[center][center]وجوبُ صلاةِ الجماعةِ وفضلُها- خطبة لسماحة المفتي عبد العزيز آل الشيخ
ونستعينُه ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن
سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ؛ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل؛ فلا هاديَ
له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا
عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه، وعلى آلهِ، وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا
كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمَّا بعدُ:
فيا أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ
التقوى.
عبادَ الله، المساجدُ بيوتُ اللهِ، فيها يُعبد اللهُ
ويذكرُ اسمُه، وزُوَّارُها هم عُمَّارُها، هي منارُ الهُدَى، وشعيرةُ
الإسلامِ الظاهرةِ، (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ
فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) [الجن:18]، وهي خيرُ بقاعِ الأرضِ، وأحبُّها إلى اللهِ، فيها يُتَلَقَّى
العلمُ ويَنتشِرُ، وفي الحديث: "وما اجتمعَ قومٌ في
بيتٍ من بيوتِ اللهِ، يَتلون كتابَ اللهِ، ويَتدارَسونه بينهم، إلا نَزَلت
عليهم السكينةُ، وغَشِيَتهم الرحمةُ، وحَفَّتهم الملائكةُ، وذكرهم اللهُ
فيمن عندَه"، إنّ بناءَ المساجدِ فضلُه عظيمٌ، وفي الحديثِ عنه
صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "من بَنى للهِ مسجدًا
بنَى اللهُ له بيتًا في الجنّةِ"، وقاصِدوها هم المؤمنون، يقولُ
اللهُ جلَّ وعلا: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ
اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [التوبة:18]، وفي الحديث يُروى عنه صلى
اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "إذا رأيتم المرءَ يعتادُ
المسجدَ؛ فاشهدوا له بالإيمانِ"، وبناءُ المساجدِ عَهِدَهُ اللهُ
إلى صفوةِ الخلقِ من أنبيائِه ورُسلِه، قال اللهُ عن إبراهيمَ عليه السلام:
(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ
الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) [البقرة:]، وقال: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [البقرة:125]، وأولياءُ اللهِ هم عُمَّارُ المساجدِ (إِنَّمَا
يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ
فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة:18]، والماشِي لها في الظُّلُماتِ
مَوعودٌ بالنُّورِ التّامِ يومَ القيامةِ، يقولُ صلَّى اللهُ عليه
وسلَّمَ: "بَشِّرِ المشَّائين في الظُّلَمِ إلى
المساجدِ بالنُّّورِ التامِ يومَ القيامةِ"، والساعِي للمسجدِ
ذهابًا وإيابًا، يَتَّخِذُ نُزُلًا في الجنةِ ففي الحديثِ عنه صلَّى اللهُ
عليه وسلَّمَ قال: "من غدَا إلى المسجدِ أو راحَ
أعَدَّ اللهُ له نُزُلًا في الجنَّةِ كُلَّما غدا أو راحَ"،
والمُلازِمُ لها، ومن تَعَلَّقَ قلبُه بها يُظِّلُه اللهُ تحتَ ظِلِّ عرشِه
يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ فلمَّا أخبرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن
السبعةِ الذينَ يُظِّلُهم اللهُ يومَ القيامةِ تحتَ ظلِّهِ ذَكَرَ منهم
رجلًا قلبُه معلقٌ بالمساجدِ، والمُحافظةُ عليها، والمحافظةُ على أداءِ
الصلواتِ في المساجدِ علامةُ خيرٍ، والتخلُّفُ عنها علامةُ نفاقٍ وانشقاقٍ،
يقول عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه: "من
سَرَّهُ أن يلقَى اللهَ غدًا مُسلِمًا؛ فليُحافظْ على هؤلاءِ الصَّلواتِ
الخمسِ، حين يُنادَى بهنّ؛ فإنَّ اللهَ شَرَعَ لنبيِّكم سننَ الهُدى،
وإنّهنّ من سننِ الهُدى، ولو صلَّيتُم في بُيوتِكم، كما يُصَلِّي
المتخلِّفُ في بيته، لتركتُم سُنَّةَ نبيِّكم، ولو تركتم سنّةَ نبيِّكم
لَضلَلْتم، ولقد رأيتُنا وما يَتَخَلَّفُ عنها -أي عن الصلاة في المسجد-
إلا مُنافِقٌ معلومُ النفاقِ، وإنه ليُأتَى بالرجلِ يُهادَى بين الرجلين،
حتى يُقامَ في الصفِّ".
ومن عِظَمِ شأنِها أنّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه
وسلَّمَ، لما هاجر إلى المدينةِ، واستقَرَّ قرارُه بها؛ فأوَّلُ عملٍ
عَمِلهُ أن بَنَى مسجِدَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهكذا المسلمون في
أقطارِ الدُّنيا، لمَّا فتحوا البلادَ، جعلوا المساجدَ من أوَّلِ
مُهِمَّاتِهم؛ فَشَيَّدوها وأقاموها؛ لعلمِهم بعظيمِ شأنِها، وأنها إظهارٌ
لشعائرِ الإسلامِ، تِلْكمُ الشعيرةُ العظيمةُ الشأنِ.
أيُّها المسلمُ، وإنَّ صلاةَ الجماعةِ، وإنّ أداءَ
الصلواتِ الخمسِ جماعةً في المسجدِ، هي سنَُّةُ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه
وسلَّمَ وأصحابِه الكرامِ والسائرينَ على نَهجِهم إلى يومِ لقاءِ اللهِ،
واللهُ جلّ وعلا أَمَرَ نبيَّه أن يُقيمَ الصَّلاةَ جماعةً في حالةِ
مُواجهةِ العَدُّوِ (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ
لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) الآية [النساء:]ٍ، فلو كان الأمرُ سهلًا؛ لصلَّى
كُلُّ واحدٍ في مكانه، لكن لِعِظَمِ شأنِها وعِظَمِ قدْرِها، وما لها في
النفوسِ من أثرٍ عظيمٍ، أمَرَ اللهُ نبيَّه أن يُقيمَها في تلك الحالةِ
الحَرِجَةِ الضَّيِّقَةِ، ذلك دليلٌ على أهمِيَّتِها، واسْمَعِ اللهَ يقولُ
لنبيِّه: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة:]، قال بعضُهم: صلوا مع
المصلين.
أيُّها المسلمُ، يَروِي مالكُ بنالحُوَيْرِثِ رضيَ
اللهُ عنه قال: وَفَدْنا على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛
فأقمْنا عندَهُ عِشرِينَ يومًا، فرأى شوقَنا لِأَهْلِينا -وكان رفيقا صلى
الله عليه وسلم-؛ فقال: "انصرِفوا وعلِّموهم
الصلاةَ؛ فإذا حَضَرَتِ الصَّلاةُ؛ فليُؤذِّنْ أحدُكم وليؤُمَّكم أكبرُكم"،
فأمرَهم بأدائِها جماعةً، وهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَوَعَدَّ
المُتخَلِّفينَ عن المسجدِ لأداءِ الصَّلاةِ، تَوَعَدَّهم بالوعيدِ
الشديدِ؛ فقال: "أثقلُ الصَّلاة على المُنافقينَ
صلاةُ العشاءِ والفجرِ، ولو يعلمون ما فيهما؛ لَأتَوْهما ولو حبوًا، ولقد
هممتُ أن آمرَ بالصَّلاةِ؛ فتُقامَ، ثمَّ آمرَ رجُلًا؛ فيَؤُمَّ الناسَ، ثم
أَنطلقَ بحُزُمٍ من حطبٍ إلى قومٍ لا يَشهدون الصَّلاةَ؛ فَأُحَرِّقَ
عليهم بُيوتَهم، ولو ما فيها من النساءِ والذُرِيَّةِ؛ لحَرَّقتُها عليهم".
وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يتفقَّدُ أصحابَه من
الفجرِ، فيقولُ: "أشاهدٌ فلانٌ؟ أشاهدٌ فلانٌ"،
قال ابن عمر رضي الله عنه: "كان الرجلُ إذا تَخَلَّفَ عن صلاةِ العشاءِ والفجرِ، أسأْنا به
الظن" أن يكون نافق؛ لأنّ المؤمنَ حريصٌ على الجماعةِ مُهتَمٌّ
بها مُعتَنٍ بها؛ لعلمه بفضائلِها ومزاياها.
أيُّها المسلمُ، ولصلاةِ الجماعةِ فوائدُ عظيمةٌ؛
فمنها أن المُصَلِّيَّ لها في المسجدِ، يَحوزُ سبعًا وعِشرينَ ضِعفًا، أو
خمسًا وعشرين ضِعفًا على صلاتِهِ في بيتِه، يقولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
"صلاةُ الرجلِ في المسجدِ تُضاعَفُ على صلاتِه في
بيتِه، وفي سُوقِهِ خمسًا وعشرين ضِعفا، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء
ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يَخطُ خَطوةً إلا كتب اللهُ له
بها حسنةً، وحَطَّ عنه بها خطيئةً، فإذا صَلَّى لم تَزَلِ الملائكةُ
تُصلِّي عليه ما دام في مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عليه، اللَّهمَّ
اغفر له، اللَّهمَّ ارحمه، ولا يَزالُ في صلاةٍ، ما انتظر الصلاةَ
"، فهل عاقلٌ يَحرِمُ نفسَه هذا الثوابَ العظيمَ؟ هل عاقلٌ يُفَوِّتُ على
نفسه هذا الثوابَ العظيمَ والعطاءَ الجزيلَ؟، قال بعضُ السلفِ: "لو أن
سوقًا أقيمَ، وقيلَ إن درهمَه يأتي بخمسٍ وعشرينَ درهمًا لرأيتََ من
يَأتيِه، ولو حَبْوًا مع أنها أخبارا قد تكون صادقةً وقد تكون كاذبةً،
فكيف بإخبارِ الصَّادِقِ المصدوقِ، الذي لا ينطِقُ عن الهوى، إن هو إلا
وحي يُوحَى، ومن فوائدِ الجماعةِ أن من صَلَّى الفجرَ في جماعةٍ كان كمن
قامَ الليلَ كُلَّه، ومن فوائدِها أيضًا أن إقامتَها عصمةٌ للمسلمِ من
الشيطانِ، ففي الحديث: "ما من ثلاثة في قريةٍ أو
بدوٍ أو باديةٍ، لا يُقيمون الصلاةَ إلا استحوذَ عليهم الشيطانُ".
أيُّها المسلمُ، أيُّها المؤمنُ، إنّ أداءَ
الصَّلاةِ جماعةً فيه الخيرُ العظيمُ، إن النبيَّ يقول: "يَتَعاقَبون فيكم
ملائكةٌ بالليلِ، وملائكةٌ بالنهارِ، فيعرجُ الذين باتوا فيكم إلى ربِّهم؛
فيسألُهم: كيف عبادي؟ قالوا: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون".
أيُّها المسلمُ، فضلُ اللهِ عليك عظيمٌ في هذه
الدنيا، تأتي المسجدَ كُلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ حسناتٌ تُكتبُ، وسيِّئاتٌ
تُمحَى عنك، تَؤُمُّ هذا المسجدَ، الذي أُقِيمَ لذِكرِ اللهِ، لأداءِ
الطاعةِ والعبادةِ، فما شُرِعَ الأذانُ والإعلامُ، وما بُنِيت المساجدُ إلا
ليُقامَ فيها ذِكرُ اللهِ إلا لتُؤَدَّى فيها هذه الفريضةُ، فأعظمُ شيءٍ
يُؤَدَّى في المسجدِ تِلكُم الصَّلواتُ الخمسُ، التي أداؤُها علامةُ
الإيمانِ، لمَّا تُوُفِيَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وكان أميرها إذ
ذاك عتَّابُ بن أَسِيدٍ، فاختفى خوفًا من أهلِ مكَّةَ؛ لأنهم حديثو عهدٍ
بالإسلامِ، ولكنّ الصحابيَّ سُهيلَ بنَ عمرو جعله اللهُ سببًا لثباتِهم
على الحق؛ فقال لهم: "يا أهلَ مكةَ، لا تكونوا آخر
الناس إسلاما، وأوَّلَهم خروجًا من الإسلام"؛ فثبَّتهم اللهُ بهذه
المقالةِ، ثمّ خطبَهم عتَّابُ بن أَسِيدٍ فقال: "يا
أهلَ مكةَ، واللهِ لا يبلغُني عن أحدٍ أنه عَطَّلَ مسجدًا، أو تركه إلا
ضربتُ عُنُقَه"؛ لأنهم يعلمون أن حضورَ المساجدِ، دليلٌ على التزامِ
الإيمانِ، والثباتِ عليه.
أخي المسلم، إنك تَعلمُ أن نبيَّكَ صلَّى اللهُ عليه
وسلَّمَ كان يَؤُمُّ أصحابَه في مسجدِه في كُلِّ أحوالِه، ما لم يَكُنْ
مريضًا أو يَكُن مُسافِرًا؛ فكان مُلازِمًا لأداءِ الجماعةِ، وخلفاؤُه
الراشدون وأئمةُ الإسلامِ، وعلماءُ الأمَّةِ كُلُّهم على هذا المنوالِ
العظيمِ، يقولُ ابنُ قيِّم الجُوزِيَّةِ -رحمه اللهُ-: "ومن تَأَمَّلَ
سنّةَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ حَقَّ التَّأَمُّل رأى حَقًّا أن
الصَّلواتِ الخمسَ في الجماعةِ فرضٌ على الأعيانِ، رأى أن أداءَ الصَّلواتِ
الخمسِ في المساجدِ، فرضٌ على الأعيان، ولا يَسقُطُ إلا بعذرٍ شرعِيٍّ،
يُبيحُ له تركَ الجمعةِ والجماعةِ"، تقولُ عائشةُ رضيَ اللهُ عنها: "من سمعَ النداءَ فلم يُجِبْ لم يُرِدْ خيرًا، ولم يُرَدْ
به خيرٌ" الصحابيُّ الذي قال: "يا رسول الله، إني شاسعُ الدَّارِ عن
المسجدِ، وليس لي قائدٌ يُلائِمُني، والمدينةُ كثيرةُ السباعِ والهوامِ،
أَلِيَ رُخصةٌ؟، قال: "أتسمعُ النداءَ؟"،
قال: نعم قال: "أجِبْهُ، لا أجدُ لك رخصةً".
أيُّها المسلمُ، إن هذا خُلُقُ أهلِ الإسلامِ وسيرةُ
المسلمينَ، يُعَظِّمون الصلواتِ الخمسَ ويُعظمونَ شأنَ المسجدِ ويُعْلُون
قَدْرَه، ويَحمَدون اللهَ أن وفَّقهم وأعانهم لأداءِ هذهِ الجماعةِ،
ففيها زكاةُ القلبِ، وطهارةُ النفسِ، في اجتماعِ الحيِّ، التقاءُ
الأجسادِ، التقاءُ الأبدانِ، وتعارفُ القلوبِ، وتصافُحُ الأيدِي، وحَطُّ
السيِّئاتِ والخطايَا.
أيُّها المسلمُ، إن من يُزَهِدُّك في هذا العملِ
الخّيِّرِ، إن من يَدعوك إلى تركِ الجماعةِ، إن من يقولُ لك صلاتُك في بيتك
كصلاتِك في المسجدِ، إنه يُريدُ بك الشرَّ، وإنه لا يُريدُ بك خيرًا، إنه
يُريدُ قطعَ صِلَتك بالمسجدِ، إنه يُريدُ قطعَ صِلَتك بالصلواتِ، إنه
يُريدُ منك أن يَخّفَّ ميزانُ المسجدِ في نفسك، وتَخِفَّ الجماعةُ في نفسك،
لعلك قد قرأتَ ما قِيلَ، وما كُتِبَ وما نُشِرَ، وما سَطَّرَته بعضُ
الأقلامِ الجائرةِ، والآراءِ الضَّالَّة مِمَّن (ضَلَّ
سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف:104]، لعلك قد قرأتَ ما قِيلَ وسمعتَ ما قِيلَ، وما نُشِرَ، وما
بُثَّ في بعضِ القنواتِ الفضائيةِ، وما حولَ ذلك، لعلَّك سمعتَ هذا كُلَّه،
لكن أقولُ: اعلمْ أنَّ كُلَّ هذا خطأٌ وظلالٌ، واعلمْ أن هذا غِشٌّ
للإسلامِ والمسلمينَ، واعلمْ أن هؤلاءِ دعاةُ الضَّلالِ، دعاةٌ على أبوابِ
جهنَّمَ، من أطاعَهم أَلْقَوْهُ فيها، إنّهم يُرِيدونَ قَطْعَ صِلَةِ
المؤمنِ بهذا المسجدِ، بهذا المسجدِ المُبارَكِ، الذي نشأ وترَبَّى على
حُبِّهِ، يَقولون له بيتُك ومسجدُك سواءٌ، ولا فرقَ بين الأمرينِ، يقولونَ
لك صَلِّ وحدَكَ، أو صَلِّ مع الجماعةِ، الكُلُّ سواءٌ، ويأبى اللهُ
ورسولُه والمؤمنون ذلك، فمحمدٌ صلى الله عليه وسلم يُخبِرُنا عن فضلِ صلاةِ
الجماعة، وما يترتَّبُ عليها من الفضلِ العظيمِ، ويُخبِرُنا بعِقابِ من
تَخَلَّفَ عنها، أَفَيُساوِي المسلمُ بين صلاتِه في بيتِه وصلاتِه في
مسجدٍ؟ إنها لفريةٌ وكذبةٌ على اللهِ ورسوله، ولكن مَن استحوذَ عليه
الشيطانُ؛ فصدَّهُ عن سبيل الله (وَمَنْ يُرِدْ
اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً) [المائدة:41].
أخي المسلمُ، لعلك سمعتَ وقرأتَ؛ فاتَقِّ اللهَ،
واعلمْ أنّ كُلَّ ما قيلَ فوالله إنه لخطأٌ منافٍ للشرعِ مخالفٌ لسنةِ
محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم، إعلانٌ للضلالِ والأخطاءِ، فإذا عطَّلَ
المسلمون مساجدَهم، وعطَّلوا الجماعةَ؛ فأين الإيمانُ وأين الإسلامُ؟ إن
محمدًا صلى الله عليه وسلم حريصٌ على المسجدِ، وأداءِ الصلاةِ فيه، فهل كان
محمدٌ صلى اللهُ عليه وسلم يجهلُ هذا الأمرَ؟ هل كان محمدٌ يُسوِّي بين
البيتِ وبين المسجدِ؟ حاشا وكلَّا، إنها فريةٌ على الإسلام، وكِذبةٌ
وضلالةٌ، وأخطاءٌ عظيمةٌ فإيّاكَ أن يُوسوسَ لك المُوسوِسون ويُضِلُّك عن
الطريقِ المستقيمِ الضالون، الزمْ الطريقَ المستقيمَ واحمَدِ اللهَ أن كنتَ
سميعًا بصيرًا قادرًا، تَؤُمُّ المسجدَ، وتَحوزُ هذا الفضلَ العظيمَ،
وتَرجو من ربِّكَ الثوابَ العظيمَ، في الحديثِ يقول صلى اللهُ عليه وسلم: "ما مِن مسلمٍ يُصلي للهِ أربعينَ يومًا في جماعةٍ،
يُدرِكُ التكبيرةَ الأولى، إلا كَتَبَ اللهُ له بِراءتين: براءةً من
النفاقِ، وبراءةً من النار"، هذه خَصلةُ من حافظَ على المسجد،
ولازمَه واستمَرَّ عليه؛ فَثِقْ بما أنتَ عليه من الخيرِ، ولا يَقعدُنَّ بك
هؤلاءِ الغاوونِ الضالُّونَ، ولا يَصُدُنَّك عن سبيلِ الحقِّ دعاةُ
الفسادِ والضلالِ، الذين عَمَت بصائرُهم وانصرَفت قلوبُهم إلى الشرِّ،
واستحوذَ عليهم الشيطانُ؛ فكانوا دعاةً للضّلال والأخطاء، إنما نؤمنُ
حقًًّا بأن المساجدَ بيوتُ اللهِ أُقيمتْ لأداءِ الفرائضِ، ونعلمُ حقًًّا
أن اجتماعَنا فيها نعمةٌ من اللهِ علينا وخيرٌ من الله علينا، فإيّاك
وإيّاك أن تُزحلِقك عن المسجدِ والجماعةِ دعوةٌ ضالةٌ، ورأيٌ باطلٌ وفريةٌ
على الإسلام، أسأل الله أن يحفظنا وإياكم بالإسلام وأن يثبتنا وإياكم على
قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ اللهَ
العظيمَ الجليلَ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كُلِّ ذنب؛ فاستغفروه،
وتوبوا إليه، إنّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله، حمدًا كثيرًا، طيِّبًا مباركًا فيه، كما
يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له،
وأشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبِه،
وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ، أما بعدُ:
فيا أيُّها الناسُ، اتَّقوا اللهَ تعالى حقَّ
التقوى.
عبادَ الله، شريعةُ الإسلامِ جاءت بما يُصلح دينَ
العبدِ ودنياهُ، وبما يَحفَظُ له حقَّه في الدنيا وفي مَعادِه، اسمعِ اللهَ
يقولُ: (يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ* فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا
فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ
كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الجمعة:]، فنهاهم عن البيع وقتَ الجمعةِ
وأباحَ لهم بعدَ الصلاةِ الاكتسابَ والاتِّجارَ، وقال جلَّ وعلا مُثنِيًا
على عباده المؤمنين: (فِي
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ
لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ
وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ
الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ
وَالأَبْصَارُ* لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا
وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ
حِسَابٍ) [النور:]، (فِي بُيُوتٍ): هي المساجدُ أمرَ اللهُ بإقامتها، (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ): أوَّلُ النَّهار، وأوَّلُ الليل، (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ) إنهم يَبيعون ويَتَّجِرون،
ويَأخذون ويُعطون، ولكن هذه الدنيا لا تصرفهم عن حقِّ اللهِ ولا تَحول
بينهم وبين أداءِ الفرائضِ؛ فإذا سمعوا حيَّا على الصلاةِ، حيَّا على
الفلاحِ، أقبَلوا على الطّاعةِ، وغَطَّوْا مَبيعاتِهم، وانصرفوا عنها.
مَرَّ عبدُ الله بنُ عمرَ بالسوق، وقد غَطَّى أهلُ
السوقِ مَبيعاتِهم؛ فقال: "ما ذاك، قالوا: ذهبوا إلى المسجد، قال: فيهم
و-الله- الآيةُ (رِجَالٌ لا
تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ
الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ
الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) إن اجتماعَ
المسلمين في المساجدِ، فيه يَتَعلَّمُ الجاهلُ من العالمِ، ويقتدي الجاهلُ
بالعالِمِ، ويَستفيدُ بعضُنا من بعضٍ؛ فنُعَلِّمُ جاهِلَنا ونُذَّكِرُ
ناسينا، إنها الموقفُ الذي يُمَثِّلُ وِحدةَ المسلمين فيما بينهم، وأن
اللهَ جلَّ وعلا جعلَ الطاعةَ سببًا للعِزِّ والكرامة؛ فيقفُ في الصفِّ بين
يديِ اللهِ، المسلمون على اختلاف منازلهم الدنيوية، ففيهم الغنيُّ
والفقيرُ، والرئيسُ والمرؤوسُ، وفيهم العالِمُ والجاهِلُ، كُلُّهم في صفٍّ
واحدٍ مُتقارِبين مُتحاذِين بالمَناكبِ والعُقُب، واقِفين بين يديْ ربِّهم
ليَظهرَ حقيقةُ الأُخُوَّةِ الإيمانيةِ والرابطةُ الإسلاميَّةِ
الحَقَّةِ.
إن إقامةَ الجماعةِ تُذَكِّرُ المُسلمَ بأمرِ دينِه،
إن أناسًا من الوافِدِين من البُلدانِ الإسلاميةِ في هذا البلدِ
المُبارَكِ لمّا رَأَوْا تلكم المساجدَ عامرةَ، وتلك المساجد عامرةً،
مُشَرَّعةً أوقاتَ الصلواتِ، أَمُّوها فاستفادوا خيرًا، وتَعَلَّموا
فاستفادُوا خيرًا، وحصَّلوا على الخيرِ، كُلُّ ذلك بفضلِ إقامةِ الصلواتِ
في المساجدِ، فالمُزَهِدُّون فيها، والدَّاعون إلى هُجرانِها والدَّاعون
إلى الإعراضِ عنها، إنهم - وربِّي- على طريقٍ سيِّئٍ ومنهجٍ ضالٍّ، نسألُ
اللهَ لنا ولهم الهدايةَ إلى الطريقِ المستقيمِ، فيا أخي المسلمُ، احمدِ
اللهَ ما دُمتَ صحيحاً قادراً تَؤُمُّ المسجدَ كُلَّ يومٍ خمسَ مرَّاتٍ،
اِعلمْ أنّها نعمةٌ من أَجَلِّ نِعَمِ اللهِ عليك، فاشكرِ اللهَ عليها،
وازددْ تَمَسُّكًا بدِينِك، وأَعرِضْ عمّا يقولُه الجاهلون (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا
يُوقِنُونَ) [:]، أسألُ اللهَ أن يَتَقَبَّلَ
منّا ومنكم سعيَنا، وأن يجعلَ حياتَنا حياةَ خيرٍ، نَتَزَوَّدُ فيها
عملًا صالحًا نَلقَى اللهَ به.
واعلموارحِمكم اللهُ أنّ
أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم،
وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعةِ المسلمين،
فإنّ يدَ اللهِ على الجماعةِ؛ ومن شذَّ شذَّ في النار،وصَلُّوا رحِمكم اللهُ على عبدِ اللهِ ورسوله محمدٍ، كما أمركم
بذلك ربُّكم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ
وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)
[الأحزاب:٥٦].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ
اللَّهُمَّ عن خلفائِه الراشدين الأئمة المهديين، أبي بكر وعمرَ وعثمانَ
وعليٍّ، وعن سائر أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التابعين، وتابعيهم بإحسانٍ
إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك، وإحسانِكَ، يا أرحمَ
الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ
والمشركين، ودمِّرْ أعداءَ الدين، وانصُر عبادَك المُوَحِّدين، واجعلِ
اللَّهُمَّ هذا البلدَ آمنًا مُطمئِنًا، وسائرَ بلاد المسلمين، يا ربَّ
العالمين ، اللَّهمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلحْ أئمتََََّنا وولاةَََ
أمرِنا، اللهمَّ وفِّقْهُم لما فيه صلاحُ الإسلامِ والمسلمين، اللَّهمّ
وفِّقْ إمامَنا إمامَ المسلمينَ، عبدَ الله بنَ عبدِ العزيزِ، اللَّهمَّ
وفقه لما يُرضيك، اللهمَّ أَرِهِ الحقَّ حقًّا، وارزُقهُ اتِّباعَه وأَرِهِ
الباطلَ باطلًا، وارزُقه اجتنابَه، اللّهمَّ دُلَّهُ على كُلِّ عملٍ
تحبُّه وترضاه، اللهمَّ اجعلْهُ بَرَكَةً على نفسِه ودينِه وأمَّتِه؛ إنك
على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، اللّهُمَّ شُدَّ عَضُدَهُ بوليِّ عهدِه سلطانَ بنِِ
عبدِ العزيزِ، ووفقْهُ في الصوابِ فيما يقولُ ويعملُ وأَمِدَّهُ بالصحةِ
والسلامةِ والعافيةِ، ووفِّقْ النائبَ الثانيَ وأَعِنْهُ على مسؤوليتِه،
واجعلِ الجميعَ قادةَ خيرٍ وأئمةَ هدًى؛ إنك على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ
سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ
آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)
[الأحزاب: ٥٦] (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23].
اللّهمّ أنت اللهُ، لا إله إلا أنت، أنتَ الغنيُّ
ونحنُ الفقراءُ، أنزِلْ علينا الغيثَ، واجعلْ ما أنزلتَه قوةً لنا على
طاعتك، وبلاغًا إلى حين، اللّهمّ أنت اللهُ، لا إله إلا أنت، أنتَ الغنيُّ
ونحنُ الفقراءُ، أنزِلْ علينا الغيثَ، واجعلْ ما أنزلتَه قوةً لنا على
طاعتك، وبلاغًا إلى حين، اللَّهمَّ أَغِثْنَا، اللهم أَغِثْنا، اللهم
أغثتنا، اللهم سُقْيَا رحمةٍ، لا سُقيا بلاءٍ، ولا هدمٍ، ولا غرَقٍ،ربَّنا آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذابَ
النار.
عبادَ الله، (إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى
عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ) [النحل:90]، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُرْكم، واشكروه على عمومِ
نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبرُ، والله يعلمُ ما تصنعون.
استمـاع – حفـظ[/center]
[/center]