الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه
.
أما بعد :
فقد تكرر السؤال من كثير عن حكم
الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، والقيام له في أثناء ذلك ، وإلقاء
السلام عليه ، وغير ذلك مما يفعل في الموالد .
والجواب أن يقال :
لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول صلى
الله عليه وسلم ، ولا غيره ؛ لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين ؛ لأن الرسول
صلى الله عليه وسلم لم يفعله ، ولا خلفاؤه الراشدون ، ولا غيرهم من الصحابة ـ
رضوان الله على الجميع ـ ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة ، وهم
أعلم الناس بالسنة ، وأكمل حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومتابعة لشرعه
ممن بعدهم .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أحدث في أمرنا هذا ما
ليس منه فهو رد " ، أي : مردود عليه ، وقال في حديث آخر : " عليكم بسنتي وسنة
الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ،
وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة " .
ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع والعمل بها .
وقد قال الله سبحانه في كتابه المبين : ( ومآ ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم
عنه فانتهوا ) ( سورة الحشر : 7 ) ، وقال عز وجل : ( فليحذر الذين يخالفون عن
أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) ( سورة النور : 63 ) ، وقال
سبحانه : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم
الآخر وذكر الله كثيراً ) ( سورة الأحزاب : 21 ) ، وقال تعالى : ( والسابقون
الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا
عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم )
( سورة التوبة : 100 ) ، وقال تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم
نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ) ( سورة المائدة : 3 ) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة .
وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه : أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة
، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به ، حتى
جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به ، زاعمين : أن ذلك
مما يقربهم إلى الله ، وهذا بلا شك فيه خطر عظيم ، واعتراض على الله سبحانه ،
وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين ، وأتم
عليهم النعمة .
والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين ، ولم يترك طريقاً يوصل إلى
الجنة ويباعد من النار إلا بينه للأمة ، كما ثبت في الحديث الصحيح ، عن
عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما
بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ،
وينذرهم شر ما يعلمه لهم " رواه مسلم في صحيحه .
ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وخاتمهم ، وأكملهم
بلاغاً ونصحاً ، فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله سبحانه
لبيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة ، أو فعله في حياته ، أو فعله
أصحابه رضي الله عنهم ، فلما لم يقع شيء من ذلك علم أنه ليس من الإسلام في
شيء ، بل هو من المحدثات التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منها أمته ، كما
تقدم ذكر ذلك في الحديثين السابقين .وقد جاء في معناهما أحاديث أُُخر ، مثل
قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة : " أما بعد : فإن خير الحديث كتاب
الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل
بدعة ضلالة " رواه الإمام مسلم في صحيحه .
والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة .
وقد صرح جماعة من العلماء بإنكار الموالد والتحذير منها ؛ عملاً بالأدلة
المذكورة وغيرها .
وخالف بعض المتأخرين فأجازها إذا لم تشتمل على شيء من المنكرات ؛ كالغلو في
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكاختلاط النساء بالرجال ، واستعمال آلات
الملاهي ، وغير ذلك مما ينكره الشرع المطهر ، وظنوا أنها من البدع الحسنة .
والقاعدة الشرعية : رد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله ، وسنة رسوله محمد
صلى الله عليه وسلم .
كما قال الله عز وجل : ( يآأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون
بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً ) ( سورة النساء : 59 ) ، وقال
تعالى : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) ( سورة الشورى : 10 ) .
وقد رددنا هذه المسألة ـ وهي الاحتفال بالموالد ـ إلى كتاب الله سبحانه ،
فوجدنا يأمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ويحذرنا عما نهى
عنه ، ويخبرنا بأن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها ، وليس هذا الاحتفال
مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيكون ليس من الدين الذي أكمله الله
لنا وأمرنا باتباع الرسول فيه ، وقد رددنا ذلك ـ أيضاً ـ إلى سنة الرسول صلى
الله عليه وسلم فلم نجد فيها أنه فعله ، ولا أمر به ولا فعله أصحابه رضي الله
عنهم ، فعلمنا بذلك أنه ليس من الدين ، بل هو من البدع المحدثة ، ومن التشبه
بأهل الكتاب من اليهود والنصارى في أعيادهم .
وبذلك يتضح لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق وإنصاف في طلبه أن الاحتفال
بالموالد ليس من دين الإسلام ، بل هو من البدع المحدثات التي أمر الله سبحانه
ورسوله صلى الله عليه وسلم بتركها والحذر منها .
ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس في سائر الأقطار ، فإن
الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين ، وإنما يعرف بالأدلة الشرعية ، كما قال تعالى
عن اليهود والنصارى : ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك
أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) ( سورة البقرة : 111 ) ، وقال
تعالى : ( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) ( سورة الأنعام :
116 ) .
ثم إن غالب هذه الاحتفالات بالموالد مع كونها بدعة لا تخلو من اشتمالها على
منكرات أخرى ؛ كاختلاط النساء بالرجال ، واستعمال الأغاني والمعازف ، وشرب
المسكرات والمخدرات ، وغير ذلك من الشرور ، وقد يقع فيها ما هو أعظم من ذلك
وهو الشرك الأكبر ، وذلك بالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو غيره
من الأولياء ، ودعائه والاستغاثة به وطلبه المدد ، واعتقاد أنه يعلم الغيب ،
ونحو ذلك من الأمور الكفرية التي يتعاطاها الكثير من الناس حين احتفالهم
بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ممن يسمونهم بالأولياء .
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إياكم والغلو في الدين ،
فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " لا
تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبده ، فقولوا : عبد الله
ورسوله " أخرجه البخاري في صحيحه من حديث عمر رضي الله عنه .
ومن العجائب والغرائب : أن الكثير من الناس ينشط ويجتهد ي حضور هذه
الاحتفالات المبتدعة ، ويدافع عنها ، ويتخلف عما أوجب الله عليه من حضور
الجمع والجماعات ، ولا يرفع بذلك رأساً ، ولا يرى أنه أتي منكراً عظيماً ،
ولا شك أن ذلك من ضعف الإيمان وقلة البصيرة ، وكثرة ما ران على القلوب من
صنوف الذنوب والمعاصي ، نسأل الله العافية لنا ولسائر المسلمين .
ومن ذلك : أن بعضهم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر المولد ؛ ولهذا
يقومون له محيين ومرحبين ، وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل ، فإن الرسول صلى
الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة ، ولا يتصل بأحد من الناس ،
ولا يحضر اجتماعاتهم ، بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة ، وروحه في أعلى
عليين عند ربه في دار الكرامة ، كما قال الله تعالى في سورة المؤمنون ( 15 ـ
16 ) : ( ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة ،
وأنا أول شافع ، وأول مُشَفَّعٍ " عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام .
فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف وما جاء في معناهما من الآيات والأحاديث ،
كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات إنما يخرجون من
قبورهم يوم القيامة ، وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين ليس فيه نزاع
بينهم ، فينبغي لكل مسلم التنبه لهذه الأمور ، والحذر مما أحدثه الجهال
وأشباههم من البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سطان . والله المستعان
وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به .
أما الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي من أفضل القربات ،
ومن الأعمال الصالحات ، كما قال تعالى : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي
يآ أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ) ( سورة الأحزاب : 56 ) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من صلى عليَّ واحدة صلى الله عليه بها
عشراً " ، وهي مشروعة في جميع الأوقات ، ومتأكدة في آخر كل صلاة ، بل واجبة
عند جمع من أهل العلم في التشهد الأخير من كل صلاة ، وسنة مؤكدة في مواضع
كثيرة ، منها بعد الأذان ، وعند ذكره عليه الصلاة والسلام ، وفي يوم الجمعة
وليلتها ، كما دلت على ذلك أحاديث كثيرة .
والله المسؤول أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه ، وأن
يمن على الجميع بلزوم السنة والحذر من البدعة ، إنه جواد كريم .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وآله وصحبه .
|
رسالة " حكم الاحتفال بالمولد النبوي " |
|
الشيخ الإمام عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله |