثامن: في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان.
التاسع: في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين.
العاشر: في بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه المبتدعة.
قال محمد رشيد رضا -رحمه الله- في مقدمة تحقيقه لهذا الكتاب: "لولا أن هذا الكتاب ألف في عصر ضعف العلم والدين في المسلمين لكان مبدأ نهضة جديدة لإحياء السنة، وإصلاح شئون الأخلاق والاجتماع، ولكان المصنف بهذا الكتاب وبصنوه كتاب الموافقات الذي لم يسبق إلى مثله سابق أيضاً من أعظم المجددين في الإسلام.
ولشيخ الإسلام كلام متين ونفيس في البدع، ووضع قواعد وأصول وأحكام لها، لكن كلام شيخ الإسلام لم يجمعه كتاب واحد، فكلامه متفرق في عشرات من كتبه، ولو قام أحد العلماء أو طلاب العلم بجمع كلام ابن تيمية من متفرق كلامه، لكان هذا عملاً جباراً يشكر عليه.
المصدر: موقع المختار الإسلامي.
عاش هذا الإمام -رحمه الله- في القرن الثامن الهجري، في منطقة غرناطة التي تحكم من قبل بني نصر، وفي هذا القرن –أي: القرن الثامن- عاش أيضاً فيه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلامذته المشهورون، منهم ابن القيم.
والأمة كما نعلم تحتاج في كل قرن إلى التجديد، فالشاطبي في هذا القرن بدأ في تجديد الدين؛ لأنه وَجَد في عصره أن الناس بحاجة إلى ذلك، ثم بدأ ليدخل في طلب العلم -كما سأعرضه عليكم- ولا يزال صابراً في ذلك حتى نفع الله به.
غرناطة هذه دخلها الإسلام على يد طارق بن زياد في سنة 92هـ، في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك، لكن في القرن الثامن حصل ما حصل، فكان هناك حاجة إلى التجديد، ومعلوم أنه إذا استمر الإسلام فهو كالنهر في أول ما يجرى يكون صافياً، ثم تدخل الشوائب في أحوال المكلفين والبدع والأهواء فيحتاج إلى تجديد وتصفية في كل عصر من العصور.
مملكة غرناطة هذه الدولة دامت ما يقارب القرنين والنصف تقريباً، وازدهرت في القرن الثامن الهجري، وهو القرن الذي عاش فيه الشاطبي -رحمه الله- وقد امتاز هذا القرن بالاستقرار السياسي، وظهرت فيه وارتفعت راية الجهاد، لكن أخذ المسلمون في الضعف والترف، فبدأ في مملكة غرناطة تنتشر البدع وأنغمس المسلمون في الملذات الدنيوية المباحة، والاهتمام بالزينة والمآكل والمشارب والأعياد غير المباحة، ودخلوا في كثيرٍ من المحرمات، فاحتاج الإمام الشاطبي وغيره في هذا القرن في البدء بتوعية الناس إلى المخاطر التي تنتظرهم، وتذكيرهم بأحكام دينهم الحنيف، وظهر ذلك في كتاب الاعتصام كما سندرسه -إن شاء الله- كما ظهر ذلك في كتاب اسمه الفتاوى له، فإنه عالج فيه كثيراً من المشاكل التي كانت في عصره، كان هذا العصر من الحالة الثقافية محل اهتمام من الأمراء بالعلم والعلماء، وبلغت الحركة الثقافية ذروته في عهد السلطان أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل المصري عام 733هـ إلى عام 755هـ، وكان في هذا العصر من اهتمام الأمير أبي الوليد إسماعيل بن سلطان يوسف الثاني بحبه للأدباء والعلماء، وكانت لهم أيضاً هؤلاء الأمراء كتب في العلم، وكان هناك علماء مشهورون في هذه الفترة، وكان المذهب السائد في ذلك العصر في غرناطة هو المذهب المالكي.
قدر سنة ولادته بـ: 720هـ، ونشأ الإمام الشاطبي -رحمه الله- بغرناطة، وبقي في هذا الجو العلمي الناضج، ولم يقم بالرحلة خارج الأندلس التي قام بها غيره من الغرناطيين، بل لازم غرناطة إلى أن توفي بها رحمه الله.
نشأ عفيفاً ورعاً متصفاً بصفات طيبة، وأخلاق سامية نبيلة، كان ثبتاً صالحاً زاهداً سنيًّا إماماً، وكان -رحمه الله- أصوليًّا مفسراً، وفقيهاً محدثاً، ولغويًّا بيانيًّا، من أفراد العلماء المحققين الأثبات، وأكابر الأئمة الثقات، على قدم راسخ من الصلاح والعفة والتحري والورع.
أقبل الإمام الشاطبي -رحمه الله- على طلب العلم منذ نعومة أظفاره، فقد كان شغوفاً بالعلم منذ صغره. يحدثنا عن نفسه فيقول: "لم أزل منذ فتق للفهم عقلي، ووجه شطر العلم طلبي، أنظر في عقلياته وشرعياته، وأصوله وفروعه، لم أقتصر على علم دون علم، ولا أفردت عن أنواعه نوعاً دون آخر، حسبما اقتضاه الزمان والإمكان، وأعطته المنة المخلوقة في أصل فطرتي، بل خضت في لججه خوض المحسن للسباحة، وأقدمت في ميادينه إقدام الجري، حتى كدت أتلف في بعض أعماقه، وأنقطع في رفقتي التي بالأنس بها تجاسرت على ما قدر لي، غائباً عن مقال القائل، وعذل العاذل، ومعرضاً عن صد الصاد، ولوم اللائم، إلى أن منّ عليّ الرب الكريم الرؤوف الرحيم، فشرح لي من معاني الشريعة ما لم يكن في حسباني، وألقى في نفسي القاصرة أن كتاب الله وسنة نبيه لم يتركا في سبيل الهداية لقائل ما يقول، ولا أبقيا لغيرهما مجالاً يعتد فيه، وإن الدين قد كمل، والسعادة الكبرى فيما وضع، والطلبة فيما شرع، وما سوى ذلك فضلال وبهتان، وإفك وخسران، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون، والحمد لله والشكر كثيراً كما هو أهله، فمن هنالك قويت نفسي على المشي في طريق بمقدار ما يسر الله فيه، فابتدأت بأصول الدين عملاً واعتقاداً، ثم بفروعه المبنية على تلك الأصول". انتهى..
تلقى الإمام الشاطبي -رحمه الله- عن كثير من العلماء الكبار الذين كانوا من خيرة العلماء بالأندلس في ذلك العصر، وكان لهم الأثر البالغ في تكوين شخصيته وتثقيفه بقسط كبير من المعارف العقلية والنقلية، حتى تمكن -رحمه الله- من الوقوف بفضل الله على جانب كبير من مقاصد الشريعة، فأخذ عن الشيخ الزيات، والشيخ أبو عبد الله العبدري والشيخ أبو سعيد بن لب، شيخ الشيوخ في غرناطة، وقل من لم يأخذ عنه في الأندلس في وقته، وأيضاً من شيوخه أبو عبد الله محمد بن علي الفخار المتوفى سنة 754هـ بغرناطة، وكان من أحسن قراء الأندلس تلاوة وأداءً، وهو مفتوح عليه في علم العربية، وقد استفاد منه الشاطبي كما ذكر استفادة كبيرة، ومنهم الإمام الشريف رئيس العلوم اللسانية أبو القاسم محمد بن أحمد الشريف الحسني قاضي الجماعة المتوفى سنة 761هـ بغرناطة، ومنهم أيضاً إمام وقته أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري المعروف بالمقري الكبير المتوفى سنة 758هـ.
الموافقات للشاطبيالإمام الشاطبي -رحمه الله- كان من العلماء العاملين المجاهدين في إظهار الدين وإبطال البدع وإماتتها، وله مؤلفات مفيدة على قلتها.
ويبدو أن الإمام الشاطبي لم يكن معروفاً إلا بعد تأليفه كتابيه الموافقات والاعتصام، لذلك فإن المترجمين له لم يتعرضوا لذكر شيء من حياته ونشأته وأسرته بالتفصيل، وخاصة ما قبل التأليف، وهكذا كثير من العلماء لا يعرف إلا بعد أن يؤلف، أو يكون له مواقف يظهر بها علمه.
وقد أثنى كثير من العلماء على الإمام الشاطبي، وحق له أن يثنى عليه؛ فقد كان -رحمه الله- متفنناً في أنواع من الفنون، وعلى جانب كبير من مقاصد الشريعة.
كان -رحمه الله- مشهوراً بمقاومة البدع وأهلها، وكان يبين للناس السنن، ويحذر من البدع، وكان قد تولى الخطابة في الجامع الأعظم، فلما حاول أن يبين للناس ما دخل على الخطابة والإمامة من البدع، وجد مقاومة شديدة من أرباب البدع؛ حيث نسبوه إلى البدعة والضلالة والغباوة والجهل، وفي ذلك يقول: "فابتدأت بأصول الدين عملاً واعتقاداً، ثم بفروعه المبنية على تلك الأصول، وفي خلال ذلك أبين ما هو من السنن، أو من البدع، ثم أطالب نفسي بالمشي مع الجماعة التي سماها بالسواد الأعظم، في الوصف الذي كان عليه هو وأصحابه، وترك البدع التي نص عليها العلماء أنها بدع وأعمال مختلفة، وكنت في أثناء ذلك قد دخلت في بعض خطط الجمهور، من الخطابة والإمامة ونحوها، فلما أردت الاستقامة على الطريق وجدت نفسي غريباً، في جمهور أهل الوقت؛ لكون خططهم قد غلبت عليها العوائد، ودخلت على سننها الأصلية شوائب من المحدثات الزوائد، فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئاً، فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت عليّ القيامة، وتواترت عليّ الملامة، وفَوّق إليّ العتاب سهامه، ونسبت إلى البدعة والضلالة، وأنزلت منـزلة أهل الغباوة والجهالة، شهادة تكتب، ويسألون عنها يوم القيامة". انتهى.
مؤلفات الإمام الشاطبي :
مؤلفاته ليست كثيرة، وقد أحسن من قال:
قليل منك يكفيني ولكن *** قليلك لا يقال له قليل
الاعتصام للشاطبيفمؤلفاته -رحمه الله- على قلتها لكن الكتاب الواحد منه يعدّ بعشرة كتب من غيره، فمن ذلك كتاب الاعتصام الذي بين أيدينا الآن، وكتاب الموافقات في أصول الفقه، وسماه (عنوان التعريف بأصول التكليف)، وله أيضاً كتاب في الفتاوى، عالج فيه مشاكل عصره، وله أيضاً شعر، وإن كان شعره محدوداً، وأيضاً من مؤلفاته (شرح رجز ابن مالك في النحو الألفية)، و(شرح جلي على الخلاصة) في النحو في أربعة أسفار كبار، لم يؤلف مثله، وله كتاب المجالس، شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري، وله كتاب الإفادات والإنشادات فهو محقق وموجود.
وله بعض كتب أتلفها في حياته لم يقتنع بها منها عنوان (الاتفاق في علم الاشتقاق) و(أصول النحو) وقد أتلفها في حياته، ومن أشهر كتبه كتاب (الاعتصام) وكتاب (الموافقات).
وقد نسب له رحمه الله عدة أمور من ذلك:
أن الدعاء لا ينفع، فإنه -رحمه الله- لم يقل بذلك، وإنما كان ينكر ما انتشر في ربوع مجتمع غرناطة في عصره من دعاء الإمام, والمأمومون يؤمنون على أدبار الصلوات المفروضة على هيئة الاجتماع، ويرى أنه بدعة؛ إذ لم يرد ذلك عن السلف الصالح.
قال رحمه الله: "فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه، كما يعزى إلى بعض الناس، بسبب أنني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة".
ونسب له -رحمه الله- رفضه للصحابة وبغضه لهم، ولم يقل أيضاً بذلك، وحاشاه أن يقول ذلك، وإنما يرى أن ما انتشر في ربوع الأندلس من أدعية أئمة المساجد للخلفاء الراشدين فوق المنابر يوم الجمعة على وجه الالتزام أمر لم يأتِ به الشرع، فلم يكن يلتزم به في خطبته يوم الجمعة، مما أدى إلى اتهامه بالرفض، وفي هذا يقول رحمه الله: "وتارة نسبت إلى الرفض، وبغض الصحابة y بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين في الخطبة على وجه الخصوص؛ إذ لم يكن ذلك شأن السلف في خطبهم، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب".
ورمي أيضاً -رحمه الله- بأنه يجيز الخروج على الأئمة والسلاطين؛ لأنه يرى أن الدعاء للأئمة والسلاطين على وجه الالتزام بدعة، كما هو منتشر في الأندلس، بحيث يُعتبر التارك لذلك مبتدعاً، فكان -رحمه الله- لا يلتزم بذلك في خطبته، وإنما يدعو للمسلمين عامة.
ونسب له أنه يعادي أولياء الله ولا يحبهم ولا يتولاهم، مع أنه بريء من ذلك كله، وإنما كان -رحمه الله- مقاوماً للبدع وأهلها حريصاً على إحياء السنة وإماتة البدعة.
ظهرت طائفة مبتدعة في الأندلس تزعم أنها من الصوفية، وأن هداية الخلق بأيديهم، فكانوا يجتمعون في بعض الليالي على الذكر بأصوات مرتفعة، ثم يغنون ويضربون بالأكف، ولهم أحوال وشطحات إلى آخر الليل، فتصدى الشاطبي لبيان زيفهم وزيغهم وضلالاتهم، وأنهم ليسوا من الصوفية المتقدمين، مما أدى إلى اتهامه بمعاداة أولياء الله، وليسوا من أولياء الله في شيء، وإنما أحوالهم أحوال شيطانية، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "وتارة نسبت إلى معاداة أولياء الله، وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية، ولم يتشبهوا بهم".
عقيدة الشاطبي رحمه الله :
الشاطبي من علماء الأمة الكبار، لكنه -رحمه الله- كغيره بشر يصيب ويخطئ، ولذا فقد ظهرت منه بعض الأخطاء العقدية التي خالف فيها ما عليه أهل السنة والجماعة، وبالتأمل في كتب الشاطبي -رحمه الله- واستقراء مقالاته يتبين أنه -رحمه الله- يميل إلى قول الأشاعرة في بعض المسائل:
فيرى أن خبر الواحد لا يفيد العلم اليقيني، وإنما يفيد الظن فقط، وهذا مستفاد من تقسيماته -رحمه الله- لخبر الواحد إلى الثلاثة وكلها ظنية، ولم يحكم لأي نوع منها على أنه قطعي، بل ويتضح هذا المعنى في أنه يرى أن خبر الواحد لا يقطع به ولو صح سنده، إلا إذا استند إلى آية قرآنية قطعية.
إلا أنه -رحمه الله- يرى أن العقيدة تثبت بخبر الواحد إذا شهد له أصل قطعي كآية قرآنية أو سنة متواترة، فيكون خبر الواحد حينئذٍ كجزئي تحت معنى قرآني كلي.
موقف الشاطبي من التأويل :
موقف الإمام الشاطبي -رحمه الله- من التأويل لا يختلف عن موقف الأشاعرة، بل هو تقرير له من غير تعصب؛ لأنه -رحمه الله- يرى أن مسألة التأويل مسألة اجتهادية، لذلك يرى -رحمه الله- أن الدليل إذا عارضه قطعي كظهور تشبيه الخالق بالمخلوق فليس بدليل، فلابد من أن يحتاج له إلى دليل آخر، فهذا أصل مقرر عند كل من سلك مسلك التأويل في صفات البارئ، وإن كانت تتفاوت درجاتهم في ذلك.
بل يذهب -رحمه الله- إلى أبعد من ذلك، حيث يرى أن المرء إذا وجد خبراً يقتضي في الظاهر خرق العادة، كظهور تشبيه أو غيره فهو مخير بين أمرين، وله في أحدهما سعة، إما التفويض المطلق، وإما التأويل.
ومما يؤكد ما سبق أنه -رحمه الله- يرى أن التأويل يحتاج إليه في بعض المواطن، بل يرى أنه من طريقة السلف؛ لأن الأصل عنده التصديق والتسليم المحض لا الإنكار.
بعض آرائه المنهجية في المسائل العقدية والاختلافات المنهجية، ويتلخص ذلك في النقاط التالية:
1- أنه -رحمه الله- يرى أن الخلاف الواقع بين أهل السنة والجماعة وبين أصحاب البدع في صفات الله تعالى خلاف في الفروع لا في الأصول، ولا سيما إذا كان ذلك منهم على قصد حسن.
2- يعتبر مذهب السلف أحياناً هو الأصل في إثبات الصفات، وأن التأويل أيضاً غير خارج عن مذهبهم، بل ويرى أنه قد يحتاج إليه في بعض المواضع، وأن من هذا حاله خير ممن جعل أصله في تلك الأمور التكذيب بها.
3- بل يرى -رحمه الله- أن التسليم المحض والتأويل سيان، بكل منهما قال السلف لكن التسليم أسلم.
4- لم يكتب عقيدته بصورة مستقلة كما فعل غيره ممن كتبوا في العقائد، وإنما يعقد فصلاً غير مخصص لمسألة العقيدة، يقرر فيه قاعدة في فن ما، فيشير إلى عقيدته إشارة خفيفة، وأحياناً يذكر أثناء مناقشته لأهل البدع، فيورد أمثلة توضيحية يكون نصيب العقيدة منها قليلاً.
5- مناقشته -رحمه الله- في العقيدة كانت مع المعتزلة كثيراً، ومع الجهمية قليلاً، ونادراً ما يشير إلى أهل السنة والجماعة، وإن أشار فمراده بذلك الأشعرية فقط.
عقيدة الشاطبي في:
كلام الله تعالى: ينكر أن يكون كلام الله بالصوت والحرف، ويثبت كلاماً نفيساً وهو قول الأشاعرة.
رؤية الله يوم القيامة: يذهب إلى مذهب الأشاعرة في مسألة الرؤية، فالأشاعرة يثبتون الرؤية بدون إثبات جهة ولا مقابلة.
صفة الاستواء لله: اضطربت أقوال الأشعرية في الاستواء ما بين تأويل وتفويض، فحكى بعضهم أن التفويض مذهب مال إليه المتقدمون من الأشعرية، مما جعل كثيراً من المتأخرين يختارونه بحجة أنه أسلم في زعمهم، وهو الذي ذهب إليه الإمام الشاطبي -رحمه الله- فقد سلك مسلك التفويض، ويرى أن ذلك مذهب السلف، مع أن الحقيقة ليس ذلك بمذهب السلف، وإنما مذهبهم تفويض الكيف والحقيقة لا المعنى.
بقية الصفات السمعية: الوجه، اليدان، العين، الرجل، القدم، الضحك، النـزول: قوله -رحمه الله- في هذه الصفات كقوله في الاستواء، بل صرح -رحمه الله- في موطن آخر أن هذه الصفات جوارح محسوسات لا يجوز إثباتها لله.
قال رحمه الله: "ومثاله في ملة الإسلام: مذهب الظاهرية في إثبات الجوارح للرب المنـزه عن النقائص، من العين، واليد، والرجل، والوجه، المحسوسات، والجهة، وغير ذلك من الثابت للمحدثات".
وكلامه هذا لا شك أنه يدل على أن عقيدته في هذه الصفات عدم الإثبات، إذ سمى إثبات هذه الصفات أنها إثبات جوارح، ولم يقيد ذلك بأن إثباتها مع التنـزيه أن ذلك عقيدة صحيحة.
تعريف الإيمان: كان يقول -رحمه الله- بقول الأشعرية في تعريف الإيمان: إن الإيمان هو التصديق في اللغة والشريعة جميعاً، وإن الأفعال والأعمال من شرائع الإيمان لا من نفس الإيمان.
الكبيرة: يقول بقول أهل السنة والجماعة في مصير مرتكب الكبيرة في الآخرة، حيث يرى أنه تحت المشيئة، إن شاء ربه عذبه، وإن شاء غفر له، وأنه لا يخلد في النار كالكافر إن دخلها.
عذاب القبر ونعيمه: قال: "ولا نكير في كون الميت يعذب برد الروح إليه، ثم تعذيبه على وجه لا يقدر البشر على رؤيته لذلك ولا سماعه".
ومنهج الإمام الشاطبي -رحمه الله- في إثبات الغيبيات والرد على طوائف المبتدعة هو بعينه ما ذكره علماء أهل السنة والجماعة.
ويقول بقول أهل السنة والجماعة في مسألة الميزان، حيث أثبت أنه ميزان صحيح يوزن به الأعمال، وأن حقيقته وكيفية الوزن به غير معلومة لدينا، بل نؤمن به كما يليق بالدار الآخرة.
وسلك مسلك أهل السنة والجماعة في إثبات الصراط يوم القيامة.
كان الإمام الشاطبي -رحمه الله- حريصاً على إحياء السنة وإماتة البدعة، ولما كان المجتمع الغرناطي قد فشت فيه بدع منكرة، فقد تصدى -رحمه الله- لمقاومتها، مما جعله من المشهورين في المجتمع الغرناطي بمقاومة البدع وأهلها.
وفاة الإمام الشاطبي :
وتوفى يوم الثلاثاء الثامن من شهر شعبان سنة790هـ بغرناطة، وبذلك يكون قد عاش أكثر من سبعين عاماً قضاها -رحمه الله- في رحاب العلم الشرعي مكافحاً صابراً في طلب العلم، ونشر الحق وإحياء السنة وإماتة البدعة.
كيف ندرس كتاب عالم بهذه العقيدة؟ وألا يوجد كتاب آخر لعالم سلفي المعتقد؟
الجواب: هناك الكثير من علماء الإسلام الكبار، ولهم مؤلفات كثيرة نفع الله بها، تجد أن هناك ملاحظات إما عليهم أو على كتبهم كابن حجر والنووي وابن الجوزي وغيرهم، ولم يقل أحد بترك كتبهم بل الأمة على مدار تاريخها تَدرس وتُدرّس كتبهم وتنبه على أخطائهم، ولا حرج في ذلك، وطالب العلم يدرك ويميز الخطأ من الصواب، والشاطبي -رحمه الله- أحد هؤلاء العلماء.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- بعد أن ذكر مجموعة من العلماء ممن هم مثل الإمام الشاطبي لهم علم وفضل، ولكنهم شاركوا المبتدعة في بعض أصولهم فقال: "ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعٍ مشكورة وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء من المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء، احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك منهم من يعظمهم؛ لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم؛ لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها، وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [سورة الحشر:10]، ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه؛ تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه والمؤمنين حيث قالوا: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [سورة البقرة:286]" انتهى.
أما جواب السؤال الثاني: ألا يوجد كتاب آخر لعالم سلفي المعتقد؟
فسيأتي الجواب عليه بعد قليل.
كتاب الاعتصام :
من أعظم ما ألف هذا الإمام كتابيه (الموافقات) في أصول الشريعة، و(الاعتصام) في لزوم السنة والتحذير من البدع، وقد كان طرحه في الكتابين طرحاً لم يسبق إليه، فقد قيل: إنه أول من تكلم في مقاصد الشريعة كعلم مستقل، وذلك في كتاب الموافقات، وأول من قعّد علم أصول معرفة البدع في كتاب الاعتصام.
لماذا اخترنا كتاب الاعتصام ليكون هو مادة دراستنا لهذا العام؟
من المتفق عليه عند علماء الاجتماع والسياسة والمؤرخون من الأمم المختلفة غير العرب ومن غير المسلمين على أن العرب لم يكن لهم قيمة ولا وزن، وما نهضوا هذه النهضة التي حيرت العالم في وقتهم من النهضة العلمية والعمرانية والجهادية والأخلاقية وغيرها إلا بتأثير الدين فيهم وهو الإسلام، وما كان يمكن أن يجمع ذلك التفرق والتشتت والقتال بينهم لأتفه الأسباب إلا بالدين، وما أصلح شؤونهم الداخلية والخارجية إلا الإسلام.
وأيضاً من المتفق عليه عند المسلمين وغيرهم وأمر مشاهد للعيان أنه حصل ضعف شديد للمسلمين بعد قوة، وحصل لهم ذل بعد عز، وفقر بعد غنى، وخور وخوف بعد شدة وبأس، وصاروا يطلبون من غيرهم أن يدافع عنهم، في حين أن قوى الأرض كلها كانت في أيديهم، وذهب ملكهم وصاروا دولاً ضعيفة متفرقة، فما سبب ذلك؟
العلمانيون والحداثيون وأصحاب الأقلام المريضة ينسبون هذا الضعف والذل الآن إلى الدين، ويقولون: لنلحق بركب أوربا، إذا أردنا الحضارة فلننبذ ديننا كما نبذت أوربا دينها.
وهذا الكلام فاسد عقلاً وشرعاً ومنطقاً لماذا؟ لأنه لا يمكن أن يكون السبب الواحد هو سبب إصلاح وفساد في وقت واحد، وكما قالوا العلة الواحدة لا يصدر عنها معلولات متناقضة، فكيف يكون الدين سبب لإصلاح من سلف، وهو سبب في إفساد من خلف؟
هذا لا يمكن، إذن فلنبحث عن سبب آخر غير السبب الذي أصلح الأول، فالسبب في سوء من خلف وما أحدثه من بدع ومحدثات في دينه وخلقه وسلوكه وعاداته هي التي فرقت الجماعة، ومزقت الكلمة، وزحزحت عن الصراط المستقيم، وكانت السبب في واقع الأمة اليوم.
من أجل ذلك كان تحرير مسائل البدع والابتداع من أهم ما ينفع المسلمين في أمر دينهم ودنياهم، ويكون أعظم عون للدعاة والمصلحين في هداية الخلق بإذن الله .
وقد كتب كثير من العلماء في البدع، وكان أكثر ما كتبوا في الترهيب والتنفير منها والرد على المبتدعين، وما رأينا أحداً هدُي إلى ما هدي إليه الشاطبي من البحث العلمي الأصولي في هذا الموضوع، وتقسيمه إلى أبواب يدخل في كل باب منها فصول كثيرة، وهذا هو جواب السؤال الثاني.
فقال الباب الأول: في تعريف البدع ومعناها.
الثاني: في ذم البدع وسوء منقلب أهلها.
الثالث: في أن ذم البدع عام وفيه الكلام على شبه المبتدعة، ومن جعل البدع حسنة وسيئة.
الرابع: في مأخذ أهل البدع في الاستدلال.
الخامس: في البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما.
السادس: في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة.
السابع: في الابتداع هل يخص العبادات أن تدخل فيه العادات.
الثامن: في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان.
التاسع: في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين.
العاشر: في بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه المبتدعة.
قال محمد رشيد رضا -رحمه الله- في مقدمة تحقيقه لهذا الكتاب: "لولا أن هذا الكتاب ألف في عصر ضعف العلم والدين في المسلمين لكان مبدأ نهضة جديدة لإحياء السنة، وإصلاح شئون الأخلاق والاجتماع، ولكان المصنف بهذا الكتاب وبصنوه كتاب الموافقات الذي لم يسبق إلى مثله سابق أيضاً من أعظم المجددين في الإسلام.
ولشيخ الإسلام كلام متين ونفيس في البدع، ووضع قواعد وأصول وأحكام لها، لكن كلام شيخ الإسلام لم يجمعه كتاب واحد، فكلامه متفرق في عشرات من كتبه، ولو قام أحد العلماء أو طلاب العلم بجمع كلام ابن تيمية من متفرق كلامه، لكان هذا عملاً جباراً يشكر عليه.
المصدر: موقع المختار الإسلامي.