لم تكن مسيرة قطار المناخ المتوجه الى كوبنهاجن خالية من العقبات، إذ ارتفعت أثناءها وتيرة الجدل والتشكيك بظاهرة التغير المناخي ذاتها أو، في أحسن الاحوال، بالدور البشري في تفاقم التغيرات التي يشهدها كوكب الأرض.
استعر هذا الجدل في الغرب، أخيرا، بسبب بعض الرسائل الإلكترونية التي تبادلها علماء مختصون بالتغير المناخي وتسلل إليها قراصنة الإنترنت، وتفيد بأن الأرقام المتعلقة بالتغيرات المناخية قد تعرضت لتعديل يتوخى جعل الظاهرة تبدو وكأنها أكبر حجما وأشد وقعا مما هي عليه في حقيقة الأمر .
وقد استقبل المشككون في ظاهرة الاحتباس الحراري وأسبابها حكاية الرسائل الإلكترونية المقرصنة، والصادرة من علماء في جامعة إيست إنجليا البريطانية وكأنها صيد ثمين، لتصب في طاحونة الجدل المتواصل.
ويقول هؤلاء إن الرسائل المتبادلة تكشف عن محاولات بذلتها أوساط معنية بالمناخ لاخفاء معلومات تقلل من دور النشاط البشري عن رفع درجة حرارة الكون.
كان ذلك متزامنا مع عقد قمة المناخ في العاصمة الدنماركية، كوبنهاجن، التي تهدف أساسا إلى التوصل إلى اتفاق ملزم يخلف بروتوكول كيوتو الذي ينتهي العمل به عام 2012.
وقد استخدمت الرسائل المقرصنة من قبل كثيرين بينهم شركات واحتكارات ومفاوضون سعوديون ضمن الوفد إلى المؤتمر، وكذلك ساسة أمريكيون (جمهوريون غالبا)، لتبرير الموقف من الظاهرة والدور البشري فيها.
كما يهدف استخدامها للتقليل من شأن الدعوات لاتخاذ إجراءات حاسمة وسريعة للحد من انبعاث الغازات الضارة، وهي تطال في جزء كبير منها استخدام الوقود التقليدي (الإحفوري) في الصناعات ووسائل النقل وغير ذلك.
لكن الأمم المتحدة تصدت للفكرة القائلة إن دور العامل البشري مبالغ فيه، واستبعدت أي شك في ارتفاع درجة حرارة الكون، الذي يستمد معطياته من "قياسات أجرتها مؤسسات علمية مستقلة في أنحاء مختلفة من العالم"، كما قالت اللجنة الدولية للتغير المناخي.
جسر بالقرب من مقر انعقاد مؤتمر كوبنهاجن ملون بإضاءة رمزية عن التغير المناخي
وترى اللجنة الدولية ان ثمة "تغيرات بيّنة" سواء على اليابسة أو في المحيطات أو في مناطق الكوكب الجليدية أضافة الى التغيرات في الغلاف الجوي.
خلط السياسة بالعلم
لكن حجم ذلك الجدل المناخي يصل أحيانا إلى حد الخلط بين السياسة والعلم بما يخدم مصالح معينة ويؤشر الى انقسام عالمي ما بين يمين ويسار محوره الاحتباس الحراري وجودا وأسبابا.
ورغم ان الامر يبدو وكأنه يتجه إلى مستوى من التعقيد، في بعض جوانبه، خصوصا مع مشاركة علماء وأكاديميين فيه، إلا أن هناك ما يشير، في جوانب أخرى، الى نقاط التقاء بين غالبية المعسكرين خصوصا في عدم التشبث بمواقف يقينية من أسباب وحجم التغيرات المناخية.
لكن الاختلاف حول مستوى الظاهرة وحتميتها وأسبابها ودور الطبيعة والبشر فيها، قائم دائما.
ويضم المعسكران كلاهما، معسكر التشكيك بالظاهرة أو الإيمان بها، علماء وكتابا واقتصاديين وساسة وناشطين إضافة الى صحف تتبنى مواقف أحد الطرفين.
ويجري الحديث حاليا في الأوساط المهتمة بالتغيرات المناخية عن كتاب بعنوان "السماء والأرض" لاستاذ علم الجيولوجيا الاسترالي، البروفيسور إيان بليمر، والذي يشكك فيه بحدوث أضرار إضافية يسببها ثاني أوكسيد الكربون على المناخ، ويعتبر ارتفاع حرارة الأرض "ميزة" لصالح سكان الأرض، كما يعتقد أن النشاط في مجال التغير المناخي "ضرب من الأصولية الدينية".
وقد لقي الكتاب رواجا جيدا وطبع بضع مرات في بريطانيا. بل أن هناك من يرى أنه دفع نفرا من السياسيين، في استراليا وبريطانيا وغيرهما، الى تبني أفكاره والتخلي عن مواقفهم السابقة بالوقوف الى جانب إجراءات عالمية لدرء خطر التغير المناخي.
كما تشير دراسة حديثة أجراها فريق من جامعة بريستول البريطانية الى أنه بالرغم من ارتفاع كمية الكربون المنبعث خلال العقود الأخيرة، فإن الارض قادرة على امتصاص كميات كبيرة منه.
وترى الدراسة ان للمحيطات والغابات الاستوائية دورا مهما في خزن كميات الكربون، إذ انها "قادرة على امتصاص نصف كمية الكربون" الناتجة من النشاط البشري، وهذه النسبة "لم تتغير عبر فترة القرن ونصف القرن الماضية".
"خدمة الطبيعة المجانية"
غير أن علماء من الفريق الآخر يرفضون فكرة تحميل الطبيعة المسؤولية الكاملة عن العلة وعلاجها ويدعون الى عدم الركون الى ما يصفونه بـ "الخدمة المجانية" التي تقدمها الطبيعة "لأنها غير كافية"، ويدعون لإجراءات حاسمة لوقف تدهور المناخ بسبب النشاط الإنساني.
اقتتاح قمة كوبنهاجن للمناخ
والاعتماد الكلي على تلك "الخدمة المجانية" قد يصل بكوكبنا، حسب رأيهم، الى الرقم الخطير في مستوى ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي، أي 450 جزءا لكل مليون، إذا ظلت معدلات التلوث الكوني على حالها.
علما أن مستوى ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي يصل حاليا الى 386 جزءا لكل مليون أي انه تجاوز الحد المقبول وهو 350 جزءا لكل مليون، بينما كان أيام الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر نحو 280، ما يعني أن معدل الارتفاع السنوي بحدود جزءين لكل مليون.
لهذا يبدو لفريق من العلماء أن الوصول الى الرقم المخيف (450 جزءا لكل مليون)، وهو أقصى حد مسموح به قبل ارتفاع درجة حرارة الأرض بدرجة كارثية، أمر ليس مستبعد.
وهم يطالبون دول العالم بإحداث تغييرات في مجال التنمية الاقتصادية باستخدام وسائل تقلل من مستوى الكربون بما يحافط على ديمومة الاقتصاد العالمي اضغط هنا وينقذ كوكب الارض.
"سفينة تايتانك"
ويشبه هانز يواكيم شلنهوبر رئيس معهد بوتسدام الألماني ومستشار الاتحاد الأوروبي في مجال المناخ، سكان الأرض بـ "المبحرين على السفينة تايتانك" لكنه يؤكد على أن هناك "رؤية واضحة للمشكلة التي أمامنا".
ويقول شلنهوبر إنه يأمل أن يكون هو وزملاؤه قد أغفلوا "مؤثرات قد يكون لها دور في كبح التغير المناخي"، لكنه يشير إلى أن من هم ضمن الفريق الآخر المشكك يمكن أن يكونوا "مخطئين ويسيئون تقدير آليات التغير المناخي".
أما اللورد نيكولاس ستيرن، الاقتصادي البريطاني، المعروف بدراساته حول عواقب التغير المناخي، فيقف الى جانب ضرورة إجراءات حاسمة ويعتقد أن على أوروبا أن تتخذ إجراء بخفض انبعاث الغازات بنسبة 30 بالمئة بحلول 2020. ويعتقد أن التلكؤ في اتخاذ إجراءات حاسمة كهذه "قد يضعنا أمام خطر تغيير جغرافي غير قابل للإصلاح".
ويؤكد جميع الداعين الى وقف التدهور البيئي على أن تتحمل الدول والمجموعات الصناعية الكبرى كالولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبية مسؤولية تتناسب مع حجم مساهمتهم بتلويث البيئة. ويبدون تفاؤلا حذرا في اضغط هنا تغيير إدراة الرئيس باراك أوباما الموقف المعتاد للإدارة الجمهورية السابقة.
تقنيات الهندسة البيئية
وفي الاتجاه نفسه يحذر تقرير صدر حديثا عن "اللجنة العلمية لبحوث القطب الجنوبي" من أنه اذا استمرت درجة الحرارة بالارتفاع وفق المعدل الحالي فإن مستوى سطح البحر سيرتفع خلال العقود القادمة بما يهدد بعض البلدان – الجزر والمدن الكبرى بل قد يزيلها من الخريطة.
وقد تبدو الصورة أكثر قتامة في تقرير للجنة التغير المناخي الدولية يرد فيه أن خفضا كبيرا في انبعاث الكربون قد لا يكون كافيا لتجنب "التأثير المدمر للاحتباس الحراري" مما يدفع الى الاضطرار لسحب كميات من ثاني أوكسيد الكربون الموجود أصلا في الجو بفعل حرق الوقود.
ويقترح في هذا المجال استخدام تقنيات الهندسة البيئية مثل نشر غيوم اصطناعية فوق المحيطات تعكس الحرارة باتجاه الفضاء، وزرع اشجار قادرة على امتصاص الغازات الضارة، إضافة الى اعتماد أسلوب المباني المغطاة بالأشنات التي تمتص ثاني أوكسيد الكربون أو المباني العاكسة للحرارة.
ومع استمرار الاختلاف والجدل على صعيد الأفراد والهيئات، تتجه الأنظار إلى قمة كوبنهاجن على أمل تقليص الهوة بين مواقف الدول الحاضرة خصوصا بين أغنياء العالم وفقرائه، في عالم يتنامى عدد سكانه ويواجه نقصا في الماء والغذاء وما ينتج عن ذلك من صراعات.