وماتت أختي الكبيرة
د. بدر عبد الحميد هميسه
كانت أختي الكبيرة كالشجرة الظليلة الوارفة المثمرة التي نفيء إلى ظلها حينما يلفحنا هجير الشمس , كنا نلعب بجوارها وتضمنا بين فروعها , وإذا جعنا تطعمنا من ثمارها . . . أذكر حينما كنت طفلاً وفي الأعوام الأولى من دخولي المدرسة كانت هي التي تتولى إيقاظي فتمشط لي شعري وتلبسني ملابس المدرسة وتجهز حقيبتي وتعد طعامي ثم تأخذني إلى باب المدرسة وتطبع على خدي قبلة الوداع , وبعد انتهاء اليوم الدراسي أخرج فأجدها تنتظرني فتضمني بين أحضانها في حنو وعطف بالغين . .
ويوم ودعتها وهي ذاهبة إلى بيت زوجها . . كان يوماً لا أنساه . ! فقد ظللت أبكي وأتعلق بثوبها وأرجوها لتأخذني معها . . وكانت هي الأخرى تحتضنني وتبكي . . وفي الصباح كنت أول من طرق عليها الباب وارتميت بين أحضانها وكأنني لم أرها منذ سنين . . وكبرنا وكبر حبها في قلوبنا . . وبعد وفاة الوالدة والوالد عليهما رحمة الله . . كانت لنا بمنزلة الأم والأب . . كنا نذهب إليها كلما عرضت لنا مشكلة من مشاكل الحياة صغيرة كانت أو كبيرة . . كان صدرها يسع الجميع . . تسمع من الكل وتشاركه آلامه وآماله . . حتى تعود أولادنا أيضاً الذهاب إليها في كل ما يواجههم من مشكلات . . يبوح لها أحدهم بما لا يستطيع أن يبوح به لوالديه. . وكنتُ كلما أحسست بالضيق والهم أسرع إليها . . فأعود وقد زالت جميع الهموم . . لم أشاهدها يوماً إلا وابتسامة الرضا تعلو وجهها . . ربت أولادها أفضل ما تكون التربية . . وتحملت مع زوجها متاعب الحياة ومصاعبها . . فكانت خير أم . . وكانت نعم الزوجة . .
وفي مرضها الأخير تحملت من الآلام ما تنوء به الجبال . . ولا تقدر عليه الصخور الرواسي . . لكن ابتسامة الرضا لم تفارق وجهها . . وكلمات الحمد والشكر والثناء على الله تعالى لم تبرح لسانها , كنا جميعاً نلتف حولها وقلوبنا تتقطع من الألم عليها . . وكانت كالعادة تحاول أن تخفي آلامها وتواري جراحاتها . . وكلما يشتد عليها الألم تدير وجهها عنا وتوهمنا أنها تحاول النوم . وهي تحاول أن تخفي الألم وتواري الدموع حتى لا نقلق عليها . . ولم تكن مشغولة بمرضها بقدر ما كانت مشغولة بكل واحد منا تسأل عن الجميع وتوصي الكبير بالصغير والصغير بالكبير .
وظل المرض يحاصرها وهي صابرة محتسية لا يكف لسانها عن ذكر ربها . . ويوم وفاتها التففنا جميعا حولها . . وود كل منا لو كان بإمكانه أن يعطيها من عمره ليكون من عمرها ومن عافيته وصحته ليكون من صحتها وعافيتها . . ولكن هيهات هيهات . . لكل أجل كتاب . . ولكل واحد عمر ومآب . . " فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) . سورة الواقعة . طلت تقرأ القرآن . وكلما أفاقت تسأل هل صليت . . هل حان وقت الصلاة ؟ وتردد في إيمان وصدق الشهادتين . . ولم يكف لسانها عن . . الحمد لله . . الحمد لله . . حتى فاضت روحها الطاهرة إلى خالقها . . إنا لله وإنا إليه راجعون . . سبحانك ربي لا يدوم إلا وجهك . . ولا يعز سوى جاهك .. ساعتها أحسسنا باليتم للمرة الثانية , كم هو قاس على النفس موت حبيب وعزيز لديك . . وليس أي حبيب . . وليس أي عزيز . . إن موت الوالدين أو موت الأخ أو موت الأخت قد لا يعوض أبدا , ومما يذكر في كتب الأد ب أنه قد جيء بامرأة إلى الحجاج وقد أسر جنده ابنها وزوجها وأخاها . فقال لها الحجاج:اختاري أحدهم فأطلق سراحه فقالت:يا أمير المؤمنين أما الزوج فهو موجود وأما الابن فهو مولود ولكن الأخ مفقود لذا اخترت الأخ؟ فأعجب الحجاج بذكائها وأطلق سراحهم جميعا .
وللمرة الثانية أودعها ولكن ليس هذه المرة إلى بيت زوجها . . ولكن إلى بيت الدود والتراب . . إلى حيث لن أرها مرة ثانية , ولكن ظني بربي أنه لن يضيع أجر من أحسن عملاً . . وأنه أحن وأرأف بها من الدنيا بما فيها وبمن فيها . . وأنها قد أحسنت البذر وسيحسن الله لها بمشيئته الحصاد. فإنا لله وإنا إليه راجعون . . ولله ما أخذ ولله ما أبقى .ولا إله إلا الله . والله أكبر . . فيا رب اغفر لها وارحمها وأكرم نزلها ووسع مدخلها واجعل قبرها روضة من رياض الجنة وألهمنا الصبر والسلوان والتقوى والإيمان .
أختاه وقد رحلتِ فما عساي أقولُ * * * سوى الحمدُ والتكبيرُ والتهليلُ
قد كنتِ نهراً قد جرى بربوعنا * * * فاض الحنان به وعزّ نزيلُ
قد كنت فجراً قد أضاء بليلنا * * * فالدمع من ألم الفراق يسيلُ
"هدية" من الرحمن جلّ جلاله * * *جُزيت الخير , والثناء جزيلُ
وإلى جنان الخلد نرجو نُعمها ** * سبحان من يَجزي , والرجاءُ قَبولُ
فأنزل علينا الصبر واجعل برده * * * أمناً علينا ’ إنه لجميلُ
يا رب فارحم أختنا واكتب لها * * * أجر الشهادة إنك المأمولُ
راجي عفو ربه
بدر هميسه
البحيرة في : 6 محرم 1431 هـ = 24 / 12 / 2009م
د. بدر عبد الحميد هميسه
كانت أختي الكبيرة كالشجرة الظليلة الوارفة المثمرة التي نفيء إلى ظلها حينما يلفحنا هجير الشمس , كنا نلعب بجوارها وتضمنا بين فروعها , وإذا جعنا تطعمنا من ثمارها . . . أذكر حينما كنت طفلاً وفي الأعوام الأولى من دخولي المدرسة كانت هي التي تتولى إيقاظي فتمشط لي شعري وتلبسني ملابس المدرسة وتجهز حقيبتي وتعد طعامي ثم تأخذني إلى باب المدرسة وتطبع على خدي قبلة الوداع , وبعد انتهاء اليوم الدراسي أخرج فأجدها تنتظرني فتضمني بين أحضانها في حنو وعطف بالغين . .
ويوم ودعتها وهي ذاهبة إلى بيت زوجها . . كان يوماً لا أنساه . ! فقد ظللت أبكي وأتعلق بثوبها وأرجوها لتأخذني معها . . وكانت هي الأخرى تحتضنني وتبكي . . وفي الصباح كنت أول من طرق عليها الباب وارتميت بين أحضانها وكأنني لم أرها منذ سنين . . وكبرنا وكبر حبها في قلوبنا . . وبعد وفاة الوالدة والوالد عليهما رحمة الله . . كانت لنا بمنزلة الأم والأب . . كنا نذهب إليها كلما عرضت لنا مشكلة من مشاكل الحياة صغيرة كانت أو كبيرة . . كان صدرها يسع الجميع . . تسمع من الكل وتشاركه آلامه وآماله . . حتى تعود أولادنا أيضاً الذهاب إليها في كل ما يواجههم من مشكلات . . يبوح لها أحدهم بما لا يستطيع أن يبوح به لوالديه. . وكنتُ كلما أحسست بالضيق والهم أسرع إليها . . فأعود وقد زالت جميع الهموم . . لم أشاهدها يوماً إلا وابتسامة الرضا تعلو وجهها . . ربت أولادها أفضل ما تكون التربية . . وتحملت مع زوجها متاعب الحياة ومصاعبها . . فكانت خير أم . . وكانت نعم الزوجة . .
وفي مرضها الأخير تحملت من الآلام ما تنوء به الجبال . . ولا تقدر عليه الصخور الرواسي . . لكن ابتسامة الرضا لم تفارق وجهها . . وكلمات الحمد والشكر والثناء على الله تعالى لم تبرح لسانها , كنا جميعاً نلتف حولها وقلوبنا تتقطع من الألم عليها . . وكانت كالعادة تحاول أن تخفي آلامها وتواري جراحاتها . . وكلما يشتد عليها الألم تدير وجهها عنا وتوهمنا أنها تحاول النوم . وهي تحاول أن تخفي الألم وتواري الدموع حتى لا نقلق عليها . . ولم تكن مشغولة بمرضها بقدر ما كانت مشغولة بكل واحد منا تسأل عن الجميع وتوصي الكبير بالصغير والصغير بالكبير .
وظل المرض يحاصرها وهي صابرة محتسية لا يكف لسانها عن ذكر ربها . . ويوم وفاتها التففنا جميعا حولها . . وود كل منا لو كان بإمكانه أن يعطيها من عمره ليكون من عمرها ومن عافيته وصحته ليكون من صحتها وعافيتها . . ولكن هيهات هيهات . . لكل أجل كتاب . . ولكل واحد عمر ومآب . . " فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) . سورة الواقعة . طلت تقرأ القرآن . وكلما أفاقت تسأل هل صليت . . هل حان وقت الصلاة ؟ وتردد في إيمان وصدق الشهادتين . . ولم يكف لسانها عن . . الحمد لله . . الحمد لله . . حتى فاضت روحها الطاهرة إلى خالقها . . إنا لله وإنا إليه راجعون . . سبحانك ربي لا يدوم إلا وجهك . . ولا يعز سوى جاهك .. ساعتها أحسسنا باليتم للمرة الثانية , كم هو قاس على النفس موت حبيب وعزيز لديك . . وليس أي حبيب . . وليس أي عزيز . . إن موت الوالدين أو موت الأخ أو موت الأخت قد لا يعوض أبدا , ومما يذكر في كتب الأد ب أنه قد جيء بامرأة إلى الحجاج وقد أسر جنده ابنها وزوجها وأخاها . فقال لها الحجاج:اختاري أحدهم فأطلق سراحه فقالت:يا أمير المؤمنين أما الزوج فهو موجود وأما الابن فهو مولود ولكن الأخ مفقود لذا اخترت الأخ؟ فأعجب الحجاج بذكائها وأطلق سراحهم جميعا .
وللمرة الثانية أودعها ولكن ليس هذه المرة إلى بيت زوجها . . ولكن إلى بيت الدود والتراب . . إلى حيث لن أرها مرة ثانية , ولكن ظني بربي أنه لن يضيع أجر من أحسن عملاً . . وأنه أحن وأرأف بها من الدنيا بما فيها وبمن فيها . . وأنها قد أحسنت البذر وسيحسن الله لها بمشيئته الحصاد. فإنا لله وإنا إليه راجعون . . ولله ما أخذ ولله ما أبقى .ولا إله إلا الله . والله أكبر . . فيا رب اغفر لها وارحمها وأكرم نزلها ووسع مدخلها واجعل قبرها روضة من رياض الجنة وألهمنا الصبر والسلوان والتقوى والإيمان .
أختاه وقد رحلتِ فما عساي أقولُ * * * سوى الحمدُ والتكبيرُ والتهليلُ
قد كنتِ نهراً قد جرى بربوعنا * * * فاض الحنان به وعزّ نزيلُ
قد كنت فجراً قد أضاء بليلنا * * * فالدمع من ألم الفراق يسيلُ
"هدية" من الرحمن جلّ جلاله * * *جُزيت الخير , والثناء جزيلُ
وإلى جنان الخلد نرجو نُعمها ** * سبحان من يَجزي , والرجاءُ قَبولُ
فأنزل علينا الصبر واجعل برده * * * أمناً علينا ’ إنه لجميلُ
يا رب فارحم أختنا واكتب لها * * * أجر الشهادة إنك المأمولُ
راجي عفو ربه
بدر هميسه
البحيرة في : 6 محرم 1431 هـ = 24 / 12 / 2009م